اليوم وبسقوط دولة الخرافة، لابد من تحويل جهودنا المشتركة، ان صدقت، الى انتصار لحدث تاريخي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، ليس فقط على الصعيد السياسي وإنما على صعيد اهم ألا وهو التعليم كونه المحرك الأساسي في تطور البلاد وبناء الحضارة الذي لا يتم إلا ببناء الفرد وتثقيفه. خاصة وأن ما أصاب البلد من تشتت وتشرذم وصراعات، وعلى رأسها الإرهاب، ناتج عن خطأ فظيع في التربية والتعليم.
لذلك، فاليوم، اكثر من أي يوم مضى، يتأثر العراق بما خلفه ارهاب داعش من خراب وازمات كونه اصبح ساحة من ساحات الصراع السياسي الداخلي والإقليمي والدولي، فلا خروج من مأزقنا الوطني دون ربط بناء الوطن ببناء الانسان كمبدأ أعلى يستحقه العراقيون، وإلا تدهورنا اكثر الى حيث لا نريد. فنحن هنا نواجه حلقة مفرغة، التعليم الخاطئ ينتج الإرهاب، والإرهاب ينتج التعليم الخاطئ. وعليه لا خلاص من الازمات دون تربية الفرد بروح التسامح والمحبة، ولا حرية دون التعليم الصحيح، فهما في أي مجتمع يجب ان يكونا متوازيان.. ان اختل احدهما يختل توازن المجتمع، وهذا ما حصل في الماضي في عراقنا فصدق قول جون كندي “حرية بلا تعليم تجعل المجتمع في خطر دائم.. وتعليم بلا حرية لن يكون له فائدة”.
من نافلة القول: إن الافتقار إلى تربية وتعليم تتناسب مع روح العصر والابتعاد عن الإطار المرجعي في العلوم والثقافة الإنسانية وعدم الاهتمام بالمنجزات الجديدة التي تضع المتعلم في قلب حركة الإبداع والفكر العالميين، وكل ما يؤسس لأفكار التقدم وحضور العلم وإشاعة العقلانية والتفكير الحر والنقدية والتشجيع على التجريب، جعل هذا كله من العراقي فردا يائسا محبطا يتطلع الى الهرب الى بلاد الغرب، فلا عجب أن تفشت ظواهر خطيرة كالعنف والفردية والأنانية المفرطة، والفساد الإداري والمالي، وإهمال قيم الانسان المتحضر، والأخلاق الإنسانية، والسلوك السوي للأفراد والجماعات، ولم يعد ما يهم في المجتمع إلا امتلاك الفرد من سلطة ومال. اليوم، نحتاج الى الجرأة على الوقوف في وجه الخطأ، الذي نعتقد انه حان وقت تصحيحه بعد كل هذا الخراب، في وقت تم القضاء فيه على داعش كتنظيم، إلا إن أيديولوجية داعش باقية وتبقى تعشش في رؤوس شريحة واسعة من الناس، وهذه تحتاج إلى حملة تثقيفية واسعة ودائمة، لإنقاذ التعليم، وتحقيق التقدم واللحاق بالدول المتطورة التي سبقتنا في هذا المضمار، مؤكدين فيه على الأخوة الإنسانية، و وحدة العقل الإنساني العالمي، فبدونه يصبح الرصيد الفكري المتاح لتجاوز الأزمات محدودا للغاية واحتماليات كبيرة لنشوء حركات وقوى متطرّفة قد تكون اخطر من داعش.
مرحلة ما بعد داعش والمناهج الدراسية
ما يؤكده كثير من التربويين والسياسيين، وقادة المجتمع، ورجال الدين، هو وجود أزمة في المعارف والقيم والاخلاق المتعلقة بالسلوك الانساني، وبعدم قدرة المناهج الدراسية على تنمية شخصية العراقي كفرد يفتخر بالانتماء لوطنه، ولمؤسسته سواء كانت مدرسة او جامعة او دائرة حكومية او مصنع، وكعضو صالح ومنتج في مجتمع ديمقراطي حر، وكمواطن ملتزم بالقوانين.
