23 ديسمبر، 2024 6:14 ص

التعددية والتنوع العرقي والفكر السياسي والتوافقية والاشكاليات وامكانية التطبيق الواقعي والصحيح !!!

التعددية والتنوع العرقي والفكر السياسي والتوافقية والاشكاليات وامكانية التطبيق الواقعي والصحيح !!!

“الديمقراطية التوافقية” أحد النماذج المقترحة لمعالجة مسألة المشاركة في المجتمعات التعددية، فهي خلافاً للديمقراطية التمثيلية، لاتستند الى عناصر التنافس في البرامج والاستراتيجيات، والاحتكام الى منطق الاغلبية الحاكمة والاقلية المعارضة، والإعتماد المتواتر على إسلوب الاقتراع أو الانتخاب، بل تعتمد أساساً على مواصفات بناء التحالفات الكبيرة التي تضمن للمكونات الاساسية فرص التمثيل والمشاركة في صنع القرار من أعلى هرمه الى أسفله من دون الخضوع لسلطة الأغلبية.

اذ تحتفظ الاقلية بحق النقض أو الاعتراض ما يجعل قدرتها على مواجهة الاغلبية وتجنب هيمنتها متاحة وممكنة على صعيد الممارسة وهو ما لاتتيحه الديمقراطية التمثيلية، على الرغم من إعترافها بشرعية المعارضة وضمان حقوقها الدستورية في النشاط والعمل من أجل التحول الى أغلبية بدورها.

ولابد من التأكيد هنا أن مصطلح “الديمقراطية التوافقية” ليس من الضروري أن نعتبر أن تطبيقه في العراق معياراً لنجاحه أو فشله لعدة أسباب منها: غياب قانون الأحزاب، والرؤية السياسية الواضحة للحركات السياسية أو الافراد، ويختلف كثيراً عن دول الغرب في التطبيق على الأرض.

فالتعددية في الغرب هي تعددية حزبية حقيقية، وتعني التعددية في البرامج السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهذه التعدديات هي تعددية في الفكر السياسي، الذي يخضع لأنظمة الحكم الرأسمالية الديمقراطية المتبناة في البلدان الغربية، فلا علاقة لهذه التعددية بالقبلية والعشائرية، أو بالأعراق والطوائف، ولا علاقة لها بالأديان والمذاهب، بل تسير في أجواء المبدأ الرأسمالي الذي تسود القناعة به في بلاد الغرب لتثبيت هذا المبدأ وتطبيقه بقوة.

ولكن التعددية في العراق اليوم ليس كما أسلفنا، فهو لم يعرف سابقاً ومنذ تأسيس الدولة الحديثة عام 1921 تجربة ديمقراطية حقيقية أو خبرة سياسية لدى الطبقة السياسية الموجودة أو المواطن الاعتيادي على حد سواء، وهذا أدى بالنهاية إلى الوقوع في فخ “وهم التعددية” الذي يُفهم في مجتمعاتنا على أنه هدم للهوية الوطنية الواحدة، أو تفوق مجموعة على أخرى لم تصل للحكم سابقاً في عهد الحكم الشمولي، وصراع الهويات هذا بطبيعة الحال جزء من التغذية الطويلة للفكر الاجتماعي لفترة المد القومي والاشتراكي الذي ترسخ في عقول الكثير من العراقيين، ولا يمكن بين ليلة وضحاها أن يتقبلوا فكرة التعددية في وطن الأمة الواحدة!!.

وهذه المشاكل السياسية بالحقيقة ليست مُقتصرة على العراق وحده بل على جميع الدول المشابهة في التكوين المتنوع والمليء بالانقسامات التاريخية العميقة بين مكوناته والتي تظهر عادة في فترة الفسحة الديمقراطية بعد حكم الدكتاتورية، يذكر آرنت ليبهارت في كتابه الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، عن الانقسامات العميقة بين قطاعات من السكان وغياب الإجماع الموحِّد لها. وتتعامل الأدبيات النظرية حول التنمية السياسية، وبناء الأمة، والتحول الديمقراطي في الدول الجديدة مع هذا الواقع بطريقة ملتبسة لافتة.

