22 ديسمبر، 2024 9:06 م

التعليم الطبي في العراق من سيئ إلى أسوء … كلية طب جامعة النهرين نموذجًا

التعليم الطبي في العراق من سيئ إلى أسوء … كلية طب جامعة النهرين نموذجًا

ما دعاني اليوم للكتابة عن التعليم الطبي في العراق، وبعد أن ترددت كثيرا في الإعلان عن تشاؤمي المطلق واستنكاري الكبير لما آل إليه هذا التعليم في بلد كان من أوائل دول المنطقة في روعة تعليمه الطبي على وجه الخصوص، والتعليم العالي بشكل عام، أقول ما دعاني للكتابة اليوم عن هذا الموضوع هو ما وصلني منذ أشهر من معلومات يشيب لها الرضيع وتدمع بسببها العيون لما تقوم به عمادة كلية طب جامعة النهرين التي كانت قبل الإحتلال من أرقى كليات الطب في المنطقة العربية، فالمصيبة حدثت عندما تبوأ عمادة هذه الكلية الرصينة والرائعة أشخاص أقل ما يقال عنهم أنهم جهلة ولا يمتون لمهنة الطب الإنسانية بصلة. فهناك حدثت مهازل تعليمية ترقى إلى الجرائم بحق الطب والتعليم الطبي والتي سأكتبها يوما بالتفصيل ليتعلم القائمون على هذه الكلية، التي كانت يوما رصينة، كيف يديروها بالعلم والخبرة الإدارية، التي لا يمتلكون ذرة منها مع الأسف.

كلية طب جامعة النهرين، ومنذ الإحتلال وليومنا هذا، تدار من قبل أشخاص كان يقتضي تعيينهم “روزخونجية” بدلا من إدارة كلية طب مرموقه، حيث سيكونوا أفضل حالا من موقعهم الذي تبوأوه اليوم وبالأمس، وهم يعرفون كيف ولماذا. وهنا لا أعني فقط إدارة الكلية، بل العشرات من أعضاء الهيئة التدريسية الذين أعرفهم بالأسماء والمواقع والذين لا يصلحون أن يكونوا في النظام التعليمي العالي على الإطلاق، بل ليس في أي نظام تعليمي آخر، لما يحملوه من عقول وافكار نتنة وسوء سلوك مع الطلبة لا يقوم بها حتى الفاقدين للضمير الإنساني والأخلاق الحميدة.

وكمثال واحد على مأعنيه، دعوني أخبركم أن أحد العمداء الأغبياء والجهلة من الذين تبوأوا عمادة هذه الكلية، وبحكم خلفيته المذهبية المقيتة التي لا ترقى حتى لتؤهله أن يكون “روزخونا”، قد قام بجريمة كبرى لو حدثت في أي دولة من دول الغرب المتحضر، بل في أي دولة أخرى من دول العالم، لنحروه.. نعم لنحروه لأنه قتل في باحة الكلية جميع الأشجار الدائمة الخضرة التي مضى عليها زمن طويل حتى تنموا وتصبح بذلك الجمال الذي ألقته تلك الأشجار على حدائق الكلية…فقد أصدر هذا المجرم أمره باقتلاع جميع الأشجار في الكلية بحجة أنه يلتقي في ظلالها الطلاب والطالبات، ممن قد يكون لهم، حسب رأيه الغبي الأجوف، علاقة ببعض. وللحديث بقية عن المآسي في تلك الكلية المسكينة.

ولأن طالب الطب في كلية طب النهرين لا حول ولا قوة له أمام تجبر وغباء عمادة الكلية والكثيرين من أعضاء الهيئة التدريسية فيها، فإن هذا الأمر يدعوني الآن للحديث عن التعليم الطبي العالمي اليوم، حيث وجدنا من خلال خبرتنا الطويلة في التعليم الطبي في دول الغرب المتحضر والمتقدم طبيا وعلميا إن أبرز ما يميزه هو أن الطالب الجامعي هو محور العملية التعليمية، لا كما هو الحال في كلية طب النهرين بالتأكيد. فإضافة إلى أهمية اكتساب المهارات الأكاديمية من العام الأول في الدراسة والاهتمام بالمهنية وسلوكيات الممارسة الطبية، فقد أصبح من المعروف عدم فاعلية الأسلوب التلقيني في العملية التعليمية المطبقة الآن في التعليم العالي بشكل عام، والطبي بشكل خاص في العراق، ومنه بالتأكيد في كلية طب جامعة النهرين، حيث ينبغي على الطالب أن يكون نشطاً في الحصول على المعلومات من المصادر المختلفة خاصةً مع الثورة التي حدثت في مجال الاتصالات والمعلومات والوسائط، والتقدم السريع في العلوم الطبية ومهارات البحث العلمي. ولكن من أين وكيف يحصل ذلك والطاقم التعليمي في كلية طب النهرين غريبين عن هكذا أسلوب تعليمي حديث، بل بالتأكيد لم يسمعوا عنه من قبل؟

