لامجال للحديث عن البناء والتنمية والازدهار الاقتصادي والاجتماعي في بلدان الربيع العربي قبل ترسيخ حد معقول ومستوى مقبول من التضامن الوطني والاستقرار السياسي والشراكة بين القوى السياسية على اختلاف الانتماءات الدينية والقومية والمذهبية والاتجاهات الفكرية والايديولوجية. هذا ما يؤكده الخبراء والباحثون في شؤون التحول الديمقراطي والتنمية والاصلاح السياسي والاجتماعي وهو ما تعارفت عليه تجارب الأمم والشعوب التي بنت نفسها وأعلت صرح ديمقراطيتها وصنعت نهضتها بعد عقود من الديكتاتورية والحكم الشمولي. فالوحدة الوطنية هي مطلب وجودي للشعوب ولابد من الوصول إليها بشعور الجميع بالمسؤولية وليس بالقسر والاكراه والاجبار. فالوحدة في إطار التنوع والشراكة في ظل التعددية هي ركائز أساسية للنهضة الوطنية. إن الانتقال من الاستبداد إلى الحرية ومن التخلف إلى الحداثة ومن الفقر إلى التنمية ومن الاستهلاك الى الانتاج ومن النموذج الريعي الى النموذج التنموي الاستثماري المبدع المبتكر ومن مجتمع التناحر الأهلي والكآبة والحزن والجهل والبؤس والتشدد والانغلاق إلى مجتمع السعادة والمعرفة والرفاهية والانفتاح والتسامح والاقبال على الحياة والالتحام بالحياة العصرية والاندماج بالتطور الكوني كلها تتطلب رجال دولة يتحلون بالحكمة والعقلانية والرشد والوعي والاتزان والنظرة الثاقبة والبراغماتية المسؤولة وسعة الأفق والرؤية الاستراتيجية والنزعة الانسانية والثقافة الواسعة والفكر العميق القادرين على حمل هموم بلدانهم وقيادة التغيير وانجاز المصالحات الكبرى وعقد الصفقات التاريخية التي تحقن الدم وتجفف بؤر الثأر والانتقام، إنهم الساسة المؤهلون لحمل أمانة الأوطان والمضي إلى أمام عبر تعزيز التماسك الاجتماعي واللحمة الوطنية والسلم الأهلى وترسيخ قيم التكافل والتعاون والتكامل وإشعار المواطنين كافة بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات وأن الوطن وطنهم جميعاً وأن العدالة والمساواة هي القيم الثابتة والمركزية في الحياة الجديدة وأن المستقبل سيحتضن الجميع وسيقطف الجميع ثمار الإخلاص والمثابرة والعمل من أجل الوطن، وحين يكون الحكم رشيداً قادراً على أن يكون مظلة لكل القوى السياسية والاجتماعية ضمن أطر ديمقراطية ومؤسسية، دستورية راسخة وسياسية واعية مرنة، ومتمكناً من تفجير وتثوير الطاقات والأحلام والآمال والطموحات والابداعات ليسعى الجميع إلى تحقيق الذات الفدرية والجماعية من خلال الخدمة الوطنية والمشاركة في الحياة العامة والاندماج في الهم الوطني ونبذ الأنانية والعزلة وأوهام الخلاص الفردي، حينئذٍ لن تكون المدرسة مجرد مدرسة عادية لتعليم الصغار بل سيعطي المعلمون والمعلمات كل جهودهم وطاقاتهم وستتفجر طاقة الابداع والابتكار والتفنن في خدمة الأجيال الجديدة فتتحول المدرسة إلى بوتقة تنموية وحضارية ومعرفية تنقل وتوطن تجارب الأمم والبلدان الاخرى في الأساليب التعليمية والتربوية وستكون الجامعة والمصنع معاقل ثورة تنموية حقيقية تتفاعل فيها رؤوس الأموال الفكرية والأخلاقية والقيمية والاجتماعية للمجتمع الساعي للنهوض والمتطلع للمستقبل.