فمن جهة، يرفض كثير من الكُتاب ضمناً الاعتراف بأهميتها. يذهب واكر كونور إلى أن معظم المنظرين البارزين لبناء الأمة قد (مالوا إلى التقليل من شأن المشاكل المتعلقة بالتنوع العرقي، إن لم يتجاهلوا هذه المشاكل أصلاً). ومن جهة ثانية، فإن المؤلفين الذين يعالجون المسألة معالجة جادة يميلون إلى إيلائها أهمية غالبة. من ذلك نجد، أنها تشكل المشكلة الأولى إطلاقاً لمتلازمة لوسيان باي المشهورة للعملية السياسية للمجتمعات غير الغربية. ويذكر “باي” أن المجال السياسي ليس منفصلاً بوضوح عن المجال الاجتماعي والعلاقات الشخصية في المجتمعات غير الغربية: (إن الإطار الأساسي للسياسة غير الغربية هو الإطار الطائفي، ويتلوَّن السلوك السياسي كُله تلويناً واضحاً باعتبارات ذات علاقة بالانتماء الطائفي). وهذه الانتماءات الطائفية هي ما يطلق عليه كليفورد غيرتز (الولاءات الأوليـة)، التي ربما كانت تستند إلى اللغـة، أو الدين، أو العرف، أو المنطقة، أو العرق، أو الروابط الدموية المفترضة.

السمة البارزة من سمات السياسة غير الغربية هي إنهيار الديمقراطية في الكثير من الأحيان. فبعد التفاؤل الأولي في الآفاق الديمقراطية للبلدان الحديثة الاستقلال أو شهدت تغييراً كما شهده العراق بعد عام 2003، والمستند في معظمه إلى الطموحات الديمقراطية التي أعرب عنها قادتها السياسيون، يحلّ مزاج من الخيبة الكبيرة. وهناك نقطة أساسية للسياسة غير الغربية، المجتمع التعددي عاجز عن الحفاظ على الحكم الديمقراطي الجديد وهذا ما نلاحظه اليوم من أصوات تتعالى بالتمسك بمركزية الدولة، أو المطالبة للبعض بالاندماج القسري لضمان الوحدة المزيفة، أو رفع شعارات النظام السابق في الوحدة الوطنية “القسرية” المزيفة!!

لقد تطور الفكر السياسي الديمقراطي التوافقي تجاه الاعتراف بالحقوق الجماعية والإدارات الذاتية لأصحاب الهويات المتعددة (العرقية والمذهبية والطائفية)، وذلك منعاً لاستبداد الأغلبية بالأقلية من جهة، وقطع طريق التأثير الخارجي على الشأن الداخلي من جهة أخرى. والتحديات التي واجهها الباحثون حول كيفية تأسيس نظام ديمقراطي في مجتمع متعدد يتميز بالتنوع القومي والديني والمذهبي ضمن مكوناته بما يضمن الحقوق الأساسية للجميع، ويضمن لهم حماية مصالحهم وتحقيق مطالبهم باستمرار وأن يكون للجميع فرصة مماثلة في صنع القرار السياسي من خلال آليات المشاركة السياسية المعروفة، وهذا التطور بالنهاية إيجابي للعملية السياسية برمتها.

أن قادة وزعماء الطوائف والكتل المتنافسة في المجتمع التعددي يمكنهم أن يضاعفوا من حدة التوتر وعدم الاستقرار السياسي في النظام ككُل نتيجة لسلوكهم التناحري، فإنه يمكنهم أيضاً أن يبذلوا مجهوداً حقيقيا لإحباط ما قد ينجم عن التشتت والانقسام الثقافي من آثار سيئة كالجمود أو زعزعة الاستقرار، و من ثم يمكن تحقيق مستويات من الاستقرار السياسي في النظام تفوق بكثير درجة إنسجامه الاجتماعي. ونجد اليوم أهم أشكال الحلول التوافقية للمجتمعات غير المتجانسة ثقافياً، المتمّثل في قيام ائتلافات حكومية كُبرى تضم جميع الثقافات الفرعية في المجتمع.

