لعلي أتذكر جيدا”حين كنا نساق مكرهين ، نحن أجيال الحروب المجنونة وضحايا وقودها المجاني ، إلى مواقع جبهات القتال الدامية ، أيام كانت الحرب العراقية الإيرانية في أوجها ، على امتداد عقد الثمانينات من القرن المنصرم ، كيف كنت أتطلع برهبة وخشوع – عند الذهاب وحين الإياب – إلى صرح جامعة بغداد ، وهي تنتصب على ضفاف نهر دجلة (الخالد سابقا”والمهدد بالانقراض حاليا”) ، كما لو أنها كانت تتحدى نكوص وخيبة أمثالي ، ممن كانوا لا يقدّرون قيمة الدراسة الجامعية التي انقطعوا عنها لدواعي ظروفهم المعيشية ، ولا يدركون فداحة حرمانهم من الانخراط في مسلكها ، تحت طائلة الضوابط الرسمية والاشتراطات الفنية الأخرى . هذا بالإضافة إلى إنني كنت أنظر ، بعين الحسد والغيرة ، إلى أسراب الطلبة وهم يمخرون عباب الطرقات صوب الحرم الجامعي ، حيث ينشدون الولوج إلى عوالمه المفعمة بالأمل والتطلع ، ويرومون النهل من معارفه المتنوعة والاستزادة من علومه المختلفة ، حاملين بزهو مستلزمات التعليم ومتأبطين بثقة عدة الدراسة . هذا دون أن يخفف من لواعج نفسي ومعاناة وجداني ، بعضا”من زاد الكتب السياسية والثقافية التي كنت أصطحبها معي خلال تلك الرحلات الملعونة ، والتي طالما سببت لي عناوينها المشاكل وأثارت مضامينها المخاوف ، لاسيما مع سدنة الحزب القائد وكهنة الفكر الأوحد ، حيث كان لا يسمح لغير أدبيات السلطة الحاكمة بالتداول داخل الثكنات والمقرات العسكرية ، جعلا”منها (= الكتب) أنيس وحشتي وسط ذلك الجدب في التواصل الإنساني ، ومصدر ثقافتي الذاتية وسط ذلك الخواء من الوعي الاجتماعي . وحين عقدت العزم على استئناف مسيرة الدراسة الجامعية للحصول على البكالوريوس في العلوم السياسية ، عبر استثمار فرصة الدراسات المسائية التي اتيحت لنا في حينها ، لم يكن يدر بخلدي أني سأرى بأم عيني وأسمع بملئ أذني ، حالات وجدتها تسيء – من وجهة نظري – ليس فقط لمهنة التدريس الأكاديمي ، وما تنطوي عليه من اعتبارات أخلاقية والتزامات أدبية فحسب ، بل ولشخصية المدرس الجامعي وما تشيعه من انطباعات وتعكسه من مناقبيات ، لاسيما تلك المتعلقة بنظام منح الدرجات وتقييم المستويات للطلبة المعنيين ، ليس وفقا”لاستحقاق البعض في تحصيل المعلومة أو بناء على كفاءة البعض الآخر في اكتناه الفكرة ، وإنما بناء على توصية من مصادر خاصة ، أو الحصول على الأسئلة الامتحانية مقابل هدية عينية أو رمزية ، أو – وهذا بتقديري أسوا – ضمان النجاح بتفوق بناء على أهمية الوظيفة الأمنية التي كان يزاولها الطالب المعني ، إما تحاشيا”لعواقب الاصطدام بسلطات مراجعه ، أو تجنبا”لتقريع غضب مسؤوليه وسوء مزاجهم . ومع ذلك فقد ترسّخت في ذهني ، وما برحت ، تقاليد إجلال المدرّس الجامعي كائنا”ما كان مستواه العلمي أو عطائه المعرفي ، وتبجيل الجامعة بصرف النظر عما كان يجري سابقا”ويتم حاليا”، داخل صفوفها وبين أروقتها من صفقات مريبة وتعاملات مخجلة . وهو الأمر الذي شخّصه