القصة بدأت منذ سنة 2014 عندما كان الدواعش يرسلون إشارات بنشر الفوضى والإرهاب ، وفي حينها اتخذ رئيس هيئة التعليم التقني قرارا بإنشاء مواقع للمعاهد التقنية لتكون قريبة من آماكن سكن طلبة الموصل في الحمدانية وتلعفر وكان الدافع هوالتخفيف عن كاهل الطلبة وتقليل نفقات التنقل وإشعار عوائلهم بالاطمئنان والأمان على أبنائهم وهم يروحون ويجيئون لدراستهم خارج مناطق سكناهم أو الاضطرار في المبيت في الأقسام الداخلية داخل مدينة الموصل ، وعند حصول الهجوم الهمجي على الموصل أسهم هذا الإجراء الصحيح في إنقاذ حياة العديد من أبنائنا الطلبة الإعزاء وبما لا يقل عن 800 من الذكور والإناث ، وكما هو معلوم للبعض فان الكليات والمعاهد التقنية ضمن محافظات نينوى وكركوك وصلاح الدين أصبحت ضمن تشكيلات الجامعة التقنية الشمالية بعد هيكلة هيئة التعليم التقني وإنشاء أربعة جامعات تقنية ( الفرات الأوسط ، الوسطى ، الجنوبية ، الشمالية ) ، وترتبط بالجامعة التقنية الشمالية معاهد ( الموصل ، نينوى ، كركوك ، الحويجة ، الدور ) والكليات التقنية ( التقنية الهندسية / الموصل ، الصحية والطبية / الموصل ، الإدارية / الموصل ، الزراعية / الموصل ، التقنية الهندسية / كركوك ، الإدارية التقنية / كركوك ) ، ولان الجامعة التقنية الشمالية كانت في طور التأسيس والمكان المفترض لموقعها هو مركز محافظة نينوى في الموصل فان الظروف الامتية حالت دون أن يكون للجامعة مقرا في الموقع المقرر، ولغرض أن لا تضيع حقوق الطلبة ومنتسبيها من النواحي كافة فقد تبنى رئيس هيئة التعليم التقني( وبعد استحصال موافقة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ) تمت المباشرة بإنشاء موقعا بديلا للجامعة في بغداد من خلال إشغال جزءا من بناية الهيئة وضمن الإمكانيات المتاحة دون تحميل موازنة الدولة الاتحادية دينارا واحدا ، وتم انجاز هذا الموضوع بجودة عالية كما تم اختيار مساعدين لرئيس الجامعة والمواقع القيادية لها من ضمن الملاك الموجود وبمواصفات قادرة على التعامل مع الازمات وتحمل الضغوطات ، وبعضهم من النازحين لغرض إيكال مهام لهم والاستفادة من خبراتهم في مجال المعرفة بتشكيلات الجامعة التقنية الشمالية .
وكان الجزء الآخر من الموضوع هو كيفية استمرار الدراسة وعدم إضاعة سنوات دراسية من الطلبة واستثمار طاقات التدريسيين والمدربين التقنيين وبقية العاملين واغلبهم من النازحين ، فأوضاع الموصل الحويجة والدور خارج السيطرة والآمر الذي يمكن التعويل عليه هي تشكيلات الجامعة في كركوك ، ومن خلال الدراسة والتخطيط والزيارات الميدانية فقد وجد إن الغالبية العظمى من المنتسبين والطلبة يتواجدون في إقليم كردستان / اربيل كنازحين وهناك أعدادا تشكل نسبة معينة تتواجد في بقية المحافظات ، وصدرت توجيهات من رئيس هيئة التعليم التقني بقبول الطلبة أينما يتواجدون على سبيل الاستضافة في جميع المعاهد والكليات التقنية لأنه وكما هو معلوم فان الدراسة التقنية لا تتشابه مع الدراسة الأكاديمية في بقية جامعات العراق من حيث المناهج والمفردات ، وبعد أن تم العمل بهذا التوجيه وجد إن هناك نسبة كبيرة من منتسبي وطلبة الجامعة التقنية الشمالية يتواجدون في اربيل ومن الصعوبة دمجهم مع القنوات التعليمية التقنية أو الأكاديمية في اربيل بسبب صعوبات اللغة والطاقات الاستيعابية ، ولغرض الاستفادة من عنصر الزمن وعدم السماح بتسرب الطلبة فقد تم التنسيق مع الجهات المعنية في إقليم كردستان لإيجاد موقع