” إن عالمنا يضم الانسجام بطبيعة الحال إلا أنه يرتبط باللاانسجام ، وهذا بالضبط هو ما قاله هراقليطس: يوجد الانسجام في اللاانسجام ويوجد اللاانسجام في الانسجام”1[1]
يشهد الوضع البشري تأزما لافتا نتيجة الهشاشة الإنسانية على المستوى النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي بعد تفشي التوتر بين الغرائز والمؤسسات واشتداد نزعات التدمير الذاتي والعنف والاضطهاد المسلطة على الغير وتزايد الآفات الاجتماعية مثل البطالة والانتحار والفقر والركود وسطوة الاستبداد والفساد وهو ما اقتضى استعجال التدبير والتوجه الفلسفي نحو معالجة دقيقة ومتأنية لهذه المشاكل قصد تأهيل شروط الوجود وتجويد فن الحياة. غير أن الإشكاليات التي تطرح يمكن أن تصاغ على النحو التالي:
بماذا يتصف الوضع البشري في اللحظة الراهنة؟ هل تبدو عليه علامات الفوضى أم ملامح النظام؟ وأيهما الأحسن بالنسبة إليه النظام الذي يتسبب في اندلاع الفوضى أم تفشي الفوضى التي تستوجب إعادة تركيز قواعد النظام؟ وكيف السبيل للإبقاء على الفوضى الخلاقة والنظام المرن؟ وبعبارة أخرى هل يراوح الوضع البشري مكانه بين النظام والفوضى أم من زاوية الفكر المركب يمكن تجديل العلاقة بينهما؟
على هذا الأساس يمكن معالجة المشكل الفلسفي الذي وقع اثارته حول شروط وجود الانسان بتحليل العناصر المقترحة التالية :
– تدهور الوضع البشري وانحداره من النظام والتمدن إلى الفوضى والهمجية
لقد ساهم تردي النظام وانغلاقه وشموليته الى تفجر بركان مدمر من الفوضى
– استعجال الخروج بالوضع البشري من الفوضى إلى النظام
يمكن للفوضى الخلاقة أن تمثل شرط إمكان التوق إلى النظام المعقول
– بناء علاقة جدلية بين الفوضى والنظام بالنسبة إلى كل وضع بشري تتكامل فيه الحاجة إلى الثورة والحرية والحق مع مطلب تشييد الدولة وبناء المؤسسات وتركيز المدنية والتحضر.
ربما جملة المهارات المطلوبة التي يستلزمها التفكير في سؤال الوضع البشري بين النظام والفوضى هي:
تحديد مفاهيم: الوضع البشري، النظام ordre، الفوضىdésordre ، البين بين entre deux.
النظام قد يفيد العقلانية والتقنية والهوية والعولمة والكونية والترتيب ولكنه قد يشير إلى إرادة التحكم والاستبداد والهيمنة والآلة المنفلتة والوحش الكوني والسطوة التاريخية والتنظيم الحربي للمجتمع.
الفوضى قد تفيد اللاّنظام والكاووس والتشتت والانقسام والتفكيك والضعف والنواقص الكبرى والحرية المميتة وتحمل نتائج غير أكيدة وعواقب غير مرحب بها ولكنها قد تشير إلى لعبة الصيرورة وإرادة الانعتاق والرغبة في التحرر وتتحول إلى مبدأ كشفي وعامل خلاق وفرضية تقدم وأحد دروب الحياة.
يجدر بالفكر الفلسفي أن يجري تمييزا بين طبيعة بشرية Nature humaine تتصف بالوحدة والتجوهر والماهية ووضع بشريCondition humaine يتسم بالتعدد والتنوع والاختلاف والزمانية والتاريخية.ثم أن يشتغل على الحقل الدلالي للنظام وفق مفردات البنية والمنظومة والسلطة والجهاز والمؤسسة والعقلنة وينتبه إلى التداعيات الكارثية التي تنجز عن الفوضى في الأوضاع السيايسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مثل النزعات التدميرية والعدوانية والعدمية والعنصرية وتفشي الجهل والأمية والتصحر والهدر.
