23 ديسمبر، 2024 5:06 ص

التعايش داخل الاسرة

التعايش داخل الاسرة

تعيش الاسرة المسلمة، أقسى الأزمنة وأشدها ضراوة كتحدي لتماسكها وديمومة بقائها فهي واقعة بين مطرقة الخلافات الاسرية التي تنخر في أعمدتها، وبين سندان العولمة والتكنولوجيا الحديثة التي تشارك في صياغة المفاهيم والقناعات والسلوكيات.
لذلك وجب على جميع العاملين والمهتمين بشأن الإنسان وروابطه وعلاقاته التي تنبثق من الاسرة وتحدد معالم وجوده في هذا الكون، أن يجعلوا من (الأسرة) أولوية في اهتماماتهم وشؤونهم الفكرية والمعرفية، والتفكر في التدابير الوقائية والسبل العلاجية التي توفر الحماية والأمان للأسرة كما تقدم لها المعالجات الحقيقية للتصدعات التي تحدث في مسيرتها.
وهذه المقالات، هي جزء من تلك الجهود.
التعايش داخل الاسرة

إدارة المشاعر والانفعالات:
(1)
الحبّ، هو ما يبحث عنه الشباب ليرسو بقواربهم على شاطئه، ومن ثم يمخروا عباب بحر الحياة متوسمين به أملا للسعادة.
ولكن، بعد مرور بضع من الوقت (قد يكون أشهرا أو سنوات)، وبحكم الروتين الحياتي في مؤسسة الاسرة، والالفة للشخص الآخر، مشاكل الحياة، اصطدام الرغبات ببعضها، اختلاف المصالح بين الأطراف وكيفية التوفيق بين تلك المصالح بما يرضي الطرفين، غلبة الطرف الأقوى في بعض الأحيان والذي غالبا ما يكون الرجل، في قيادته للأسرة (كما يفهمها هو)، وفي سيطرته (كما تفهمها المرأة).. لكل ذلك وغيره أثر في زيادة نسبة الخطر لتماسك قارب الحبّ أمام تلاطم أمواج الحياة.
(هي تقول: لم يعدّ يحبني كما كان سابقا).
أكيد عزيزتي الأمر الآن يختلف كثيرا، كان يسمعك كلام الغزل والحبّ لأنك كنت بعيدة عنه، اما الآن فانت بين يديه. لم يكن هناك شاغل لكما سوى هذا الحبّ، أما الآن فلديكما شواغل أخرى كتوفير تكاليف العيش، تأمين احتياجات الأطفال، الديون، المشاكل السياسية، المشاكل مع الاهل والاقارب، صاحب البيت الذي يريد أيجاره في الموعد، الحرب التي اندلعت وربما تأكل احلامكما وبيتكما الصغير… الآن يوجد المئات من الشواغل تزدحم بها حياتكما.
كان يرسل لك الهدايا بين حين وآخر، لأنك كنت خارج أطار حياته، أما أنت الآن فداخل ذلك الإطار.. فهو يعتقد بانك لم تعودي بحاجة الى كلمات الغزل وهدايا الحبّ، لأنك الان تعيشين تفاصيل يومياته وتنفسينه صباحا ومساءً… قربك منه، جعله يعتقد بأنه لم يعدّ بحاجة الى كلِّ ذلك.
(هو يقول: لم تعدّ تحبني، فترت عاطفتها تجاهيّ).
اكيد عزيزي الأمر الآن يختلف كثيرا، فقد كنت فيما مضى بعيدا عنها، تراك حلما تنتظر عناقه، أما الآن فأنت بين يديها.. تتنفسك صباحا ومساءً..
كانت في بداية علاقتكما، تتجمل لك، تريد أن تخبرك بانك حظوت بأجمل نساء الأرض، ولكنها الآن أم ولدك… فهي تعتقد بانها مجرد أن تكون (أم ولدك)، فهذا يكفي … لم يعدّ مهما أن تعتني بنفسها لتراها جميلة… فأكيد هي الآن في نظرك أجمل المخلوقات لأنها أم ولدك (هكذا تفكر الانثى).
لذلك عزيزتي الانثى: الرجل يريدك ان تبقي (أنثاه) الاجمل دوما… فلا تجعليه يشعر بالإخفاق أو الندم… فالحبّ لا يكفي وحده لحياة اسرية ناجحة.
الحياة الاسرية الناجحة، تعني التفاهم، ان يفهم احدكما الطرف الآخر، ماذا يريد؟ كيف يفكر؟ وماذا تعني له الأشياء كما يفهمها هو.
فالرجل يريد ان يرى زوجته دوما، أنيقة وجميلة، حتى لو أصبحت عجوزا وولدت له عشر صبيان، في حين أن المرأة، لا تبالي بالاهتمام بمنظرها وانوثتها بعد وضع أول طفل لها، لأنها تعتقد ان الامر لم يعد له أهمية.. فهي تطبخ وتقوم بأعمال المنزل والأولاد وتقضي حوائجه… وكل هذا بالنسبة لها مؤشرات على حبّها لبيتها وله.
