23 ديسمبر، 2024 2:00 ص

التعليم والتعليم المهنى

التعليم والتعليم المهنى

التعليم المهنى- 2
مهما تكن خطط التنميه مدروسه سابقا وقد تم وضعها على احصائيات دقيقه واهداف معقوله, فان نجاحها وفشلها, حتى اذا توفرت بقية الشروط المعروفه, يرتبط الى حد كبير بحجم ونوعية الايدى العامله المدربه والتى تتمتع بخبرات وتجربة كبيره, من ناحية اخرى على اخلاقيات العمل التى تضمن وتؤكد على السلوك المهنى والالتزام بالمواعيد والانتاج والانتاجيه. هؤلاء هم الذين ينقلوا التصاميم والمخططات التى قامت عليها الدراسه المتخصصه والمعرفه النظريه الى الواقع الفعلى, وبذلك نحصل على المنتوج بشكل عماره, ماكنه, قناة للبزل اواثاث للبيت والمكتب….الخ.ان هؤلاء العمال المدربين لا يقلوا اهميه عن المهندسين والمصممين, حتى ان هؤلاء, لكى يبدعوا فانهم بحاجة ماسه الى العمال المدربين والفنيين.
فى هذا المقال سوف يتم التركيز على العمال الفنيين والكوادر الوسيطة لانهم يشكلون اهمية اجتماعية كبيرة جد لان نسبة مشاركتهم فى العملية الخدمية والانتاجية كبيرة جدا, فى حين نسبة الاكاديميون, فى المجتمعات الصناعية 5-10% من التلاميذ الذين يلتحقون بالتعليم الاولى ولذك يجب على المسؤليين ان يوفروا البنى التحتية لضمات تكوين وتطوير هذا القطاع الذى له فعل كبير فى تنمية وتطوير المجتمع.
قبل بضعة اسابيع من نهاية ولاية الرئيس الامريكى باراك اوباما توجه الى اصحاب العمل فى مختلف مجالات تخصصهم, وكذلك الى المؤسسات الحكوميه, التربويه, الخدميه والانتاجيه ان يبدو اهتماما اكبر بالتعليم المهنى, هذا التوجه يصدر عن رئيس دولة عظمى, ذات اكبر اقتصاد فى العالم ويتميز انتاجها واقتصادها بالتنوع الكبير والانتاجية العالية حيث يتوفر فيها اعداد كبيرة من العمال الفنيين والكوادر الوسيطة. ان الرئيس اوباما يرصد حالة المئات بل الالاف العديده من العمال العاطلين عن العمل والذين لا يجدوا فرص عمل لانهم لم يحصلوا على مؤهل عملى, احد الشهادات (دبلوم) التى توصفه كعامل فنى متدرب, فى هذه الحاله فانه يستطيع ان يجد فرصة عمل وباجور تحددها لوائح الاجور المتفق عليها بين اصحاب العمل والنقابات, خلافا لذلك فلا يوجد امامه سوى الاعمال البسيطه التى لا تحتاج الى مؤهل عملى كالتنظيف او حمل الاثقال او ما شابه ذلك وباجور ضيئله جدا لا تتناسب مع تكاليف المعيشه وبعقود مؤقتة, هذا بالاضافه الى حياة معذبه ومستقبل اشد وطأة من الحاضر. ان السؤال يفرض نفسه علينا, نحن المعذبون فى الارض, سكان العالم النامى الذين, بحكم نوعيه النخب الحاكمة ونوعية ثقافتهم المتخلفة قد جعلوا منا مستهلكين, معطلين عن العمل الانتاجى ويستوردوا حتى ا الغذاء: كيف يجب ان يكون اهتمامنا بالتدريب والتعليم المهنى؟ لاشك بان اهتمامنا به يجب ان يكون بالمقارنه اكثر من اهتمام امريكا, خاصة ونحن نخسر منذ زمن القوى العامله المدربه التى نشاة وتكونت فى حقبات زمنيه سابقه, اما لا نها قد توجهت الى مجالات اخرى, او انها قد هاجرت الى بلدان توعد بفرص عمل افضل, او انها لا تجد فرص عمل لها.
يستمر الرئيس اوباما فى حديثه ويوصى بالاخذ بالتجربه والمنهج الالماني فى اعداد الكوادر المهنيه ونظام التعليم المهنى. وعليه لابد من الوقوف على سمات ومميزات هذا النظام والتعرف على بناؤه الهيكلى.