جميع الدول التي إنتهجت الديمقراطية التوافقية جاء ذلك بعد حروب أو أزمات سياسية جعلت الأغلبية تعي أن لا مفر من عدم تهميش للأقليات وإعطائها قسطاً من المشاركة في الحكم. عملياً طُبقت هذه النظرية في العراق ولكن هل ستؤتي ثمارها قريباً؟ أم ستكون نتائجها على المدى البعيد؟ هذه هي الديناميكية التي تسبق كل حل أياً كان إذ أن أصحاب الغلبة في الحكم لا يقبلون بالتنازل عن جزء من صلاحياتهم إلا إضطراراً لحفظ وحدة الدولة، وبالنهاية يبدو أن تفعيل نظام الاقاليم الادارية في العراق وفقاً لدستور عام 2005 أصبح أمراً مُلحاً للحفاظ على العراق من أي تقسيم يُرسم له من خارج الحدود، وأن تعي الطبقة السياسية أن نظام الاقاليم يجب أن يكون وفقاً للرغبة الجماهيرية وليس على أساس أقاليم طائفية قد تنشب بينها الحروب والأزمات مدى الدهر!!.

 

ان احتلال افغانستان والعراق من قبل امريكا بالتعاون مع بريطانيا والغرب الديمقراطي وايران جاء في عصرعنوانه حقوق الانسان وحرية الشعوب ودعمها من قبل الغرب اثناء وبعد انتهاء الحرب الباردة واستخدم هذا الشعار لاذابة دول المعسكر الاشتراكي وتقسيمها كالاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا وغيرها ، مما جعل شعوب العالم تشعر بالاحباط والانكسار النفسي والتساؤل عن صدق نوايا الغرب في المنهج الديمقراطي وحرية الشعوب كون الاحتلال الغاء لسيادة الشعوب على ارضها ومما عمق هذا الشعور هو الخريطة السياسية التوافقية التي وضعها الغرب للخروج بنظام سياسي في العراق كنموذج للدول التي ستنضوي تحت ظلال قوة الاحتلال في مناطق التوتر في المنطقة العربية سوريا وليبيا وغيرها من دول العالم .

في العراق ذهب بعض المحللين الى ان الحاكم المدني بريمر لم يدرك طبيعة المجتمع العراقي وكان قاصرا في فهم المعادلات السياسية في العراق متناسين ان الاحتلال الامريكي خطط لالغاء العراق كدولة وفق استراتيجية فرق تسد الاستعمارية البريطانية فجعل من العراق رقعة مقسمة بشكل طائفي متناحر وجعل هذه الاستراتيجية مستدامة بنظرية التوافق السياسي بين المكونات الطائفية والعرقية ، فان امريكا وبريطانيا وايران يدافعون عن بقاء العملية السياسية التوافقية لضمان خروج العراق بشكل دائم من المعادلة السياسية في المنطقة والعالم والاستفادة من الموقع الجيوسياسي للعراق لتحقيق اهدافهم في المنطقة .

التوافقية الاستعمارية في العراق تسقط المعني القيمي للديمقراطية ، اذ تُعتبر الانتخابات النزيهة العنوان الابرز للديمقراطية لانها تضمن للمواطن حق المشاركة في اتخاذ القرار الذي يخص حياته والمساهمة في ادارة شوؤن بلاده وهذا مفقود لسببين الاول تسلط السلاح الذي تهيمن عليه كتلة طائفية وبواسطته هيمنت على مفاصل الحكم وتسلطت على المجتمع وفرضت رؤاها العقائدية بقوة السلاح والتدليس الفكري على المجتمع الذي ساهم بشكل جدي على ان تكون الانتخابات فارغة المحتوى لان الاختيار المبني على اساس طائفي وعرقي وعشائري والذي يدفع بالناخب للاختيار على اساس ضيق الافق الوطني الذي ينتج عن اختيار قيادة فاقدة للمشروع الوطني وجعل المواطنة ملغاة من منهجها السياسي لان الترشح الطائفي والانتخاب على اساسه ياتي بمجموعة غير قادرة على استيعاب المشروع الوطني العام ناهيك عن القصور في الدستور والعملية السياسية التي بُنيت على المحاصصة والتوافقية ، والسبب الثاني انصهار نتائج الانتخابات في بوتقة التوافقية الطائفية والعرقية فتلك من ابرز عيوب التوافقية وفقدان القيمة العملية والسياسية للانتخابات والاهداف العامة لاي انتخابات وهدر للمال العام وباب اخر من ابواب الفساد المستشري في البلاد وتدليس مهين على المجتمع وتسويق الوهم ومسخ حقيقي للديمقراطية ومعناها وغاياتها .

