22 ديسمبر، 2024 8:39 م

التعليم الالكتروني،،بين حسد الجيل القديم و تسيب الجيل الجديد

التعليم الالكتروني،،بين حسد الجيل القديم و تسيب الجيل الجديد

•(مبحث تربوي) عوامل الفشل والنجاح
نحن تعلمنا و درسنا بالجلوس أمام المعلمين والمدرسين في الصف منضبطين ملتزمين إن طوعا أو قهرا (مستمتعين و أحيانا خائفين) ، ولهذا التعليم اثر عظيم بل و مقدس ربما في نفوس أجيالنا ، و لكن هل يعني هذا “شرطا” ان لهذا النمط من التعليم (وحده) علاقة بالنجاح او الفهم او التقدم او التفوق ، ومن ثم الابداع في الحياة الانتاجية؟ لا دليل على ذلك ،،إذ ان نسبة كبيرة بل غالبة من اجيالنا الطلابية فشلت و لم تحقق شيئا ، ومن نجح وتفوق (مدرسيا وجامعيا) لم يبدع شيئا ، و بقيت امجاد تفوقه قصصا تتداول بين نساء عائلته للتفاخر ، او حصل على وظيفة جيدة كمدرس او محامي او طبيب او صار استاذا جامعيا في احسن الاحوال ، ولم يسمع به احد و لم ننتج للعالم اي شيء ، و أغلب المخترعين والفلاسفة و المبدعين في العالم -من الغربيين-لم يتعلم ضمن هذا النمط ، بل منهم لم يتعلم اصلا!
ولا شك ايضا ان آخرين منهم حصلوا تعليمهم من هذا الاسلوب التعليمي الذي لم يكن لدينا غيره الا استثناءات متفرقة . و لكن هذا يدلنا على ان الامر لاعلاقة له بالنمط الذي نقدسه اليوم ، و نبكي على اطلاله لان كورونا او التطور الحتمي لعجلة الزمن في العالم فرض علينا التعليم الالكتروني.
انا من تلك الاجيال التي عانت الحر وذاقت البرد و وقفت مرتجفة امام المعلم القاسي ، و جلست منبهرة امام المدرس الكفوء و افتخرت بكل ذلك ، و انا درست بتشديد الراء و درست بفتحها بالطريقتين التقليدية والحديثة في مدارس وجامعات أوربا و البلاد العربية ، وفي كل منهما لي تجربة لا باس بها ، فضلا عن مراقبتي و متابعتي المتفحصة للتعليم الالكتروني (عند الغربيين و الامم المتقدمة) و لذا فاني اصلح شاهدا عليهما ، اكثر من الكثيرين غيري الذين يخوضون في هذا الامر دون تجربة عملية ودون ممارسة ، بل ودون موضوعية و لادراسة ميدانية ، الا من حكم عاطفي مسبق او اثر شكاوى من الطلبة او اوليائهم ، او حسدا-دون شعور-على امر لم يكن تهيأ لنا ، او بنظرة ضيقة لا تتعدى الحكم المبني على بلده الفاشل في كل شيء اصلا و يستغرب انه لم ينجح في تجربة التعليم الالكتروني !
≈بلدان متخلفة و في ذيل العالم التعليمي مثل سوريا و مصر و المغرب ، او خرجت من تصنيفه تماما مثل العراق وليبيا واليمن ، و اصبحت همجية متوحشة يأكل القوي فيها الضعيف ، لاقانون يحمي الطالب و امتحانه من الظلم و العبثية الادارية ومزاجية المتحكمين بمصيره من الاستاذ الى المدير الى الوزير ، بلدان متهالكة في جميع المنظومات التعليمية من اول المنظومة الخلقية التربوية التي ملأت بالرشاوى بين التربويين والاكاديميين و المحسوبية والعلاقات المريبة وعدم الانصاف و خريجين فاشلين يدرسون ، الى منظومة التجهيز و الكهرباء و الانترنت الى منظومة الادارة و اللوائح الى غياب رقابة منظومة الجودة و الاداء .
بلدان كهذه تريد ان تنجح في التعليم الالكتروني (احدث ماوصل اليه العالم المتحضر) و هي غير قادرة على النجاح في تنظيم تسليم رواتب موظفيها بانسيابية الى الان ، وغير قادرة على فض معاملة ترقيم سيارة او فتح ملف عقاري بطرق قصيرة و سلسة و محترمة ، او حتى استصدار وثيقة دراسة او سفر او اي شيء من الامور التي تجاوزها العالم المتحضر قبل نصف قرن ، وهي لازالت تتعامل معها بالطرق البدوية البالية التي طواها النسيان و أكلها الدهر .لا شك في محيط كهذا يأتي الحكم خاطئا و تأتي قبله النتائج محبطة ، والخطوات فاشلة .