يؤكد ويفتخر الالمان بان قدراتهم العلميه والانتاجيه تكمن فى العقول والايدى العامله المدربه, انهما يمثلان ثروتهم القوميه المستمره التى لا تنضب. هذا يعنى اننا بصدد نظام تعليم لاعداد الكوادر العلميه المتقدمه, ونظام اخر لااعداد الكوادر العماليه المدربه, وهذان النظامين يكملان بعضهم الاخر. ولكننا, الان, بصدد التعليم المهنى واعداد العمال الفنيين.
يقوم نظام التعليم المهنى فى المانيا: ان التلاميذ, بنين وبنات, حينما يبلغوا سن 13 ـ 14 واكملوا مايعادل شهادة “المتوسطه” فأن حوالى 70 % من التلاميذ يقدمون طلباتهم الى المصانع والمعامل والمؤسسات الخدميه, الحكوميه والقطاع الخاص, للحصول على فرصة للتعليم, تعلم مهنة, اما نسبة الـ 30 % الباقيه فهم يستمروا فى التعليم وصولا الى الاعداديه, فالجامعه, ولابد من الاشاره الى ان نسبة الطلبه الذين يدخلون الجامعات تقدر 4 ـ 8% . يرسل التلميذ ملفه الى المؤسسه, المصنع ويبدى رغبته فى نوع المهنه التى يريد تعلمها, ويتم مقابلة المتقدم للتعرف على امكانيته العقلية والعملية وسبب اختياره هذه المهنة دون اخرى, وبهذا وتستطيع لجنة المقابلة ان ترسم صوره اولية عن شخصية المتقدم وقدرتة على الفهم والمتابعة. حينما يتم قبول التلميذ يوقع عقدا مع المعمل اوالمؤسسه ويخصص له راتبا شهريا يزداد سنويا. ان القانون الالمانى يلزم المصانع والمؤسسات الخدميه التى يبلغ عدد العاملين فيها حجما معينا بتوفير قسم خاص للتعليم المهنى, وهذا الشرط ليس منحة او هدية من المعمل الى التلاميذ, وانما يقع فى صميم مصلحته, فان اغلبية التلاميذ بعد الانتهاء من فترة التدريب يبدؤن حياتهم المهنيه فى العمل فى نفس المصنع او المؤسسه, التى تدربوا بها, بهذه الطريقه يؤمن المصنع او المؤسسه على احتياجاته المستقبليه من العمال المدربين.
يتم التعليم فى القسم المخصص والذى يشرف عليه احد افضل العمال المدربين والذين حصلوا على درجة(المايستر),الاسطه, بعد اجتيازه لاختبارات نظريه وعمليه, ويساعده فى عمله احد الشباب المدربين, وهذا القسم مجهز بكل الاجهزه والمعدات التى تتعلق بنوع العمل المراد التخصص فيه. فى الفتره الاولى من التدريب يتم فيها التعلم والسيطره على الحركات والخطوات الاوليه, والتى يمكن ان يعاد التدريب عليها عشرات المرات الى ان يتم اتقانها وتصبح جزءا من العامل نفسه, والتى يمكن ان تستمر هذه المرحله 3 ـ 6 اشهر, انهاالتدريب على استخدام الادوات الاولية التى يعمل بها فى كل المجالات, وينتقل التلميذ وفق نظام مدروس الى بقية الاقسام حيت تتصاعد درجة الصعوبات وتتعقد الواجبات, وتنموا المهارات والمعرفه العمليه بنفس الوقت. يستمر التدريب لمدة ثلاثه سنوات. يبدأ الدوام فى الساعه السابعه صباحا وينتهى العمل فى الساعه الرابعه عصرا, حيث تتخللها 15 ـ 30 دقيقه لتناول الفطور وساعه تقريبا لفترة الغذاء وتشكل نسبة التعليم العملى 80 %.ا اى اربعة ايام و20 % دروس نظريه, يوم واحد, يذهب الى المدرسه المهنيه, جيث تقدم دروس نظرية فى مختلف المجالات. ان السمه المميزه لنظام التعليم المهنى فى المانيا هو التدريب العملى الذى يتم فى موقع العمل. من الناحيه الاجتماعيه والاخلاقيه فان المصنع او موقع العمل, والاشخاص الذين يشرفون على تدريبه يتولون تعريفه باخلاقيات العمل واهمية النظام والالتزام بالمواعيد وضرورة العمل الجماعى, هذا يعنى ان عملية الاعداد المهنى يرافقها طيلة سنين التجريب عمليه فى غاية الاهميه تمثل اعداد انسانا ومواطنا صالحا فى المجتمع, انها عملية تنشئته الاجتماعيه وتكوين شخصيته.