وعليه فإن على رأس أولويات أجندة الحكم الرشيد للحزب الحاكم في أي بلد من بلدان الربيع العربي ينبغي أن يأتي إدراك أن أعظم إنجاز يتحقق لحزب في السلطة هو الوحدة الوطنية والتضامن بين أبناء الوطن وشعور الجميع بأن له حق وعليه واجب وأن ثمة أمل في المستقبل وان له دورا فاعلا وصوتا مسموعا وإسهامة حقيقية في بناء بلده وأنه ينال حقه في التقدير السياسي والاجتماعي. يتحتم على الأحزاب الحاكمة أن تتخلى عن أفكار الاقصاء والتهميش والعزل والاستئصال والاجتثاث والإبعاد والنفي. وأن تتبنى عوضاً عنها أفكار الادماج والجمع والحشد والتقريب والتكاتف والتعاضد والترابط ومد الجسور وبناء القناطر وردم الفجوات ورأب الصدع وإذابة الجليد، وأن تعزز قيم التسامح والايجابية والقوة الناعمة والتناغم الوطني والعلاقات الناجحة والتواصل البناء، وكفى بحزب السلطة إثماً أن يضيع أمانة التضامن ويتسبب في تقاتل المواطنين في الشوارع أو تحولهم إلى خنادق وخنادق مضادة بحيث يفرح كل طرف بما لديه من أفكار ومعتقدات حالمة يشعر أن فيها الخلاص فيما الوطن يتراجع على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأن نخبته السياسية في السلطة وخارجها لاتدرك حجم المسؤولية وعظم المهمة وفداحة المخاطر. إن حالة الانقسام السياسي من شأنها أن تستهلك الوقت والجهد وتضيع فرصاً مهمة على الوطن والمواطن وتحول دون انصراف الجهود والامكانات والطاقات لاستثمار الموارد المادية والبشرية ورأس المال الحضاري وفق تخطيط سليم ومنظور ناضج لتحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي كأساس للتقدم الديمقراطي، وكما جاء في شعار الثورة المصرية الذي نادى بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، فالخبز يمثل الحاجات الاساسية للفرد من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وزواج ويرتبط بها حق التعليم وحق الرعاية الصحية، والحرية هي الحاجة السياسية والمدنية التي توفر للفرد حين يستثمرها بمسؤولية التقدير الاجتماعي والترقي الذاتي، والعدالة الاجتماعية هي القيمة التي تضمن حصول الجميع على حقي الخبز والحرية بدون تمييز وبدون استئثار أو استحواذ أو احتكار أو تداول محدود للثروة بين الأغنياء والمتنفذين والسلطويين الفاسدين. وبالتالي فإن التشرذم السياسي والتفسخ الاجتماعي هما أبرز عائق أمام مساعي الشعوب لقطف ثمار الثورات التي قامت بها للإطاحة بأنظمة الاستبداد وتغيير الواقع وصناعة نهضة حقيقية تمنح الانسان العربي فرصة الحياة المدنية الحديثة التي تتمتع بها شعوب اوروبا والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية أو حتى تركيا وماليزيا.