إن الهدف من اي انتخابات عامة او فرعية هو اختيار قيادة تمتلك مواصفات تنافسية في الابداع قادرة على تحقيق التطور في كافة المجالات وتعزز الامن المجتمعي وتساهم بشكل خلاق في تطوير التنمية البشرية وتوظيف مقدرات البلد لصالح ابنائه لكن في ظل التوافقية الطائفية التي شرعت دستور لا يناسب المجتمع العراقي ولم يختاره الشعب بُني على ضوئه عملية سياسية فاسدة لا يمكن ان تبرز من ثناياها مجموعة تمتلك مشروعا وطنيا وتقود البلاد وفق ذلك .

لقد اشاد البعض في انتخابات 2021 على انها الافضل في لوحة المشهد السياسي العراقي لخسارة بعض اطراف العملية السياسية التي نقم عليهم المجتمع بسبب الاذى الذي الحقته هذه القوى المليشياوية بالمجتمع. فالتوافقية التي ستكون هي الحصيلة لهذه الانتخابات وما سبقها تضع هذه الاشادة موضع الاستهزاء وتعتبرها مشاركة في تضليل المجتمع ومدافعة عن العملية السياسية الفاسدة . فاذا كانت الانتخابات اهم ركن من مقومات الديمقراطية فان التوافقية الطائفية والعرقية في العراق انتهاك صارخ للديمقراطية لانها تنسف المعنى والغاية من الانتخابات العامة ومن هنا نقول ان التوافقية في العراق نظرية استعمارية لاستدامة تدمير العراق وابقاء التشذرم والفساد والقتل والتهجير سيد الموقف بموافقة رعاة الديمقراطية وحرية الشعوب في العالم امريكا والغرب. فالتوافقية حسب مواصفات بريمر تتناسب مع الطموحات الايرانية وتتناغم مع مصالحها الاستراتيجية فهي من اقوى المدافعين على التوافقية الاستعمارية لانها تضمن بقاء نفوذها من خلال التقسيم الطائفي فايران دعمت وشكلت مليشيات وقوى متعددة في العراق لابقاء العراق تحت هيمنتها لا يمكن له الانفكاك عنها لا في انتخابات ولا احتجاجات .

ما الذي سيتغير في المشهد السياسي العراقي بعد الانتخابات التي ستفضي ببقاء نفس القيادة الفاسدة وتبقى الكتلة الكردية تتمسك برئاسة الجمهورية والكتلة الشيعية تاتي برئيس وزراء بهوى ايراني واهم مفاصل الدولة الامنية والعسكرية بيد ايران والسنة في رئاسة البرلمان الم تكن هي نفس الصورة منذ الاحتلال وحسب وصفة بريمر للعراق ناهيك عن تقاسم الوزارات والمناصب من مدير عام فما فوق بالمحاصصة الطائفية والعرقية وبقاء الفساد لان كل كتلة ترفض محاسبة اعوانها للحفاظ على التوافقية .

ان التوافقية في النظام السياسي العراقي فضح الصورة التي يرسمها لنا الغرب وامريكا عن الديمقراطية التي يريدها للشعوب الاخرى ونحن نعتبر الديمقراطية التي يصدرها لنا الغرب مثل المنتجات الصينية التي تُرسل للغرب وفق مواصفات عالية التقنية وتلك التي يصدرها للعالم الثالث التي لا تمتلك القوة والمتانة ذاتها

ان اسقاط التوافقية الاستعمارية في العراق وتحرير العراق منها لا يتم الا في ثورة شاملة تنهي العملية السياسية القائمة واقامة نظام ديمقراطي يجعل من الانتخابات وسيلة اختيار قيادة وطنية قادرة على بناء العراق من الشمال الى الجنوب دون طائفية اوعرقية .