≈كل الجوانب عالميا-في الحقيقة-هي لصالح التعليم الالكتروني ، من توسع في العلوم الى انفتاح المصادر الى السلاسة في الدرس الى الراحة في التلقي الى توفير الوقت و الجهد الى تقصير المسافات الى فتح الافاق الى توفير المال الى المشاركة التعليمية بين الاطراف و تبادل الخبرات ، الى كثير جدا مما كانت تحلم بتطبيقه النظريات التربوية الاجتماعية والنفسية والبراغماتية والنفس معرفية ، فضلا عن النظرية التكنولوجية التي يظن غير المختصين انها جديدة و لا يدري ان اصلها من خمسينات القرن الماضي .
•نقطتان سلبيتان فقط تواجهان هذا النوع من التعليم ، او مايظن انه يواجههما (الغش و ضعف التاثير الحي للمعلم قياسا لتاثيره في الصف التقليدي) وتسمى في علم التربية –البيداغوجيا و الاتصال Pedagogy – و هاتان النقطتان ساناقشهما باقتضاب لأرى :
أ-الغش -رغم انه وفي بلاد العلم و النظام الحقيقي و المنافسة حسب الكفاءة لم يعد له داع تقريبا فهو يضر ولاينفع- ومع هذا يمكن تلافيه بوضع اليات تتبعها المؤسسات التعليمية المتقدمة منذ فترة طويلة منها الآلية التي يتبعها نظام TOEFL واقرانه حيث تبلغ نسبة الغش فيه 0% تقريبا ، واقصد التوفل العالمي و ليس المحلي المضروب الذي تكتشف عندما تقدم للالتحاق بجامعة محترمة في الخارج انه غير مقبول ،وكذلك لو تمعنت عمليا في بعض اساليب الامتحانات الالكترونية اليوم في الدول المحترمة (مدارسا وجامعات) لوجدت ان الطالب يتمنى ان يمتحن تقليديا و لايمتحن الكترونيا لشدة الامتحان وصرامته و تحديد وقته و سرعة الاجابة ، بل انه لايحتمل حتى الرحمة او المجاملة او التعاطف الانساني الذي قد يستفيد منه بعض الطلبة في القاعة التقليدية ، ذلك لان الامتحان الالكتروني -وبسبب التطور الهائل للتطبيقات الالكترونية الامتحانية اليوم- وقته حاسم مبرمج لايرحم ، وهذا العامل يوفر للقائمين سبلا -لا مجال لتفصيلها يعرفها المختصون-تحرم الطالب من محاولة الغش ، كما ان التطبيق يسجل كل شيء وكل حركة يقوم بها المدرس و الطالب فيديويا و تعرض على اللجان المختصة ممايصعب معه التواطؤ بشكل شبه مستحيل . و امور اخرى تفصيلية كثيرة رايناها وعايشناها مع طلبتنا و مع اساتذتنا ايضا ، ومع منظوماتنا الجامعية المتقدمة ، وكذلك رأينا عن قرب نظيراتها في المدراس الثانوية-عندهم-ماقبل مرحلة الجامعة .
ب-اما مشكلة ضعف Pedagogy البيداغوجيا و كيفية حلها ، فالامر ليس مستعصيا اذا اتبعت الطرق الصحيحة التي وفرها التعليم الالكتروني بشاشاته المباشرة وتقنياته الحديثة في امكانية نقل الصورة الحية للصف بكامل طلابه و الطرق السريعة للمتابعة ، ولاينقص المدرسين والمعلمين الا تطوير مهاراتهم في هذا الجانب مع الوقت بادخالهم دورات تدريبية صحيحة و محترفة على ايدي خبراء ، وما اكثرهم لو خلصت النية و صدق العمل .
فالعيب اذن ليس -من هذا الجانب- ليس في التعليم الالكتروني نفسه بل بالانسان الذي يسيء او يقصر في تسخيره و استثماره ، وهذا الانسان هو نفسه الذي خرب التعليم التقليدي ، وهذا المدرس –المرتشي او المتسيب او المستهتر بوقت الدرس او ضعيف الكفاءة او مهزوز الشخصية او الظالم او او او- ،،، هو نفسه الذي عانى منه طلابنا حضوريا ، وعانت منه مدارسنا و جامعاتنا على مر العقود الاخيرة قبل كورونا والتغيير. اما طريقة التعلم و التعليم فلا دخل لها مطلقا .