إن توفير البيئة الصحية السليمة لعملية البناء الديمقراطي وما يرافقها من انكباب على التنمية والاعمار والاصلاحات الاقتصادية الهيكلية والجذرية واستكمال البنية التحتية والفوقية يتطلب من الجميع سلطة ونخبة وجمهوراً مستوى عالٍ من الشعور بالمسؤولية الوطنية وإدراكاً عميقاً لضرورة التضامن الوطني للعبور ببلدان الربيع العربي إلى بر الأمان. الأمر الذي يفرض تثبيت مدونة سلوك ديمقراطي وعقد تعايش سياسي يتضمن مجموعة قيم ومباديء وآليات ووسائل لتحقيق التعايش الايجابي والبناء والتكاملي بين مختلف القوى السياسية الفاعلة سواء كانت في السلطة أو المعارضة، وتكون وظيفة هذه الوثيقة هي تحقيق التعايش والتفاهم والتلاقي على المشتركات والسعي الدؤوب لحصر القضايا الخلافية في أضيق مساحة ممكنة ليكون هذا هو الهدف المشترك الأسمى بين أطراف العملية السياسية. إن من واجب الحكومة أن تكون مظلة للجميع وأن تجمع القوى وتوحد الجهود وتحشد الطاقات في مشروع وطني شامل بعيداً عن الاقصاء والتهميش والإلغاء والاستحواذ والاستئثار. فعلى الحكومة أن تضمن تحقق الشراكة الوطنية وديمومة الحوار وتصون التعددية السياسية فهذا هو سبيل النجاح. قال تعالى: “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” (آل عمران:159)، فالفظاظة السياسية والاعلامية من قبل حزب السلطة تؤدي إلى الانفضاض الوطني من حول الحكومة فتتخلى عنها المعارضة وتقف ضدها على طول الخط وتبدأ تتصيد لها الأخطاء ولذلك لابد من اعتماد استراتيجية اللين والمرونة والتفاهم الناعم والخطاب السياسي والاعلامي الرشيد المتزن والكلمة الطيبة والدبلوماسية الهادئة والحوار الشفاف وانتقاء الشخصيات التي تتمتع بكفاءة الحوار والتواصل ومد الجسور وبناء العلاقات وتوطيد الصداقات وتمتين الشراكات وصياغة التفاهمات وصناعة التوافقات، هذه الشخصيات المسؤولة الحكيمة ينبغي ان تتسيد المشهد وليس الشخصيات المتشنجة أو المتوترة أو المنغلقة أو المؤدلجة والعاجزة عن التواصل مع الآخر. ولابد من الالتزام باستراتيجية العفو والصفح والتغاضي والترفع عن الصغائر والأمور التافهة والتركيز على المعالي والأمور العظيمة والاستراتيجية والشاملة والسياسات العامة التي تخدم مجموع المواطنين، والالتزام بالتوافق الوطني والتشاور وتبادل وجهات النظر والشفافية التامة والأبواب المفتوحة والافصاح الدائم عن المعلومات كأساس للحياة السياسية في مرحلة بناء وتشييد الصرح الديمقراطي.
وكما هو معلوم فإن المشاركة لا المغالبة شعار رفعه الإخوان المسلمون منذ وقت مبكر في مصر ليكون عنواناً عريضاً لمشاركتهم في الحياة السياسية في عهد مبارك، وهو شعار مهم ويدل على حكمة وذكاء، ولكنهم لم يلتزموا به حين آلت السلطة إليهم بعد ثورة يناير بل استأثروا بالسلطة وزهدوا في مشاركة الآخرين ودخلوا معهم في مغالبة دستورية وسياسية واعلامية تسببت في مواجهات عنيفة بين المصريين في الشوارع، فلا يمكن اعتماد شعار “مشاركة لا مغالبة” وقت الشدة السياسية في زمن الاستبداد ثم التخلي عنه وقت الرخاء الديمقراطي والحرية فالمشاركة ليست ضرورة براغماتية للمعارضة في وقت الانحباس الديمقراطي فحسب بل هي أيضاً حاجة حيوية لمن يمسك بالسلطة في زمن الانتقال الديمقراطي فلا أحد يستطيع أن يحكم بمفرده ولا أحد يريد للفوضى أن تسود فترة حكمه وبالتالي لابد من إرضاء الجميع من خلال تفعيل المشاركة وهنا من المهم التأكيد على ان لايكون الإرضاء بتوزيع الحصص وتقاسم كعكة السلطة على طريقة المحاصصة الطائفية والحزبية والفئوية ولكن المطلوب هو الاستفادة من كل الطاقات ضمن مشروع وطني شامل لايزهد في أي طرف بل يستوعب الجميع ويحتوي كل الأطراف عبر تشكيلات مؤسسية ديمقراطية حديثة يتم اعتمادها لهذا الغرض بحيث تتم “مأسسة” عملية المشاركة ويصبح الجميع ضمن المشهد الوطني فلا يشعر أي طرف بالاقصاء أو التهميش. ليس هذا فحسب بل لابد من المحافظة على حالة التضامن الوطني والحذر كل الحذر من انفراط العقد أو حصول انفضاض إذ لابد من الحكمة الدائمة واستيعاب كل نقاط الخلاف وتحقيق التوافق حولها لأن التضامن الوطني له الأولوية على كل شيء سواه.