ولهذا نرى أنه على جميع كليات الطب وفي جميع الجامعات العراقية أن تقوم بتسريع التغيير في التعليم الطبي من خلال إنشاء نظام يقوم بتدريب الأطباء والمهن الطبية والصحية الأخرى لتلبية احتياجات المرضى وتوقع التغييرات المستقبلية. ومن أجل ذلك، فقد تواصلت شخصياً مع الأكاديمية البريطانية لتطوير التعليم الطبي والقائمين على التعليم الطبي إضافة إلى مؤسسات طبية أكاديمية أخرى حيث أبدى الجميع إستعدادهم لمساعة العراق في تطوير نظامه الطبي التعليمي، وبشكل خاص العلوم الطبية الأولية Basic Medical Sciences، ولكن لم يستمع أحد لي لا في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ولا في جامعات العراق من أجل القبول بتلك المساعدة الدولية لهم.

وبهذا الخصوص، أرى أن واجبنا أن نجعل المهن الطبية تتماشى مع مهنة الطب في القرن الحادي والعشرين في جميع المجالات التالية والتي اصبح العراق بعيدا جدا عن تطبيقها بسبب الإدارة الفاشلة لكليات الطب في جامعاته:
جعل التكنولوجيا وتعزيزها في خدمة التعليم الطبي
توفير الخدمات الصحية الرقمية
تطوير الطب الرقمي

