18 ديسمبر، 2024 11:29 م

التغريد خارج السرب

التغريد خارج السرب

المغردون خارج السرب ليسوا بقليلين ، ومنهم بعض الشعراء ، وحسبنا في هذه المقالة أنْ نذكر شيئاً من تلك التغريدات .
(1)
قال أحد الشعراء :
أرى وَلَدَ الفتى ضرراً عليهِ
                    لقد سَعُد الذي أضحى عقيما
فإمّا أنْ يُربيه عدّواً
                     وإمّا أنْ يُخلّفه يتيما
وإمّا أنْ يوافيه حِمامٌ
                    فيبقى حزنُه أبداً مقيما
لسنا مع الشاعر الذي يرى السعادة في العقم ..!!
ان الدنيا لاتحلو الاّ بالأولاد، وحسبك ماجاء به الكتاب العزيز حيث قال :
(المال والبنون زينةُ الحياة الدنيا )
ولقد قيل :
(الولد البار ريحانةُ أبيه في حياتِهِ ، وخَلَفٌ له بعد وفاتِه )
وصاحب الأبيات افترض ان الولد إمّا أنَّ  يكون عدّوا، وإمّا أنْ يتركه أبوه يتيما، وإما أن يوافيه الموت فيبقى حزينا عليه …!!!
اذا كان من الصحيح القول :
بانّ بعض الأولاد يرهقون آبائهم، بأضرارهم، وبسوء تصرفاتهم ، فمن الصحيح أيضاً ان يقال :
إنّ بعضهم يرفعون رؤوس آبائهم بصلاحهم واستقامتهم ونبوغهم وابداعاتهم …
وقد جاء في الأحاديث الشريفة :
ان المرء اذا مات انقطع عملُه الاّ من ثلاث :
صدقة جارية ،
وورقة علم يُنتفع بها ،
وولد صالح يدعو له ….
فالوالد الصالح ذخيرة كبرى لأبيه .
ثم ان الانسان يمتد بأولاده فلا ينقطع أثره ، وهذا ما يتمناه عامّة الآباء .
انهم اليوم يجهدون أنفسهم للحصول على (الابن الأنبوبي) اذا ما لم تكن الفرص متاحة لولادة الابن بشكل طبيعيّ .
ولم يذكر الشاعر ضمن التشقيقاتالتي ذكرها الولد الصالح ، وهو خلل واضح ….
قال الاحنف بن قيس :
” اولادنا ثمار قلوبنا ، وعماد ظهورنا ، ونحن لهم أرض ذليلة ، وسماء ظليلة ، وبهم نصُول عند كل جليلة “
وكاتب السطور حين لم يحظ بالأولاد قال :
ليس لي من وَلَدٍ يخلفُني
                    وبه أمتّدُ مِن بعد الوفاةْ
كم تمنيتُ بأنْ أسمَعه
                   ضارعاً يذكرني عند الصلاةْ
وهكذا يتجلّى ان الشاعر قد غرّد خارج السرب .
(2)
وقال آخر :
إني حُسِدتُ فزاد الله في حسدي
لاعاش من عاش يوماً غير محسودِ
لو لم يكن الحسد شراً لما استعذنا بالله منه
قال تعالى ( ومن شر حاسدٍ اذا حسد)
فالدعاء بزيادة الحسد ، ماهو الاّ دعاء بدوام النعم التي من أجلها يتم الحسد .
ان الشاعر نظر الى وجود النعم، وغفل عن شرور الحسد ،
فسجّل نفسه مع المغردين خارج السرب .
وقديما قيل :
{ الحاسِدُ اذا راى نعمةً بهت ، واذا راى عثرة شمت }
وقال ثالث :
وإياك إياك المزاح فانّه
                    يُجرّي عليك الطفل والدنِسَالنَذْلا
ويُذهب ماءَ الوجه بعد احتقانِهِ
                        ويُورثُ بعد العزِّ صاحبه الذُّلا
ان المزاح ليس مرفوضاً بشكل مطلق ، ولقد جاء في سيرة الرسول الأعظم (ص) أنه :
كان يمزح ولا يقول الاّ حقّاً
والمزاح المرفوض : هو المزاحُ الماجن البذئ ، الذي قد يورث العداوة وقد يكون الردّ عليه قاسياً عنيفاً …
انّ المزاح المؤطر باطار الآداب ، يجعل صاحبه ينفذ الى القلوب وترتاح اليه النفوس ، وتلذ بحديثه الأسماع .
وأين هذا كلّه من التحذير الذي أطلقه الشاعر على عموم المزاح ؟!
ولقد قيل في هذا السياق :
أَفِذْ طبعك المكدود بالجّدِ راحةً
                     وعَلّلْه أحيانا بشيءٍ من المَزْحِ
ولكنْ اذا اعطيتَه المَزْحَ فَليَكُنْ
                    بمقدارِ ما تُعطي الطعامَ مِن المِلحِ
وعن ابن عباس أنه قال :
المزاح بما يحسن مباح ،
ونُقل عن الخليل بن احمد الفراهيدي قولُه :
( الناس في سجنٍ مالم يتمازحوا )
-4-
وقال الجرجاني :
ما تطعمتُ لذّة العيشِ حتى
                      صِرْتُ للبيت والكتاب جليسا
ليس عندي شيءٌ ألذّ من العلم
                     فَلَمْ أَبْتَغِ سِواهُ أنيسا

انما الذّلُ في مخالطة الناس
                     فَدَعْمُهْم وعِشْ عزيزاً رئيساً
مخالطةُ الناس ومعاشرتهم ليست ذُلاً ، وانما هي الأصل الاجتماعي الذي لامحيد عنه ، وانما الذّل في الانعزال الكامل عنهم واعتزالهم لشخص معين بشكل كامل …
والسؤال الآن :
كيف يكون الانسان رئيساً وهو يبتعد عن الناس ؟
وعلى مَنْ تكون الرئاسة ؟!
انها رئاسة على الجدران لا على بني الانسان ….