بإيجاز – ولكن بواقعية – أحد الأكاديميين العراقيين ( د. كامل جاسم المراياتي) ، ممن لمسوا عن كثب مستوى التدهور الفكري ودرجة الضحالة المعرفية ، التي شهدتها الثقافة الجامعية خلال تلك الحقبة وما تمخض عنها لاحقا”، حين أوضح بان ((المشهد الأكاديمي لم يعد أكاديميا”كما عهدناه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، بل انه قد تحول إلى مركز لترسيخ عوامل التخلف الفكري وتعزيز عوامل التردي في المجتمع )) . وحين عصفت رياح التغيير السياسي بأركان الدولة والإطاحة بكيان النظام ، سرعان ما توضحت بجلاء معالم ما كان يجري في رحاب تلك المؤسسات العلمية ، من تآكل معرفي على مستوى إنتاج الأفكار وتوليد النظريات ، وتضاؤل ثقافي على صعيد تأويل النصوص وتحليل المقولات ، وتكاسل علمي على جبهة هضم المعارف وتمثل المنهجيات . بحيث لم تشفع تلك السنين من الدراسات المضنية والبحوث المرهقة ، من انكفاء غالبية الخريجين من حملة الشهادات الأولية وطلبة الدراسات العليا ، ناهيك عن رهط من الأساتذة والمدرسين الجامعيين ، صوب مرابض جاهليتهم الأولى ومرابع عصبياتهم البدائية ؛ احتماءا”بها لفض منازعاتهم الفئوية تارة ، واعتمادا”عليها لتعزيز علاقاتهم الاجتماعية تارة ثانية ، واستغلالا”لها لضمان مكاسبهم الشخصية تارة ثالثة . ولعل الكثير ممن كان يغط في خدر توقع ساذج مفاده ؛ إن نتائج تسونامي الانقلاب السياسي الذي وقع عقب الغزو الأمريكي للعراق ، سيجعل من ربوع هذا البلد المجبول بالفواجع والمعفر بالمآسي ، أرض الأحلام الموعودة وجنة الخلود الأبدية ؛ لا في مجال السياسة وتفرعات الدولة وامتدادات السلطة ، عبر التحول من مثالب الحكم الشمولي إلى مناقب النظام الديمقراطي فحسب ، بل وفي مضامير الاجتماع والتواصل ، عبر التحول من رزايا الانتماءات العشائرية والعلاقات الاستزلامية ، إلى مزايا المجتمع المدني والمواطنية العراقية . مثلما في حقول الثقافة والفكر، عبر التحول من رذائل التجييش الإعلامي والتعبئة الإيديولوجية ، إلى فضائل نشر الوعي العلمي وإشاعة المعرفة الإنسانية . وكما في اطر التاريخ والذاكرة ، عبر التحول من مساوئ أصنمة الماضي وأقنمة المخيال ، إلى محاسن عقلنة الأصوليات وأنسنة الخلفيات . وكما في مجالات الدين والقومية ، عبر التحول من أحادية التميّز الديني والتفرّد السلالي ، إلى تعددية التثاقف في الأعراق والتسامح في الأديان والتعايش في المذاهب . وكما في ميادين الانتماء والولاء ، عبر التحول من محضورات التخندق الطوائفي والتمترس القبائلي ، إلى ضرورات الشخصية الاجتماعية والهوية الوطنية . وأخيرا”كما في قطاعات التربية ومراحل التعليم ، عبر التحول من يباب الأمية المعرفية والتخلف الثقافي ، إلى رحاب التقدم العلمي والتطور التكنولوجي . ولما كان (الظن لا يغني من الحق شيئا”) – كما ورد في النص القرآني – فقد أظهرت تجربة الواقع السياسي الجديد ، خطل تلك الآمال السرابية وفداحة تلك التوقعات