ولهذا نرى أنه يجب على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العمل على:
إنشاء فريق لتحسين الجودة يتحمل المسؤولية الاستراتيجية لقيادة والإشراف على عمليات ضمان جودة التعليم الطبي وإدارته في جميع كليات الطب من خلال تحوير المناهج المعمول بها حالياً وذلك من أجل تحسين التعليم الطبي بكافة تخصصاته.
تشجيع روح العمل المتكامل والمتعدد المهنية، لأننا نعتقد أن تحسين الجودة في التعليم والتدريب هو في صميم تقديم رعاية صحية متميزة للمرضى.
أن تولي اهتماما بالغا بتدريب الطالب على مهارات البحث العلمي منذ اليوم الأول من انضمامه لكليات الطب، حيث يتم تعليمه كيفية قراءة الأبحاث العلمية من مجلات علميّة محكّمة، والبحث في قواعد البيانات المتوفرة، كما يجب تدريس مادة التعليم الطبي والتعلم مدى الحياة، وهو مقرر هام يكسب الطالب مهارات العمل كفريق وكيفية أداء البحث العلمي وإعداد ما يسمى بالمحفظة التعليمية لتجميع المشاريع والأنشطة والدورات التدريبية وبذلك نحصل على صورة واقعية لما اكتسبه من مهارات وقدرات تسمح للممارسة الآمنة والفعالة.
وضع خطة لتعزيز البحث العلمي ودعم بحوث الطلاب آملين من وراء ذلك أن يكتشفوا وينشروا بحوثهم العلمية.
أن تولي كليات الطب اهتماما كبيرا لإنجاح برامجها التعليمية وتمكينها من تخريج نخبة وطنية من الأطباء والمهن الطبية والصحية الأخرى الذي سيقومون بتطوير القطاع الصحي في الدولة وتحقيق الرؤية الوطنية في تطوير القطاع الطبي للبلاد.
كما يجب أن يكون الملفت في منهج التدريس المُطبق في كليات الطبي هو أن تقييم الطالب لا يُبنى على مجرد إكمال مقررات دراسية معينة بنجاح، وإنما على أًسس اكتساب القدرات والكفاءات التي يجب أن يكون قد اكتسبها الطالب الخريج وقياس قدرات الممارسات الحقيقية وليس قدر المعلومات النظرية التي يعرفها الطالب فحسب، وهو البرنامج الفاشل للتعليم الطبي الحالي في العراق.
التركيز على تعزيز قدرة الطالب في الجانب العملي من دون الاكتفاء بالجانب النظري واجتياز الامتحانات فقط، خاصة ويجب العمل على أن يبدأ التدريب السريري (الإكلينيكي) لطلبة كليات الطب منذ السنة الثانية وذلك بخلاف مناهج التعليم الطبي التقليدية في كليات الطب حاليا، على سبيل المثال، في كليات الطب التي تقوم بتدريس العلوم الطبية الأساسية لمدة ثلاث سنوات ليتم بعدها التركيز على الجانب العملي والسريري.
تعزيز قدرة الطالب على التعلم المبني على دراسة معضلات طبية وحل المعضلات الطبية، حيث يقوم الطلبة بالدراسة من خلال مجموعات صغيرة للعمل على حل معضلة طبية كل أسبوع. وسيقتصر دور عضو هيئة التدريس في بادئ الأمر على توجيه الطلبة، حتى يقوموا من خلال دراسة المعضلة باستكشاف الأهداف التعليمية من خلال التحليل وتفسير الأعراض والظواهر المرضية واستنتاج الحلول. إضافة إلى ذلك، يجب إتاحة الفرصة أمام الطلبة للبحث والتعمق واستخدام مصادر المكتبة وأحدث وسائل التكنولوجيا في التعليم.
وضع كليات الطب جودة التعليم وتأثيرها على مخرجات الجامعة من الجانبين العلمي والعملي على رأس أولوياتها للوصول بالتعليم الطبي بكل مكوناته وعناصره إلى مستوى مقارن بمعايير إقليمية أو دولية بهدف تخريج أطباء قادرين على تحقيق الأداء الأفضل والممارسة السليمة لمهنة الطب سواء داخل الدولة أو خارجها.
وأهم ما يجب القيام به هو العمل على تبني كليات الطب للمعايير المعتمدة للجودة في مجال التعليم الطبي لمرحلة البكلوريوس كما حددها الاتحاد العالمي للتعليم الطبي (WFME) للمرحلة الجامعية الأولى، وكذلك في مرحلة ما بعد التخرج ومرحلة التعليم الطبي المستمر.
تعزيز قدرة كليات الطب على ضمان الجودة ومواكبة المعايير الدولية في جميع نواحي العملية التعليمية وفي إطار سعيها لتكون كليات الطب ذات بعد دولي حيث يجب أن تستعين الكليات بممتحِنين دوليين من تخصصات طبية مختلفة لتقييم المستوى العلمي للطلبة (معرفي/مهاري/سلوكي) وذلك مع نهاية كل مرحلة رئيسية من مراحل برامج التعليم الطبي، وهذا بحد ذاته سيكون أيضا إمتحانا للهيئة التدريسية الفاشلة أساس في التعليم الطبي في العراق. كما سيطلع الممتحِنون الدوليون على جودة الاختبارات التي يخضع لها الطلبة من ناحية المحتوى والأدوات، وبمراجعة مخطط التقييم Assessment Blueprint الذي ستضعه الجامعة موضع التطبيق. ولضمان الجودة على مستوى الجامعة، تعنى «لجنة ضمان الجودة، وتقييم البرامج، والاعتماد الأكاديمي» بمتابعة كل ما يتعلق بتطوير الجانب الأكاديمي لكليات الطب لا سيما تقييم إجراءات ضمان الجودة وفاعليتها وتأثيرها على البرامج الدراسية، وتحديد المؤشرات والمقارنات المرجعية Benchmarks المناسبة، وتفعيل برنامج للتطوير المستمر لأعضاء الهيئة التدريسية بهدف ترسيخ مبادئ ضمان الجودة. وفي هذا السياق يجب أن يخضع مخطط منهج البرامج الدراسية لكليات الطب لتقييم المراجعين الدوليين من عدد من كليات عالمية رائدة على مستوى العالم من أجل الحصول على تقييم عالي. وهذا سيعيد التعليم الطبي في العراق لسابق تاريخه الرائع بدلا من كونه قد فشل فشلا ذريعا تحت إدارة أشخاص لا يصلحوا للعملية الطبية التعليمية.
أن تشرك كليات الطب مؤسسات دولية رائدة في تطوير الاستراتيجية، والبرامج الأكاديمية وأجندة البحث فيها. ونأمل بإتخاذ قرار استراتيجي في وقت مبكر بالتعاون مع العديد من الشركاء الدوليين، كلٌ في مجال تميزه، بدل الشراكة مع مؤسسة واحدة فقط من أجل الحفاظ على المستوى العالي لكليات الطب.

ومن خبرتنا في مجال التعليم الطبي في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، التي تعتبر رائدة في هذا المجال، فإننا نرى أن بقاء التعليم التقليدي في كليات الطب العراقية على ما هو عليه الآن والذي لا يتماشى إطلاقاً مع التطور الحاصل في هذا الجانب من التعليم، فإن التعليم الطبي في العراق سيبقى يسير من سئ إلى أسوء، خاصة تحت إدارة عمادات كليات الطب فيه من قبل أشخاص غير اكفاء، كما هو الحال في كلية طب النهرين، في وقت هناك منظمات دولية عديدة بإمكانها مد يد المساعدة لتطوير هذا التعليم وجعله يعود بمساره الموازي لأفضل أنظمة التعليم الطبي في العالم.

*بروفيسور متخصص بعلم الفسلجة والعقاقير الطبية