ومن المباديء التي ينبغي المحافظة عليها من قبل كل من السلطة والمعارضة هو “التكامل قبل التنافس” فهم متكاملون متعاونون في بناء الوطن وهم متنافسون وقت الانتخابات من خلال البرامج والرؤى وأن يكون التعاون هو ميدان التنافس فحين تسود روحية المصالحة والوئام والتقارب والتفاهم واللين في المشهد السياسي يكون الطرف الأقرب إلى الجمهور هو الطرف الأكثر حرصاً على التعاون والتكامل والتقارب بحيث يتحول هذا الى عرف وأصل وقيمة راسخة في الحياة السياسية ويبدأ الجمهور بتقييم الاحزاب السياسية من خلال معيار التعاون لا معيار الاستفراد بحيث يكون السياسي الألمع والأبرز هو الأكثر حرصاً على التضامن لا الأكثر رغبة في الاستحواذ وتهميش الآخرين. إن مبدأ التعاون يتطلب المبادرة دائماً من قبل المعارضة بتقديم المشورة المخلصة بطريقة ذكية تميط اللثام للحكومة عن جوانب لم ترها أو كانت خافية عنها وتقدم لها مشروعاً متكاملاً للنجاح. إنها سياسة تبادر ولا تنتظر المبادرة من الآخر. ومن المهم كذلك أن لاتنشغل الحكومة بالهموم التنفيذية عن الاصغاء الى المعارضة واشعارها بانها ليست خصماً بل شريكاً حقيقياً في البناء والتنمية وتطوير الحياة السياسية وتكريس الديمقراطية والتعددية، إذ يتعين على الحكومة أن تعتمد مبدأ “التشاور الوطني” وأن تجيد صنعة التشبيك بين السلطة التنفيذية والتشريعية في عملية الاصلاح السياسي والحكومة والاقتصادي وأن تتعلم فن الاستماع والمراجعة والتقويم والاستدراك فالحكومة يتوجب عليها اعتبار المعارضة عوناً لا خصماً وشريكاً لا عدواً وضرورة لا ترف وأن تتخذ من مبدأ التعاون بين الحكومة والمعارضة فلسفة ومنهاجاً للمرحلة الانتقالية. وعلى المعارضة أن تكون عقلانية رشيدة تكسب الحكومة من خلال الاعتراف بوجود نصف مملوء من الكأس قبل أن تتهجم على النصف الفارغ منه مع الاعتراف بحق المعارضة في الاشارة الصريحة الى السلبيات والاخطاء ونقد السياسات والاحتجاج عليها ولكن مع الالتزام بالشعور بالمسؤولية الوطنية تجاه الفترة الانتقالية التي تمر بها بلداننا وضعف الثقافة الديمقراطية، وهذا يتطلب التفسير الايجابي لمواقف الحكومة، وتلقيها بموضوعية، وقراءة سياساتها بواقعية وتقديم النصح بطريقة دبلوماسية بناءة مؤطرة بشرح مكامن مصلحة الوطن والحكومةً. المعارضة ينبغي أن تقوم بدور الناصح الأمين والمرشد الحكيم فهي معارضة “هادئة وهادفة وهادية” كما يقول الاتحاد الاسلامي الكردستاني في العراق، هادئة بدون صراخ ولاتشهير ولا انفعال، وهادفة لأنها تهدف إلى الاصلاح لا الدخول في مهاترات ومناكفات، وهادية لأنها تريد أن تهدي صانع القرار إلى طريق الرشد ومكامن الصواب. أما مظاهر الفساد والفشل والفوضى في الأداء الحكومي فينبغي أن تتعامل معها المعارضة بحزم سياسي وصرامة قانونية ولكن مع الالتزام بالعقلانية والأساليب المهنية والأداء البرلماني المؤسسي والخطاب الاعلامي الهاديء وضمن أطر حوارية دبلوماسية ناعمة لاتفجر الأزمات ولا تضر بحالة التضامن الوطني.