دراسي بديل للطلبة النازحين يتم استثماره لاستمرار الدراسة من خلال توظيف جهود المنتسبين من التدريسيين وغيرهم ، وكان الموضوع يشكل تحديا بالفعل لأسباب عديدة تتعلق بظروف إشغال البنايات والاقامات واستملاك أو تأجير الأبنية وغيرها من المحددات والاعتبارات التي لا نريد الخوض بتفاصيلها اليوم ، ولكن ما تمخضت عنه الاتصالات والمشاورات واستخدام الكفاءة هو تخصيص موقع ميداني بديل لمقر الجامعة ومقرات أخرى لمواصلة دراسة الطلبة على وفق المواصفات العلمية المطلوبة ، وبذلك التحق اغلب العاملين والطلبة ممن تعذر عليهم الالتحاق إلى كركوك أو غيرها ولم تضيع أية فرصة دراسية عن الطلبة ، وهذا الموضوع كنا نسمع به من خلال ما يتم تداوله ولكننا لم نعرف تفاصيله بإسهاب ، وجزءا من هذا الموضوع كان يشير إلى النتائج الايجابية عند التواجد الميداني للموقع البديل في اربيل من قبل الأستاذ الدكتور عبد الكاظم الياسري رئيس هيئة التعليم التقني ، وما كان ينقل لنا انه يحظى بالحفاوة والترحيب الكبيرين من قبل الطلبة وعوائلهم والمنتسبين كافة من العمداء والتدريسيين وبقية العاملين .
ورغم علمنا إن الكثير من حالات طلبة الجامعة التقنية الشمالية قد تمت تسويتها من خلال إيجاد موقع بديل للمعهد التقني / الحويجة في مركز محافظة كركوك وإعادة افتتاح المعهد التقني / الدور من خلال إعادة تأهيله بعد عمليات تحرير صلاح الدين واستضافة بعض الطلبة في كركوك والمحافظات الأخرى ، إلا إننا كنا نتوقع وجود حالات غير مستقرة للطلبة التقنيين في الموصل نظرا لإعدادهم الكبيرة وتوزعهم على تخصصات متنوعة وهم الأكثر تضررا من أحداث حزيران 2014 لان نسبة مهمة من السكان اضطروا للنزوح في ظروف غاية في التعقيد ، ولكن نظرتنا المتشائمة قد تغيرت إلى حد كبير ، فقد تم تكليفنا مع بعض الزملاء من خبراء التدريب المختصين للذهاب إلى اربيل لغرض تنفيذ برنامجا تدريبيا متقدما في طرائق التدريس الحديثة لحملة الماجستير والدكتوراه من منتسبي الجامعة التقنية الشمالية لفرض تأهيلهم للحصول على الألقاب التدريسية وعددهم يقارب ال40 واغلبهم من نازحي الموصل بعد أحداث 2014 ، وخلال تواجدنا هناك أتيح لنا الاطلاع على تفاصيل العمل فتفاجآنا بمجموعة من الوقائع التي تمت مشاهدتها ولم تروى لنا ، فقد استطاعت الجامعة ومن خلال الدعم غير المحدود من لدن رئيس الهيئة والتنسيق مع الإدارات المحلية في الاقليم من إيجاد مقرات بدية للجامعة للإغراض الإدارية وقاعات دراسية تم تأهيلها لتكون مناسبة لاستمرار التدريس بكل انتظام خلال الأعوام الدراسية الماضية من خلال إيجاد توقيتات تنسجم مع الواقع السائد دون أية تنازلات عن المعايير العلمية والتربوية ، ورغم توفر المتطلبات الأساسية للعمل إلا إن كل ما تم توفيره يتصف بالتواضع وضمن الحدود الدنيا أو اقل ، فموقع الجامعة البديل يضم ستة عمادات والأقسام الرئيسية للجامعة ومساحة الموقع لا تزيد عن 100 متر مربع بطابق واحد و تتصف بتزاحم المناضد والكراسي دون وجود فواصل بينها ، ورغم ذلك تجد همة أكثر من حدود الطاقة الاعتيادية في انجاز الأعمال بدقة والتحرك الجدي لإعادة أرشيف وحقوق الجامعة والكليات والمعاهد التقنية المرتبطة بها لأنها تعرضت إلى تدمير كبير ، أما القاعات والورش والمختبرات فقد صممت لتفي بالأغراض التقنية المطلوبة دون تنازلات ، وما بسود العلاقة بين عمادات الكليات والمعاهد والعاملين والطلبة هي حالة من الاحترام والتعاون رغم الضغوطات والصعوبات .