يقول معظم الرجال: (زوجتي لا تهتم بمظهرها وأنوثتها… لم تعدّ تهتم بمشاعري وبرغباتي الخاصة)، يقول آخرون: (عدم اهتمام الزوجات بنا، قد يدفعنا للبحث عما نريد خارج إطار البيت)، فالأمر مهم – عزيزتي – بالنسبة للرجل، مهم أن تظهري اهتمامك به.
معرفة الآخر، عملية مهمة جدا، لأجل ان نبرمج سلوكياتنا طبقا لتلك المعرفة.. فالحبّ بعد الزواج يحتاج الى التفاهم والمداراة لكي يحتفظ بتوهجه..
فالحبّ وحده لا يكفي لبناء اسرة ناجحة ومستقرة.
المشاعر، تحتاج الى مداراة، ومدارتها تكمن في استمرار إظهار الاهتمام بالآخر، بالطريقة التي يريدها هو، لا التي نعتقدها نحن.
والمرأة، تحتاج لكي يبقى حبّها متوهجا، ان يهتم بها زوجها، بالطريقة التي تفهمها هي، والانثى تعشق الكلمة الجميلة، ويُأسرها الاحترام والحنان.. قد لا تفرح بالهدية كما كانت تفرح بها عندما كانت خطيبتك، ولكنها تفرح بالكلمة الطيبة والابتسامة التي تعيد لها النشاط والحيوية..
فكونها أما، لا يعني بأنها لن تحتاجك لتبدو أمامك طفلة صغيرة مازالت مدللة.
تقول غالبية النساء: (لم أسمع من زوجي كلمة جميلة بعد الزواج، كأن الذي كان بيننا رغبة طارئة أنتهى مفعولها بعد الزواج). فيما تقول أخريات: (لم اسمع منه كلمة طيبة ذات يوم، او ثناء على طعام أعددته، أو ثوب جميل لبسته، او تسريحة شعر، او حتى عبارة: رحم الله والديك، عاشت ايدك.. نفتقر الى كلمات طيبة ومحبة منهم).
عزيزي الرجل، رسول الله (ص) يقول: (ليقل احدكم لزوجته اني احبك حتى وان لم يكن)، ويؤكد: (ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم).. تذكر هي أمانة بين يديك.
وتذكر أن الحبّ وحده لا يكفي لإبقاء الاسرة سعيدة..
لأن ضغوطات الحياة، مشاكلها، رويتنها، زخرفها، يكون أقوى من المشاعر.. فإذا أردنا ان نبقي مشاعر الحبّ وهاجة، علينا ان نتقن فن (إدارة المشاعر).. وألا تكون المواقف الصعبة في الحياة الاسرية، سببا في فقدان توهج تلك المشاعر ونقائها..
على الرجل أن يبحث دوما، عن مكامن الفرح لدى أنثاه، ليغذيها بالاهتمام، وعلى المرأة ان تبحث دوما، عن مكامن الفرح لدى رجلها، لتغذيها بالاهتمام..
الاهتمام، هو من يجعل الحبّ وهاجا، قادرا على النبض بحيوية ليمدّ حياة الاسرة بالأمل والسعادة.
فليكن من أولويات كل أمرأه ورجل، ان يهتم بالآخر.. وبذلك تدوم مشاعر الحبّ بينهما، مادام الاهتمام سار المفعول.
وبالنتيجة سينشأ الطفل (الذي هو منتج العلاقة الزوجية وبضاعة الاسرة الإنسانية)، سينشأ مشروع (الإنسان) هذا في بيت يسوده الاحترام والاهتمام والحبّ، فيرى الطفل والده يهتم بأمه، عندما يراها متعبة من أعمال المنزل، فيساعدها أو يطلب منها ان ترتاح قليلا، أو يأخذها الى المطعم، أو يسمعها كلمات الشكر والتقدير لما تبذله من عناء وتعب في تلبية احتياجات المنزل (وهذا أقل ما تطلبه المرأة من زوجها).. كما يرى أمه تهتم بأبيه، فتساعده على شؤون العيش، سواء بالعمل معه لتأمين احتياجات الاسرة او بالاقتصاد المنزلي وتوفير الأموال، تهتم بأبيه فلا تعكر مزاجه، ولا تكثر عليه الطلبات، ولا تكلفه ما لا يطيق.. وتشعره دوما بأنه مصدر حنان وأمان لها وللأسرة.
لنتصور كيف يمكن ان ينشأ هذا الطفل، وكيف سيغدو هذا الانسان في قادم أيامه؟
الحبّ وحده لا ينشأ جيلا واعيا مستقرا، الاستقرار الاسري هو من يفعل ذلك.
فالحبّ يفقد بريقه ووهجه عندما يفقد الرجل والمرأة اهتمامهما ببعض.. وتتحول الاسرة الى ساحة صراع لأجل إثبات القوى وإنفاذ السلطة، ليصبح الطفل حينها مظهرا للعنف المختفي في اللاوعي السلطوي بين أقطاب الاسرة الواحدة.
والأطفال العنيفون، هم مشاريع للاضطراب السلوكي، والتطرف الديني، والعنف المجتمعي.
فعندما نتحدث عن مجتمعات مسالمة، مستقرة، معتدلة، منتجة، فإننا نتحدث عن أسر يسودها الحبّ والاهتمام.