الطوبائية ، التي راهنت – ولا تزال – على حصاد الفوضى من الحاضر واستنتاجات المجهول من المستقبل ، دون أن تأخذ بنظر الاعتبار حجم الدمار البنيوي الذي أصاب قطاع التعاليم العالي ، وطبيعة الكوارث النوعية التي تعرضت لها الثقافة الجامعية ، بحيث إن مقارنة منصفة ومعايرة موضوعية ، بين عيوب النظام السابق ومثالب نظيره النظام اللاحق ضمن نطاق هذا المعطى تحديدا”، ستتيح لنا تلمس الفارق الجوهري القائم بين التجربتين السياسيتين ، من حيث العواقب والتداعيات التي تمخضت وسوف تتمخض تباعا”؛ ليس فقط على صعيد إنضاج الوعي الاجتماعي الطفولي ، وتعزيز الشعور الوطني الهلامي ، وتدعيم الانتماء التاريخي المتشظي فحسب ، وإنما على مستوى ترميم الذاكرة الجمعية المتصدعة ، وتوحيد السيكولوجيا العراقية المشتتة ، وتصحيح الاعتقاد الديني المنحرف ، وتصويب المتخيل الرمزي المؤمثل . وعلى هذا الأساس فقد نحت تجربة الحكم السابق باتجاه خلق أنماط من الشخصية وبعث أطر من الثقافة ، أريد لها أن تكون بمثابة لبنات خرسانية في مدماك النظام التوتاليتاري ، لا تقتصر مهماتها فقط على حماية شرعيته السياسية من التآكل ، واستبعاد احتمالات تهديد سلطته من الاندثار ، إما عبر أساليب النقد المبطن / المضمر أو التعرية المكشوفة / السافرة فحسب ، بل وتسهم في تسطيح وعي الإنسان عبر استلابه وتعليب بنى الوعي عبر تنميطها . هذا في حين اتجهت تجربة الحكم الحالية إلى نسف الأسس وقلب القواعد وقلع المرتكزات ، التي كانت محط تواضعات العهود السابقة في مجال التعليم العالي والثقافة الجامعية ، لا لكي تترفع عن الانحرافات القيمية والتجاوزات العلمية التي كانت سائدة ، أو تتسامى فوق الميول الحزبية والعلاقات القرابية التي كانت رائجة – بحيث تعطي الانطباع بأنها جاءت لأغراض البناء وليس الهدم ، وانبثقت لغايات الارتقاء وليس الانكفاء ، وشرعت لمقاصد التطور وليس التقهقر – وإنما لأجل أن تؤسس لمزيد من الخراب في بنية المجتمع العراقي ، المحتقن أصلا”بكل أسباب التبعثر والتذرر . فبدلا”من أن تتجه للقضاء على مظاهر العلاقات الاستزلامية (العائلية والقبلية والمناطقية) ، فأنها لم تكتفي بمساعي تكريسها وإجراءات مأسستها ، وإنما أضافت لها وزادت عليها بلاء الانتماء الطائفي والولاء العنصري . وبدلا”من أن تجتثّ زؤان الأصنام الإيديولوجية وتزيح الاقانيم الكارزمية وتحطم الطواغيت الشخصانية ، فأنها أمعنت في ترسيخها في بطانة الوعي وتعميقها بين طيات الوجدان ، عبر استخدامها في إحياء الشعائر الأسطورية وبعث الطقوس الخرافية . وذلك بلجوئها لأسوأ ما تمخضت عنه تجارب الأمم وممارسات الشعوب ، من نكوص فكري وانحطاط اجتماعي وتخلف حضاري ، حين عمدت لتبني مبدأ المحاصصة العنصرية والطائفية لا في شغل المناصب السياسية وإسناد المسؤوليات القيادية ، بل وفي ومنح الأولويات الإدارية وتقديم الأفضليات الارتقائية ، بدلا”من أن ترجّح معايير الكفاءة المعرفية والاستحقاق العلمي . وشروعها (بتديين) المنهجيات التعليمية بشكل عام ، و(تطييف) المؤسسات الجامعية منها على وجه الخصوص ، بدلا”من أن تجعلها مراكز لإشاعة النزعة العقلانية ونشر الثقافة العلمانية ، لاسيما بين الطلبة الجدد الذين تمتاز عقولهم بالجيشان ونفوسهم بالهيجان ، على خلفية انعدام المعنى في وجودهم ، وتعاظم الخراب في قيمهم ، وتفاقم الضياع في انتمائهم ، وتأزم الاغتراب في وعيهم . وكأنها بذلك تريد – عامدة ومتعمدة – الإجهاز التام والقضاء المبرم على بقايا ما في نفوس العراقيين من ؛ روابط اجتماعية واهية ، وأواصر إنسانية مهلهلة ، وقواعد أخلاقية مفككة ، والتزامات مبدئية معطلة ، ورواسب ثقافية متآكلة ، ومزايا علمية متضائلة ، بحيث تنداح مظاهر الخراب في كل ركن من أركان الدولة ، وتضرب الفوضى في كل زاوية من زوايا المجتمع ، وتذر الخرافة قرنها في كل رواق من أروقة الوعي . والأنكى من ذلك كله إن كل قومية أو طائفة أو قبيلة – لكي تؤمن وجودها في الدولة ، وتشرعن حقوقها في السلطة ، وتعقلن سريادتها في الايدولوجيا – فهي مسوقة إلى تغيير المفردات المنهجية وتحوير المعلومات العلمية ، بما ترتأي انه يتناسب وأصولها في التاريخ ، ومكانتها في الجغرافيا ، وإسهامها في الحضارة ، وامتيازها في الثقافة ، ودورها في الذاكرة ، وحصتها في الهوية . للحد الذي تستحيل فيه الجامعات والكليات ، من مؤسسات علمية ومراكز بحثية لتطوير المجتمع وتنوير الفكر ، إلى منابر دينية ومجالس وعظية لتخدير الوعي وتبرير الانحراف وتسعير التطرف . ولأن ميدان التعليم العالي أضحى يتيح لمن يتسلل إليه ويتدرج فيه ، ضمان أفضل الفرص لتبوأ أعلى المراكز السياسية وبلوغ أسمى المناصب الحكومية ، فانه تحول إلى حلبة للمنافسة المطعون في نزاهتها ، لا في مجال استغلال العلاقات القرابية والانتماءات الحزبية والولاءات الطائفية ، ولا حتى في إطار استثمار المساومات السياسية والصفقات البرلمانية ، وإنما في مضمار تسويغ الغش في الامتحانات والسكوت على التزوير في الشهادات ، طالما إن قوانين الحرب وتواضعات الصراع ، تبيح للأطراف المنخرطة في أتونها استخدام كل الوسائل المتاحة ، حتى وأن تجردت من محظورات الأخلاق ، وتقاطعت مع ضرورات المنطق ، وتجاوزت أبجديات الإنسانية . وهكذا ، وفي ظل استمرار مسلسل التراجعات السياسية والانكسارات الاجتماعية والتقهقرات الاقتصادية والتهتكات الثقافية ، فليس لنا أن نفترض – لا في المدى المنظور ولا في المدى المتخيل – حدوث معجزة تقلب الأمور رأسا”على عقب ، بحيث تستعيد الجامعة هيبتها المؤسسية المنتهكة ، وتسترجع مكانتها العلمية المفقودة ، وتستأنف وظيفتها التربوية المهدورة ، بقدر ما نتوقع إن التعليم العالي سيشهد تدنيا”متواصلا”، لا في أطره الإدارية والفنية فحسب ، بل وفي محتواه العلمي ومغزاه المعرفي ، كما وان الثقافة الجامعية ستعاني تدهورا”متفاقما”، لا في هدفها الحضاري فحسب ، بل وفي جدواها الارتقائي أيضا”.
[email protected]