فى نهاية الثلاث سنوات يتقدم المتدرب للامتحان الذى تقيمه وتشرف عليه والذى يجرى مركزيا لجميع المتقدمين ومن مختلف المصانع والمؤسسات من قبل “غرفة الصناعه والتجاره” فى المدينه. ان المتدرب الذى يجتاز الامتحان يمنح شهادة دبلوم عامل فنى, وهذه الشهاده معترف بها فى كل مكان فى المانيا من قبل القطاع الخاص ومؤسسات الحكومه على حد سواء.
ان منهجية واسلوب التعليم المهنى فى المانيا يحضى باهتمام كبير من قبل جميع المعنيين وتبذل الجهود فى سبيل الحفاظ على مستواه وتطويره ايضا. ان هذا النظام يشكل احد اهم الركائز الاساسيه التى تقوم عليها نجاح الصناعه وقطاع الخدمات, وهو بذلك رافدا اساسيا للرفاه الاقتصادى الذى تحقق فى المانيا طيلة العقود الماضيه. انه فعلا رافدا كبيرا للثروة القوميه الذى لا ينضب.
التعليم المهنى التقليدى فى العراق
لقد طور الحرفيون القدامى فى العراق وفى العديد من البلدان فى مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية الميكانيكية وقبل ان تعى الدولة واجباتها فى توفيرامكانيات التعليم المهنى- اعداد العمال الفنيين المدربين – الكوادر الوسيطة نظاما للتعليم المهنى لا يقل كفاءة وعقلانيه عن النظام الالمانى : يقوم هذا النظام اولا على التدريب فى مواقع العمل, هذا يعنى ان المتدرب على تماس مستمر مع مواد العمل والادوات والالات والمنتوجات التى يتم العمل بها.
حينما كانت وظائف المدينه متداخله بعضها مع البعض الاخر دون توزعها على اماكن متفرقه حسب الوظائف والنشاطات التى يحتاجها السكان, مجتمعه وقريبه الواحده من الاخرى, كانت تنتشر فى احياء عديده من المدينه عدد كبير من الورش الانتاجيه ومختلف انواع المحلات التجاريه, فى داخل السوق وفى اطرافه وحواليه. كان السكان يقدموا اولادهم الى اصحاب هذه الورش, الذين لهم بهم معرفه ليتعلموا مهنة يستطيعوا ان يعيشوا منها وبها. يدخل الورش غالبا ابناء اصحاب الورش, الذين يتولون لاحقا مسؤلية الاباء, ومما لا شك فيه, فان الاباء يكونون حريصين جدا على تدريب ابنائهم تدريبا جيدا وتعليمهم خفايا واسرار الحرفه والمهنه. الا ان الورشه والاسطوت لا يقتصرون على قبول ابنائهم او اقاربهم وانما يقبلون الاخرين ايضا
يدخل الصبى الى الورشه ويكلف بانجاز ابسط الاعمال, انها بداية لتربية الطفل وتعليمه اشكال ومستويات من التربية, طاعة للاوامر والاحترام واحترام العمل, وما يقوم به يلقى من الاسطه التعليمات, وياخذ التدريب مساراته صعودا الى التكليف بمهمات اكثر صعوبه وتحتاج الى التفكير والعنايه, والمتدرب لا ينتقل الى مهمه جديده قبل ان يكون قد تعلم واجاد انجاز العمليه السابقه تماما, وهذه الامور قد تأخذ وقتا طويلا, الا ان ذلك يتعلق بنفس الوقت بدرجه استعداد المتدرب للاستجابه وقوة الدوافع التى قد تبلورت لديه والموهبة الشخصية لخوض تجارب جديده وتقصير فتره التدريب ويتحول تدريجيا الى عامل فنى متدرب. لا يوجد برنامج محدود وموثق يقوم العمل به وانما يمثل بتجربة عامة تأخذ مسارات مختلفة احيانا وفقا لاصحاب الورش, ثقافتهم وتجاربهم ولكنها تتمسك بالاصول المتعارف عليها, ويمكن انتستمر مرحلة اجتياز مراحل التدريب الى 3- 6 سنة.