يساعد التدبير الإيتيقي للأوضاع البينية على تغليب إرادة الحياة والنزعة البنائية والتسلح بالأمل والرغبة في الوجود الأشرف ويمكن من الانتصار على النزعات اللاانسانية ونحت رؤية منفتحة للعالم وربط هوية ومصير الكائن البشري بالمواقف الايجابية التي يتخذها في وجوده وتحميله مسؤولية السكن في الكوكب.
بناء على ذلك يوجد معنيان للفوضى: المدمرة والخلاقة، ويوجد معنيان للنظام: الشمولي والضروري.
فهل تستقيم الحياة البشرية في ظل فوضى بلا نظام ونظام بلا فوضى؟ ألا يجب تخطي المراوحة العقيمة بين نظام يمنع الفوضي وفوضي تسقط النظام؟ وكيف ينتج المرء الفوضى البناءة التي تحتج على شمولية النظام دون تدميره ويشيد النظام الضروري الذي يحد من الفوضى المدمرة دون القضاء عليها؟
المرجعيات التي يمكن استخدامها فهي علوم النقد والتحليل النفسي، علم الاجتماع، علم الاقتصاد السياسي، الأنثربولوجيا الثقافية، الفكر المركب، الإيتيقا، السياسة الحيوية ، فلسفة الرجة والأنطولوجيا والايكولوجيا.
بقيت الرهانات المستهدفة من ممارسة التفكير الفلسفي في فوضى لا تخلو من نظام يحولها الى قوة ثورية وحركة ابداعية وفي نظام يحتاج الى فوضى تجدده وتبعثه من سباته الأنثربولوجي وتوقظه من غفوته.
يكمن مدار النظر في العالم المشترك الذي يجمع بين العالم الذاتي والعالم الموضوعي ويتعدل ميزان العمل ضمن الوجود البيني (البيذاتية، البيثقافية ، البيشخصية، العتبة، اليكاد، النقد، التركيب، التأليف، التعقيد) في سبيل معالجة أزمات الوضع البشري وإدخال الفوضى إلى النظام من أجل تطويره تفاديا للشمولية والعودة إلى النظام من أجل عقلنة الفوضى تجنبا العنف والحرب وبروز النزاعات المدمرة والممارسات التمييزية.
” يفضي بنا الوعي بتعدد الأبعاد الى الفكرة التي مفادها أن كل رؤية أحادية البعد وكل رؤية متخصصة ومقطعة هي رؤية فقيرة. يجب وصل هذه الرؤية بالأبعاد الأخرى…والمطابقة بين التعقيد والاكتمال.”[2]2
هناك شيء آخر أكثر أهمية من التفرد والاختلاف ويتمثل في البحث عن الوضع الذي يكون فيه الأنا ذاتا وذلك بأن يكون تابعا ومستقلا في نفس الوقت ويكون كل شيء تقريبا بالنسبة إلى ذاته ولاشيء تقريبا بالنسبة للكون وبالتالي يدمج تمركز على ذاته ضمن تصور مركب للذات الكونية يجمع بين التنظيم الذاتي والفوضى الخلاقة وبين الاستقرار والاختلال وبين الانسجام واللاانسجام وبين الاستقلال والتبعية. فكيف يمكن البحث عن الاستقرار في الوضع البشري من خلال إعادة ترتيب موجات الاختلال التي تجتاحه؟
الهوامش والاحالات:
1- موران (أدغار)، الفكر والمستقبل ، مدخل إلى الفكر المركب، ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، طبعة أولى، 2004.
2- موران (أدغار)، الفكر والمستقبل ، مدخل إلى الفكر المركب، مرجع مذكور، ص70.
كاتب فلسفي
[1] موران (أدغار)، الفكر والمستقبل ، مدخل إلى الفكر المركب، ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، طبعة أولى، 2004،ص66. بتصرف
[2] موران (أدغار)، الفكر والمستقبل ، مدخل إلى الفكر المركب، مرجع مذكور، ص70.
© 2016 Microsoft الشروط الخصوصية وملفات تعريف الارتباط المطوِّرون العربية