18 ديسمبر، 2024 9:03 م

ما أن استمعت إلى أخبار التعليم وما أن اطلعت على أحوال المدارس في يومنا هذا، إلاّ واستذكرت التعليم والمدارس أيام أمي.
كانت أمي (رحمها الله) معلمة الاجتماعيات. بدأت التقي بها في الدروس وأصبحت معلمتي عندما بلغت المرحلة الخامسة من الدراسة الإبتدائية في مدرسة أسماء بنت ابي بكر الابتدائية بكركوك سنة 1979-1980. كانت أمي تجهد في تدريس طلابها وخاصة في مادة التأريخ وتحرص على إتباع أفضل الطرق في سبيل استيعاب الطلبة للموضوع. عندما كانت أمي تحتاج إلى إجازة ليوم أو ليومين، كانت تتبادل مواقع الدروس مع معلمة أخرى كي لا تفوت على الطلبة الدروس. كانت تدرسنا مادة التأريخ ليومين متتاليين وتدخل الدرس بدل معلمة أخرى لكي تعوض الطلبة المواضيع والدروس التي ستفوتنا في يوم إجازتها. والمعلمة الأخرى التي تبادلت مع أمي وأعطتها حصتها، كانت هي الأخرى تحضر علينا عندما تغيب أمي عن المدرسة لسبب ما. كانت أمي ترتب أمورها ليوم الإجازة قبل أسبوع على أقل تقدير. وهكذا فإننا لم نكن نخسر الدروس بسبب إجازة معلمة المادة. كانوا حريصين جداً على إتمام المناهج وإيصال المعلومة كاملة دون نقص. كانوا حريصين جداً على الأمانة، ويعتبرونها مقدسة والتهاون بها خيانة. كان الضمير صحواً والوجدان رقيباً على أدائهم، ومتعتهم كانت بإتمام المواد الدراسية والإيفاء بما يقع عليهم من المسؤولية تجاه طلبتهم. أمي كانت تعتبر كل طالب وطالبة لديها بمثابة أبنائها. كانت تحدثنا في البيت عن كل واحد منهم وكانت تتعايش مع وضعهم وأحوالهم وتتفاعل معهم.
وأنا أتطلع اليوم على الأسئلة التي تتناثر في الشوارع والأزقة قبل الامتحانات وما يقال عن أجهزة الإرسال الصوتي وسماعات الأذن، وأنا أشاهد اليوم الدرجات العالية التي يحصل عليها الطلبة وإن كانت دون نفع أو جدوى، أستذكر أمي عندما كانت تعد الأسئلة الإمتحانية.
كانت أمي تحضر الأسئلة الإمتحانية الشهرية والنهائية في البيت. أشاهدها وهي تستخدم ورق الكاربون للحصول على عدة نسخ من الأسئلة. فنسخة منها تقدمها لإدارة المدرسة ونسخة أخرى تذهب إلى القاعة الإمتحانية ونسخة تحتفظ بها هي في أرشيفها الخاص وكل هذا بسرية تامة وفي ظروف محكمة. مشهد تحضير الأسئلة كنت قد تعودت عليها منذ صغري. لكنني وما أن أصبحت طالباً لديها انتهى هذا المشهد ولم أعد اشاهد أمي وهي تحضر الأسئلة في البيت. كل هذا خشية منها في أن أكون مطلعاً على الأسئلة الإمتحانية وأعرفها قبل الإمتحان. ما أن أصبحت طالباً لديها حتى بدأت أمي تحضر الأسئلة في المدرسة ولا تحتفظ بها في البيت أبداً وبغير عادتها وطوال سني دراستي لديها. كل هذا خوفاً من أن أشاهد الأسئلة وأسربها وحرصاً منها على العدالة والمساواة بين الطلبة. حتى تخرجت وانتقلت إلى المرحلة المتوسطة، بعدها عادت أمي لتحضر الأسئلة في البيت وبدأت أشاهد من جديد تلك الأوراق الكاربونية ذات اللون الأزرق.
شتان بين الأمس واليوم. اليوم الذي أعجز فيه عن إفهام ما شاهدناه في الأمس حتى لأولادي.
طوبى لك يا أمي ولزمانك، وتباً لتمرد الزمان ووقاحة أيامنا هذه.