كان هذا النظام للتدريب المهنى فعالا جدا, فقد تطورت اجيالا من الحرفيين العراقيين الذين بلغوا درجه عاليه من المهاره والحرفيه والتسامى مع العمل, ولازالت شواهد شامخه من منجزات اعمالهم, الابنيه القديمه من جوامع ومدارس وابنية عامه تزينها الريازه العربيه الاسلاميه بالاضافه الى الاعمال الخشبيه الرائعه, وقطاع الخياطة والنسيج, وكذلك المحلات التجاريه التى انتجت ايضا الحرفيون الماهرون الذين استطاعوا بسهوله التفاعل مع متطلبات السوق والتكييف للمتغيرات التى تحصل فيه.
مع دخول التكنولوجيا والتغير الذى حصل فى اساليب العمل والانتاج وانحسار المنتوج اليدوى التقليدى, بدات فتره من التكيف للتغيرات التى حصلت. لقد استمرت الورش الانتاجيه تعمل على ما قد اعتادت عليه وكذلك فيما يتعلق بالتدريب المهنى, الا ان دخول مجالات العمل الجديده لم يتوقف واخذت مختلف الورش تظهر فى قطاع الميكانيك والكهرباء وتصليح السيارات…الخ الا ان اسلوب التدريب المهنى قد استمر ايضا على اطاره العائلى التقليدى, ولكنه لم يجد الاعداد الكافيه من المتدربين وذلك للتوجه العام للاباء والامهات لارسال ابنائهم الى المدارس لنيل قسطا اوفر من التعليم, خاصة ان العمل الوظيفى الى منتصف الخمسينات كان يوفر دخل افضل وعناء اقل.. لم يعد هذا الموديل يشكل التوجه الاساسى فى التدريب المهنى, خاصة بعدما اخذت الدوله تقدم بدائل:التدريب المهنى فى المدارس والاعداديات المهنية, بالاضافى الى المعاهد الفنية وكليات التعليم التقنى. مما يؤسف له فان هذه المدراس والمعاهد التى تنتشر فى المحافظات, ومجهزة بالادوات والاجهزة العلمية ويعمل فيها اساتذة متخصصون, ولكنها لم تخرج عمال فنيين وانما موظفين وافندية غالبا مثقلين بوعى متخلف, يترفعون عن العمل اليدوى, بالاضافة خلل كبير فى الاعداد الفنى, والتى لم تجد طلبا عليها فى سوق العمل, ربما يمكن ان تجد لها مكانا فى منشأت الدولة.
اننا نشكو من عجز كبير حجما ونوعا الى الايدى العامله المدربه والتى لا يوجد لها تعويض فى المستقبل القريب, هذا لا يرجع فقط الى التراجع فى المستوى العلمى والتسيب الرهيب فى الاداء الحاصل فى جهاز ونظام التعليم فى مختلف مستوياته, والذى بالضرورة قد انعكس وينعكس على المعاهد والمدارس المهنية. من القضايا المهمة التى يجب على الدولة ومؤسسات المجتمع المدنى الادراك والمعرفة باهمية العمل اليدوى وتعميم ثقافة العمل الجماعى, ان العامل الفنى المدرب لايقل اهمية ومكانة عن المهندس والطبيب, وهو يوفر حياة كريمة مستقرة ايضا, فى مجتمع متنور متحضر تقدر قيمة واهمية الفرد بنوع الخدمات التى تقدم للمجتمع بشكل عام. انها بقايا الثقافة البدوية التى تحتقر العمل اليدوى وترفض التوجه اليه, وهذا الوعى يرتبط اصلا بالتنقل المستمر الذى لا يفرز الحاجة الى قيام هياكل مادية متنوعة, للاستعمال اليومى والدائم, تعمل على تيسير الحياة اليومية وتفتح المجال لتطلعات مستقبلية. ان المؤسسات الصناعية فى الدولة وكذلك فى القطاع الخاص يجب ان تفتح اقسام للتدريب والتعليم المهنى ويعمل به كقانون ومكون هيكلى للمؤسسات, هذا بالاضاف الى التعاقد مع الاسطوات المهنيين الذين يقدموا الخبرة الفنية وطريقة العمل والتفاعل مع الادوات والالات, وليس اخيرا دراسة التجارب للدول الصناعية والطرق الى استطاعت فيها توفير الايدى العاملة المدربة.