المناهج الدراسية لها الدور الحاسم في تربية الفرد تربية صحيحة، وهدفها زرع وترسيخ الايمان بالقيم والمبادئ الانسانية، والالتزام بالثقافة الوطنية، والانفتاح على الثقافات العالمية، وان تغذي في الطالب مبدأ سيادة القانون على المواطنين وبأنه الوسيلة لتحقيق العدالة والمساواة بينهم، وأن تسعى الى تربية وتطوير المعارف والمهارات والمواقف والقيم والسلوك الانساني في الطالب، وبشكل خاص اعتزازه بوطنه وانتمائه له، واعلاء المصلحة العامة، وتوطيد روح السلام في الذات، وإدراك أهمية العلم والتكنولوجيا والثقافة والفن واللغات في تطوير الشخصية والانسجام مع العالم، خاصة وأننا نعيش في عصر العولمة حيث صارت الدنيا قرية كونية صغيرة ، نعيش في عالم نتنقل بين أرجائه بسرعة الصوت، ونتواصل بسرعة الضوء.
ولكل ما سبق، إني أرى ضرورة البدء بمراجعة شاملة للمناهج وفق منظور “مدرسة القيم”، أي الاهتمام بقيم التربية وبعدها الأخلاقي من دون اهمال النموذج التكنولوجي في التعليم السائد في الدول المتطورة. وأدعو الى التلاقح بين هذين الاتجاهين لعدة أسباب، أهمها اننا في العراق نعاني ومنذ فترة طويلة من “ازمة اخلاق” وأصبحنا نبرر معتقداتنا بطريقة واهنة ونسير على غير هدى وسط الدمار والفوضى. ومن جهة أخرى لم يعد للعلم والتكنولوجيا مكانة مهمة في مجتمعنا بالرغم من انهما كما يذكر جون لادريير “أصبحا يمثلان تحدياً لكل أنساق الثقافة، بل للإنسان ذاته من حيث هو وجود وأخلاق وجمال. وعليه، فهما يقدمان قيماً جديدة تحدد الوجود الاجتماعي والثقافي والتاريخي للإنسان”.
لذلك ستكون مهاماتنا الرئيسية في التعليم بعد داعش، التي لا يجوز ان نحيد عنها، تحقيق الاهداف التربوية كما هي مدرجة أدناه، بالرغم من اعترافنا بعدم وجود تحليل عميق حاليا نستند عليه لواقع التربية في العراق، وبعدم وجود تقييم كامل للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع العراقي، والاهداف هي:
1- تربية الطالب بثقافة المحبة والاخاء بين القوميات والاديان والطوائف ونبذ التعصب بكل اشكاله.
2- تربية الطالب بثقافة الاعتراف بالآخر وثقافة السلم وبالقيم الديمقراطية، واحترام حقوق الانسان.
3- التأكيد على مبدأ المواطنة الصالحة وحب العراق ووحدته.
4- تربية الطالب بأهمية القوانين واحترامها وبعدم مخالفتها وبحرمة ممتلكات الدولة وأموالها، وبتعريفه على حقوقه وواجباته.
5- تنمية الشخصية وحب الاستطلاع، والتفكير المستقل والناقد، وممارسة السلوك المتمدن، والعمل التعاوني بروح الفريق، وتشجيع روح المبادرة عند الطلاب، ونبذ أسلوب التعليم عن طريق التلقين والاجترار.
6- تنمية القدرات اللغوية (عربي وكردي وانكليزي)، عند الطفل وأكسابه مهارات الاتصال اللغوي الاساسية.
7- التاكيد على اهمية تدريس العلوم والرياضيات، وتنمية التفكير العلمي النقدي، والقيم المرتبطة به والتآلف مع التكنولوجيا، لاسيما الحاسوب والإنترنت كمصدر للمعلومات.
8- تدريس مواد الفلسفة، وعلم الاجتماع، وتاريخ الأديان المقارن في المرحلة الثانوية، لأن هذه العلوم في مرحلة مبكرة من حياة الإنسان من شأنها إزالة التعصب، وزرع روح التسامح مع المختلف.
وأخيرا، أمد يدي إلى جميع المواطنين المخلصين في بلادنا، سواء كانوا منظمين في أحزاب او تيارات سياسية أم مستقلين، وإلى جميع دعاة التقدم والسلام والحرية ونشر المعرفة، مهما كانت توجهاتهم الأيديولوجية وانتماءاتهم الدينية والأثنية و الاجتماعية والسياسية، وكلي أمل في أنهم سيمدون أيديهم لي خلال فترة قريبة، لنتعاون على بناء الانسان العراقي بناءً معرفيا وانسانيا واخلاقيا و وطنياً.