واحدة من الطقوس التي تعتبر متنفسا للبعض هو التوجه في صباح كل جمعة الى شارع المتنبي ..الشارع الذي بات يمثل قبلة للثقافة والمثقفين وربما بعض المتثاقفين ايضا وبالتالي نحن امام كم هائل من تنوع المزاجات والخبرات والمعلومات والثقافات تفرضها غزارة انتاج الوعي لدى البعض وتجارب العمر عند البعض الاخر .
لذلك تجد نفسك تتجول في شارع يمتاز بالتنوع الابستمولوجي وترى وجوها متجددة دائما واحيانا اخرى متكررة لكنها ممتعة ومدهشة في آن واحد ومن هذه الوجوه التي التقيها واستمتع بحديثها وحوارها صديق لي يقارب عمره الستون عاما ..يفيض ملامحا بغدادية وتحديدا من الكرادة
باري الخفاجي الاستاذ المتقاعد دائما ما يتحفني بقصص بغدادية وتاريخية ويعكسها على واقع اليوم باسلوب خال من العقد والتأزم كالذي اتلمسه عند الاخر المتشنج .
وواحدة من حكايته الممتعة التي يرويها لي انه اصابت جدران داره ذات يوم حشرة ( الارضة ) والعابرة له من جاره الملاصق لداره وحين ذهب لمكتب مكافحة الحشرات قدم المهندس الزراعي نصيحته بان تتم معالجة الارضة بمبيدات معدة لهذا الغرض الا انه يجب ان تكافح دار جاره ايضا وعليه ذهب العم باري الى جاره واستأذنه وبالفعل تمت معالجة الارضة وهنا تسأل العم باري من جاره مستغربا كيف يصبرون على العيش مع وجود هذه الآفة فما كان من جاره الا ان اجابه مفتخرا ومبتهجا ما نصه ( احنه مو مثلكم نرفض الحشرات احنه نتعايش وياها ) والحكاية من سنين عدة ولكنه يستشهد بها اليوم وهو يرى مجتمعا بالغالبية العظمى له متعايشا مع الخراب كجاره المبتهج بينما هو والقلة القليلة ترفض هذا التعايش وتحاول محاربته والانتصار عليه .
يحدثني العم باري بألم وحسرة وهو يرى انموذجا مثل جريدة العالم التي ترفض التعايش مع الخراب يؤول امرها الى الاحتجاب والانزواء واعلان توقفها لاسباب ربما لم تعلن بالواقع بينما هناك صحف تعيش وتعتاش على الخراب وهي ما زالت متنعمة بالحضور بين اعين القراء وبغض النظر عن معرفة القراء بحجم خرابها او عدم معرفتهم .
الارضة تأكل جدران عقولنا وتوقع حصون حريتنا وتسقط قلاعنا واحد تلو الاخر ونحن لا نمتلك للاسف الا النظر اليها وهي تنخرنا كل يوم مع اننا نمتلك القدرة على مكافحتها وما علينا الا الذهاب الى اقرب مبيد للحشرات وبيد متخصص ماهر الا اننا ما زلنا متسمرون في مكاننا ومبهورون باكتساح الارضة لذواتنا .