 

تجسد الازمة العراقية حالة فريدة للازمة المستقرة ، فمنذ عام 2003 والمسرح السياسي العراقي يشهد دوامة من الازمات السياسية المتتالية ، والازمة السياسية الحالية لاتختلف عن سابقاتها من الازمات السياسية فقد جاءت لتبقى طالما بقي النظام السياسي العراقي في صيغته الحالية ، لقد اصبح العراق مصنعا للازمات السياسية ولايمكن الحديث عن العراق دون الحديث عن ازمة سياسية ماضية او حاضرة او لاحقة وفي كل ازمة تبحث الاسباب وتقدم الحلول وتفتح المنافذ السياسية للخروج من الازمة ثم تظهر ازمة جديدة وبشكل جديد وعناصر جديدة وهكذا الحال في العراق ترحيل الازمات دون ايجاد الحلول والمعالجات .

ويمكن ايجاز حقيقة الديمقراطية التوافقية في العراق بالنقاط التالية :

1- التغيير في العراق جاء كما يقول الساسة العراقيون بمفاهيم جديدة لتكريس الديمقراطية وبناء دولة المواطنة والمؤسسات الدستورية، التي يكون فيها الشعب مصدر السلطات وتكون صناديق الاقتراع هي صاحبة القول الفصل في اختيار قادة البلاد،

إلا أننا وجدنا أن النظام السياسي الجديد في العراق بعد التغيير قد تم بناؤه على أساس حكومة الشراكة، والذي يعني مشاركة الجميع في الحكم وفي صناعة القرار بعيدا عن نتائج الانتخابات وبعيدا عن رأي الناخب العراقي وفق ما يسمى بالديمقراطية التوافقية، وهي ديمقراطية جديدة ابتدعتها القوى السياسية لضمان مصالحها ووجودها في السلطة؛ حيث تفرض هذه الآلية إشراك الجميع في الحكومة ومؤسسات الدولة حسب حجم المكون والحزب والطائفة وضرورة توافق الجميع على أي قرار سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يتعلق بمستقبل البلاد قبل إقراره، الأمر الذي جعلنا نشهد ولادة حكومات مترهلة وبطيئة يحاول كل طرف فيها الدفاع عن حقوق الطائفة والمذهب والقومية التي ينتمي إليها بعيدا عن الهوية الوطنية

ومن خلال تقييم حقيقي للواقع السياسي وآلية الديمقراطية التوافقية نقول بأنها لم تتمكن من إنضاج الفكر الديمقراطي لدى النخب السياسية ولم تساهم في ترسيخ المفاهيم الديمقراطية الحقيقية بما يساعدنا في بناء الدولة المدنية الحديثة، بل على العكس من ذلك نجد أن بعض القوى السياسية أصبحت تتمسك بمفاهيم المحاصصة الطائفية لتكون تلك القوى في موضع الدفاع عن وجودها ضمن السلطة أكثر من العمل على تحقيق مسؤوليتها في إدارة الدولة وحرصها على البناء الديمقراطي