•بقيت نقطة لابد من ذكرها وعدم اغفالها لكي يكون الكلام واقعيا ، هي قضية التخصصات التي تحتاج التدريب العملي و المختبرات و المصانع في جانب منها ، وهذا صحيح ويواجه صعوبة الى الان حتى على مستوى الانظمة (المتوسطة التقدم) ، ويجري التعامل معه الان بمرحلة التعليم المختلط او الممزوج (الكترونيا وتقليديا) ، و بعض الانظمة تجاوزته ، بل ان المتخرجين الان -في السنتين الاخيرتين- باشروا اعمالهم في وظائفهم الكترونيا ايضا بتقسيم الاسبوع الى ايام حضورية و ايام من امام شاشات كومبيوتراتهم في منازلهم بنظام مغلق محكم يربطهم بشركاتهم او بنوكهم او دوائرهم. و العالم سائر الى ابعد من ذلك ، ولابد من الواقعية و التفكير باللحاق به.
≈ فالامر ليس جديدا كما نظن و انما بدأ بل انه تكامل منذ منتصف القرن الماضي و قبل الثورة الالكترونية الحاضرة نفسها . حيث اتفق الفلاسفة التربويون على اهمية المقاربة الادراكية (البارادايم Paradigm) التي تقوم على الفهم و الادراك Cognitive وتعد قدرة الانسان فعلا موجبا Active و تقسم الدرس الى توضيحي declarative و طرائقي procedural و غيره ، و لم يعد هناك كبير اهتمام بالطرق التقليدية التي توجب البيداغوجيا Pedagogy القديمة التي تراعي تأثير الشخصية الحركية للمعلم في تلميذه (على اني اؤكد ان هذا مازال ضروريا في المراحل العمرية الاولى من التعليم، ربما الى حد االمتوسط الثانوي في الاقل). والا فان الامور فيما عدا ذلك -حيث حاجة التربية – قد حسمت لصالح المعلومة نفسها منذ سبعينات القرن الماضي “اذ انتشرت الرؤية وفرضت نفسها وتم في الثمانينات إدخالها في نماذج تعليمية”.
ولابد لنا ان نؤيد رؤية توماس كون-فيلسوف العلم الأميركي الشهير- حول الكيفية التي يتطور بها العلم، مبينا ذلك في كتابه “بنية الثورات العلمية”. “ان العلم لا يتقدم ببطء شديد عبر تراكم النظريات فوق بعضها البعض كما ظن فلاسفة التربية و التعليم من قبل ، ولكن في صورة انقلابات شاملة، يسميها كون بالثورات العلمية (Scientific Revolutions)، أو “تحول البارادايم” (Paradigm Shift)، فتلك الانقلابات لا تغير فقط من اهتمامات العلماء أو نطاقاتهم البحثية، لكنها تغير وجهات نظرهم كذلك، فتصبح الموضوعات التي كان يمكن السؤال عنها في مرحلة ما، وكذلك المفردات النظرية المكتوبة في المراجع، والتي يعتمد عليها العلماء في أثناء بحثهم، ونوعية الأسئلة التي يجب أن يسألها الباحث، وكيفية فحص تلك الأسئلة، وكيفية تفسير النتائج المترتبة على كل ما سبق، غير موجودة من الأساس في مرحلة أخرى. انتهى كلامه.
لاشك في صواب هذه النظرة ، فقد شاهدنا العلم و التعلم ينقلب انقلابات ضخمة وثورية ودون انتظار لقرون ، انظر مثالا الفرق بين الانسان- علميا ومعلوماتيا- اليوم وقبل عشرين سنة فقط. يدرك ذلك من هم في عمر الاربعين فاكثر بصورة اوضح و يلمسونه ويحسونه .
•• العالم و العلم و التربية الحديثة لاينتظرون احدا ، و لايرحمون المتأخر و لا يجاملون المتعثر ، ولنترك الحسد المخفي العفوي غير المقصود تجاه الاجيال الحاضرة و الصاعدة بما انعم الله عليها بتطور هائل، ولندفعهم لاستغلاله كأحسن مايكون و ندعم تعليمهم الالكتروني و نشذبه لهم و نوجههم ونضيف لهم خبراتنا التقليدية وقيمنا ليتحقق توازن وتقدم تدريجي نحن احرى به من مجتمعات سبقتنا،
ولتنطلقوا ايها الطلبة الصاعدون مع هذا الفتح الجديد في عالم التعليم و العلوم وتضبطوا امر “التسيب” المدمر و تتخذوا الامر جديا كما اخذه سابقوكم ويأخذه معاصروكم من الاجيال الغربية بل وحتى بعض البلدان العربية “النادرة” المتقدمة في هذا المضمار ، ولا يثبطنكم بعض من قبلكم من جيلنا ، فان العالم هكذا و هو سائر ومتطور ومستمر و لن يعود الى الوراء .وسنلتحق بكم قريبا نحن جيل الحاسدين و سيسبقكم قريبا زملاؤكم من المنضبطين الملتزمين، فلا تتوانوا.