27 ديسمبر، 2024 12:57 م

التعداد السكاني : الضرورات وعدمها

التعداد السكاني : الضرورات وعدمها

بدءاً ، لا اعرف تفسيراً منطقياً لاولئك الذين صوروا التعداد العام للسكان الذي جرى في العراق الاسبوع الماضي على انه فتح الفتوح والانجاز الكبير والخارق للحكومة العراقية ، رغم انه بكل بساطة يمثل من وجهة نظري فشلاً ذريعاً لاي دولة او حكومة باجهزتها التنفيذية ومؤسساتها المختلفة .

واقول فشلاً ، لانني لم اسمع بدولة متقدمة او ( نص ستاو ) كانت قد اجرت تعداداً للسكان ، لان من المفترض ان تعمل اي دولة على اساس خلق وانشاء قواعد بيانات موثوقة وديناميكية ، تعتمد على صدق المؤسسات وثقة المواطن بهذه الموسسات .. وان تحفظ الدولة ، اية دولة قواعد البيانات هذه بصفة امينة ومحكمة ومستدامة وعبر اجهزة عالية الدقة .. وغير خاضعة للاهواء والمشاحنات الحزبية والاسقاطات والتفسيرات والاهواء الضيقة ..

لم تعر جميع الحكومات العراقية التي اعقبت الاحتلال الامريكي البغيض اي اهتمام للتخطيط المستقبلي ، بل ان وزارة يفترض انها تعمل لمستقبل البلد كانت عرضة لاهواء المحاصصة وتقاسم الغنائم ، وشاب عملها الكثير من اللغط حول الفساد والمحسوبية رغم انها ليست من الوزارات التي ( بيها خبزة زينة ) لهذا المكون او ذاك او تلك الكتلة او هذه .. ولهذا فقد كانت الوزارة حكراً لمكون واحد على مستوى الوزير يلعب بها مايشاء .

النقطة المضيئة في عراق ما بعد الاحتلال هي مشروع البطاقة الوطنية التي اعلنت وزارة الداخلية انها منحتها حتى الان الى حوالي ٤٠ مليون عراقي .. وهذه وحدها جديرة بالثقة لانها لا تمنح الا بعد مراجعة المواطن شخصياً وتقديم كل الوثائق والإثباتات الرسمية ، لذا فان البطاقة الوطنية بكل حقولها هي خط الشروع الاساس لبناء قاعدة البيانات الحقيقية .. والتي تغني عن اي احصاء او تعداد .. والامر المهم الاخر هو انه لو كانت لدى الدولة دوائر تعتمد الحوكمة والاتمتة بكوادر اكاديمية تعرف عملها وتخلص فيه لكانت قد تتبعت كل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمالية والمصرفية والوظيفية وبادق تفاصيلها التي لا حصر لها ، ولكننا ننتظر لنجري تعداداً يثار حوله لغط كبير بتكلفة تقترب من نصف مليار دولار بدافع وضع اسس سليمة لسياسة البلد مستقبلاً .. وفد كان الولى ان يصرف هذا المبلغ على اولويات اشد ضرورة من التعداد ، كما ان مجرد ذكر هذا الرقم يثير الف سؤال وسؤال عن اولويات الدولة في التصرف بالمال العام .. والذي يثير الحيرة والتساؤل هو صمت الوزارة والحكومة على التقارير التي تحدثت عن ادخال الوف الناس الى المناطق المتنازع عليها بهدف تغليب اعداد قومية معينة على اخرى لأغراض ديموغرافية او انتخابية ضيقة .. ومن سخريات الزمان هو ان تصرح دولة  جارة للعراق ( تركيا ) عن قلقها من موجات دخول الاكراد بالالاف الى مدينة عراقية ( كركوك ) بهدف تغيير ديموغرافيتها لصالح قومية ما ، ويمر هذا التصريح مرور اللئام ولا تستنكره او تستهجنه الحكومة العراقية ووزيرها الهمام ، مع انه دائماً ما يعبر عن القلق في امثلة اخرى .

لن اتحدث عن توقيتات وجدوى يومين من حظر التجوال اثناء التعداد وقطع ارزاق الناس بدون مبرر وتعطيل الدوائر الرسمية في يومي عمل .. وكان من الممكن اجراء الحظر يومي العطلة الرسمية ، ولكن المسؤول في عراق اليوم جداً يستسهل جداً وبجرة قلم ولاتفه الاسباب تعطيل مصالح الناس .. ولن اتحدث عن سوء الاجهزة المستخدمة في التعداد كما اشيع ويقال ، او شكليته ، او اعتماده فقط على ما يدلي  به المواطن دون مطالبته بالوثائق التي تثبت بياناته الشفهية  .. او تلك المئات من الالوف من الناس التي لم يصلها العداد ، ولن اتحدث عما استبقه السياسيون بان اولى مترتبات التعداد هو زيادة اعداد اعضاء مجلس النواب حسب القاعدة الدستورية المقدسة : نائب واحد لكل مائة الف مواطن !!  ولكنني اتحدث فقط عن ضرورة ان تعتمد الدولة في رسم مستقبلها على قاعدة بيانات مستدامة بطرق حديثة وكوادر مدربة وآلية سهلة ومتاحة للجميع في الحصول على الوثائق او ايداعها .. وان تضبط أجهزتها ووارداتها بأدق التفاصيل التي تصل الى جزئيات صغيرة ، كما هو معمول في غالبية دول العالم التي تعرف ولاداتها ووفياتها على مدار اليوم ، وتعرف ماذا صدّرت او استوردت وتعرف مستويات الفقر والغنى ، وكم داراً او شقة لديها ، وما هي مستويات الفقر والمعيشة  استناداً الى حركة البيانات اليومية ،  عندها ستعرف الدولة حتى ماذا ستطبخ ربة البيت  العراقية هذا اليوم : هل ستخلصها تمن ومرق بلا لحم ، ام ان في الامر زفر وغموس !