وعودة إلى المهمة التي ذهبنا لأجلها فقد أنجزها الفريق المتخصص بمهنية عالية وعلى وفق السياقات التي تطبق في مركز تطوير الملاكات في بغداد الذي يعد اليوم من اعرق بيوت الخبرة في مجال التدريب داخل العراق ويعمل ضمن مواصفات الجودة 0ISO2600 لان الموجودين هناك كانوا يمتلكون حماسة لا توصف في إنجاح إي عمل يتبنوه والمشاركون يكرسون طاقاتهم كافة للتعلم ، فتحاملوا على ظروفهم الخاصة بعد أن تركوا كل ما يملكونه في الموصل لكي ينجوا بعوائلهم ويعيشوا نازحين في أي مكان يوفر لهم العمل والأمان ، كما نسوا أو تناسوا إنهم في العطلة الصيفية ومن حقهم التمتع بها كيفما يشاءون وتحول همهم إلى كيفية إنجاح البرنامج وإضافة طاقات شابة جديدة ليكونوا ضمن التدريسيين ليشاركوهم العطاء وليس الهموم فحسب ، وفي أثناء تواجدنا حضر المساعد الإداري لرئيس الجامعة من بغداد ليفاوض المسؤولين في اربيل على موضوع إضافة طاقات استيعابية تتناسب مع خطة القبول للعام الدراسي 2016 / 2017 ولحين العودة السريعة إلى الموصل بعد إكمال تحريرها بإذن الله ، ومما دفعني لكتابة هذه الكلمات ليس لامتداح شخص أو جهة معينة حتى وان وردت بعض الأسماء والمسميات ، وإنما للتذكير والإثبات بان العراق وطنا وشعبا حيا لم يموت ولن يموت ، وان فيه طاقات وقدرات وقيادات قادرة وراغبة على تجاوز كل الازمات والعودة من جديد بأفضل حال من كل السنوات وتحقيق السبق في المجالات كافة ، وما التجربة التي عرضنا جانبا منها إلا دليلا حيا على ذلك فتوفر القيادة الوطنية المترفعة من كل الغايات الفردية استطاعت إن تصنع وتعيد الحياة والأمل إلى الآلاف من الطلبة وان تحول الطاقة والخبرة التي كان من الممكن طيها للتدريسيين وغيرهم إلى بذل وعطاء ، وإذا كان البعض يتعكز على الظروف والأزمة المالية للبلد فانا ما اشرنا إليه قد تم انجازه يالامكانيات الذاتية من دون تحميل الحكومة أية أعباء ، فما توفرت من أموال وضعت في أيادي نظيفة ولهذا باركها الله وخصها بالتوفيق ، فتحية لكل من يخدم العراق بروح الأمل والتفاؤل بعيدا عن اليأس والخضوع والخنوع ، وتحية إلى كل المخلصين وهم كثر والحمد لله ، وتحية لمن أنقذ حياة أبنائنا الطلبة وأعادهم إلى مقاعد الدراسة وهم لم ينكروا فضله بل يزداد حبهم له يوما بعد يوم ، وما ذكرناه ليست الحالة الوحيدة فهناك العديد من الإبداعات في جامعات التعليم التقني عموما ، وسنعرض بعضها في القادم من الأيام إن شاء الله .