2- الغريب في موضوعة الديمقراطية التوافقية العراقية ان اغلب القوى السياسية الحالية قد تبنت التداول بهذا النموذج عندما كانت في المعارضة واكدت عليه في بياناتها ومؤتمراتها التي عقدت في الخارج خاصة في مؤتمرات لندن وصلاح الدين , وبعد عام 2003 كان مجلس الحكم التطبيق الفعلي لهذه الممارسة ثم وجدت الاطار التأسيسي لها في قانون ادارة الدولة والدستور العراقي عام 2005 وجاءت مبررات التأسيس التوافقي في العراق على اساس التنوع القومي والديني والمذهبي لمكونات الشعب العراقي ولاجل السعي بأرتقاء الفسيفساء العراقي الى الابداع والتميز من خلال ضمان مشاركة الجميع في بناء الوطن ، وكحل واسلوب للحيلولة دون تحول الانقسامات الى اشكال غنف دموية وحروب اهلية ولوضع اساس للتعايش والتوافق عبر تقاسم السلطة … هذا الطرح النظري لم يتحقق على ارض الواقع السياسي العراقي فالحلول والمعالجات التي قدمتها ديمقراطية ارنت ليبهارت التوافقية لم تحقق هدفها في العراق فالتجربة التوافقية تنطلق من قاعدة ديمقراطية راسخة وليست ناشئة والعراق لم يشهد طوال تاريخه السياسي الحديث والمعاصر تجربة ديمقراطية تؤهله للانتقال الى مرحلة التوافق الديمقراطي .

أن الدول الديمقراطية ذات التنوع الاجتماعي، تستند في نجاح الديمقراطية فيها إلى ما أسماه بـ(الديمقراطية الطائفية)، وقوام هذه الديمقراطية هو((أن الميول الصراعية المتأصلة في بنية المجتمع التعددي تقابلها ميول تعاونية أو تصالحية على مستوى زعماء المجموعات المكونة له، ومن شان السلوك التعاوني النخبوي كبح جماح العنف على الصعيد القاعدي ومن ثم تحقيق الاستقرار السياسي))

وعند التأمل الدقيق في هذا الكلام نكتشف طبيعة المأزق الخطير الذي يواجه بناء الديمقراطية في العراق، حيث إن التنوع الاجتماعي لا يصاحبه وجود نخب تصالحية أو تعاونية تخفف حدته وتوجهه نحو السلام والانسجام، بل على العكس توجد نخب تهيجية تلعب على وتر التنوع خدمة لأهداف ضيقة مرتبطة بالسلطة ومن يتولى الحكم، نخب تحرص على صب زيت الإنا الخادع على نار التنوع العدائي وصولا إلى أهدافها ، فيتم تضخيم الإنا السني في مواجهة الإنا الشيعي، والإنا العربي في مواجهة الإنا الكردي أو ألتركماني أو الكلدوآشوري، وبالعكس، حتى صار المواطن في هذا البلد يسأل نفسه كل يوم ألف مرة، ألا يوجد تنوع اجتماعي في بقية دول العالم….. فلماذا نكتوي بنار تنوعنا بدلا من أن يكون ذلك سبيلا إلى ترقينا وتطورنا؟

3- أن تشكيل حكومة المحاصصة (الشراكة) قد تزامن مع ظروف خاصة كان العراق يمر بها – ونقصد هنا عدم استقرار الوضع الأمني وغياب الثقة بين الكتل السياسية – الأمر الذي انعكس على علاقة المكونات الموجودة في المجتمع العراقي، مما جعل القوى الوطنية تقدم تنازلات عن بعض حقوقها والخروج بحكومة يأخذ الجميع فيها حصته بما يتلاءم مع حجمه وحجم مكونه وطائفته في محاولة لبناء أجواء من الثقة بين الشركاء، والمضي معا في طريق بناء العراق من خلال بناء دولة المؤسسات الدستورية وأهمها المؤسسة التشريعية والتنفيذية والقضائية والتعاون فيما بينها خدمة للشعب العراقي.

ولكن ما حدث بعد ذلك لم يكن كما تم التخطيط له، حيث لم يعمل الجميع بروح الفريق الواحد، فتحول الشركاء إلى خصوم في جميع جوانب العملية السياسية ومعرقلين لكثير من البرامج الحكومية التي كانت الحكومة تسعى إلى تنفيذها عبر السنوات الماضية، فرفع الشركاء راية الاعتراض والعرقلة للمشاريع الحكومية ووقفوا في طريق تشريع القوانين التي تسهم في بناء الدولة، وانعكست المحاصصة سلبيا على عمل مؤسسات الدولة سيما البرلمان الذي أصبح ساحة للصراعات والمساومات السياسية بعيدا عن دوره التشريعي والرقابي

وقد كانت عملية عرقلة كثير من القوانين في البرلمان العراقي مثالا على تلك الصراعات التي تعكس سياسة الاعتراض التي يتخذها البعض في عرقلة عمل الدولة والحكومة، وتقف في طريق بناء العراق وتسليح جيشه وإعادة بناء البنى التحتية للبلد الذي عانى من الحروب والحصار والتدمير لعقود طويلة وينتظر المواطن فيه دوره في الحصول على الاهتمام والخدمات التي يستحقها .

قبادات ونخب

4- ان القيادات والنخب العراقية في مختلف توجهاتها الدينية والسياسية ، تهرب من دفع مستحقات التنمية السياسية حيث ان هذه المستحقات تتطلب بعض التنازلات من القيادات والنخب، ان ما تجمع عليه القيادات العراقية في الوقت الحاضر هو بقاء النظام السياسي القائم مع ترميمه من حين لآخر لأنه يحفظ لها دورها النخبوي ويحافظ على مصالحها الخاصة على حساب المصالح العامة وعلى حساب المواطن والوطن ، وهم في كل يوم يرددون الرغبة في اصلاح النظام السياسي وتعديل الدستورلكنهم يريدون الاصلاح الشكلي الذي لايمس جذور الازمة العراقية ولايحقق الاستقرار والامن للعراق .

5- واخيرا وليس اخرا ومن خلال ما تمت الاشارة اليه حول الديمقراطية التوافقية فلعل المشكلات تبدو واضحة وفي مقدمتها حق النقض الذي قد يعارض أهم مبادئ الديمقراطية وهو مبدأ الاغلبية في اتخاذ القرارات خصوصاً اذا ما كانت هذه القرارات ذات ضرورة ستراتيجية وقومية للدولة.حيث ان القرارات الصادرة أو التشريعات لايمكن أن تمرر دون موافقة قادة هذه الفئات كما يشير بذلك روبرت دال وهي من جانب آخر تجعل المشكلة الائتلافية قائمة لأن أي طرف ينبغي أن يحقق قبول لدى الطرف الآخر.

ولعل مشكلة ايجاد حالة التوازن والتكافل في القرارات السياسية قد يكون أمر في غاية الصعوبة خصوصاً ما اذا كانت القرارات تتعلق بفئة معينة حيث ان خطورة المواقف تتعلق بالقرارات المتخذة بشأنها وهذا ما لابد أن يأخذ بنظر الاعتبار في محاولة دراسة وتحليل مثل هذا النوع من النظم.

اذ قد تكون ادارة عملية الحكم ذات صعوبة في مجال التفاوض خصوصاً اذا ما تعلق الأمر بالمصالح وهذا ما يشكل في أدبيات الاستراتيجية أحد المعطيات المهمة في نشوء الأزمة والذي قد يؤدي الى مشكلات خطيرة لا يمكن معالجتها في ضوء التهديدات المتبادلة ووما يزيد الأمر تعقيداً دخول أطراف خارجية أقليمية ودولية تعمل على تأجيج الأزمة الداخلية مؤدية بذلك الى حرب أهلية .

يبقى ان نقول ان البحث في اشكاليات النظام السياسي العراقي ومدى ملائمة نموذج الديمقراطية التوافقية من عدمه يتطلب المراجعة التقويمية الجادة لتشخيص السلبيات والايجابيات والانفتاح على جميع الابعاد التاريخية التي تغذي الصراع السياسي في العراق والتي انتجت وخلقت تراكمات سياسية ثقيلة مازال التعبير عنها ايديولوجيا او دينيا او قوميا بوصفها مبررات لسلوك معين .

واخيرا نتساءل اين يكمن الخلل ؟ هل بتبني نموذج الديمـــــــــقراطية التوافقية ام بالقائمين على تطبـــــــيقها ؟ هل يكمن بحداثة التجربة ؟ ام ان الفرضيات التي طرحنــــــــاها تبقى هي المتغيرات الرئيسية التي لها الفصل في نجاح او اخفاق النظام الديمقـــــــراطي الفدرالي التوافقي .