وأما “عدم الاستقواء بالخارج” فهو مبدأ أساسي آخر يفرض الرشد على طرفي التدافع السياسي من سلطة ومعارضة الالتزام به فلا تستقوي الحكومة على المعارضة بحلفاء إقليميين أو دوليين الأمر الذي يجعل الحكومة مجرد أداة لتنفيذ أجندات خارجية وبذلك تفقد الشرعية والمصداقية ويصبح استمرارها في السلطة أزمة خانقة تعاني منها البلاد، ولا تلجأ المعارضة إلى الاستعانة بطرف أجنبي لنجدتها أو تدعيم موقفها في صراعها مع الحكومة لأن هذا فعل يتعارض مع السيادة الوطنية من جهة، ويتسبب في إضعاف موقف المعارضة ويعطي السلطة حجة للتشدد إزاء مطالبها ومقترحاتها من جهة أخرى. والواقع أن مسألة الاستقواء بالخارج تحظى في منطقتنا بالكثير من الجدل بسبب التقليدية في التفكير وشخصنة المواقف وتصيّد الزلات لذلك تتهم المعارضة عادة الحكومة بالخيانة عندما تدير العلاقات الدولية للبلاد بطريقة لاترضي المعارضة أو لم تستشرها فيها فيما تبادر الحكومة إلى اتهام المعارضة بالعمالة للخارج إذا نادت بدور أممي أو اتصلت بمؤسسات دولية أو تداولت مع دول أو قوى خارجية أو بدت كمن يدافع عن مصلحة دولة أخرى.
ومن المباديء الأساسية أيضاً تفهم موقف المقابل ومحاولة التقمص الفكري والنفسي للمخالف والتفكير بعقليته ودراسة هواجسه ومخاوفه إذ ينبغي أن تتفهم الحكومة وجهة نظر المعارضة وأن تتفهم المعارضة وجهة النظر الحكومية بخصوص مختلف القضايا الوطنية بعيداً عن القناعات المسبقة المترسخة لدى أي طرف تجاه موقف الآخر. وبالتالي تحتاج مسألة التوافق الوطني واحتواء الازمات إلى أن يكون هناك مجلس علاقات سياسية وطنية منعقد على مدار الساعة ليقوم بفك الاشتباكات وتوضيح المواقف وتبادل وجهات النظر ويجب أن يرشح كل حزب سياسي لهذا المجلس شخصية معروفة بالامكانات الحوارية والدبلوماسية والقدرة على بناء التفاهمات والتوافقات. إن القوى السياسية في العالم العربي لاتدرك للأسف أن التوافق هو انجاز سياسي للأطراف المتوافقة كافة وليس مكسباً لطرف على حساب آخر فالمرونة ليست تنازلاً والحل الوسط ليس خسارة والالتقاء في منتصف الطريق ليس هزيمة وتحقيق الربح ليس بالضرورة أن يتضمن خسارة للمقابل كما إن خسارة المقابل لا تعني ربحك بل العكس فإن الخسارة شاملة في أكثر الاحيان مثلما يمكن أن يكون الربح والمكسب شاملاً والمطلوب هو أن نفكر بعقلانية تجعلنا نؤمن بضرورة أن يكون الربح للجميع على أساس القاعدة التفاوضية:”أربح أنا، تربح أنت” بعيداً عن فكرة الصراع الصفري الذي يقول: ربحي خسارة لخصمي وربح خصمي خسارة لي بل الأجدر والأجدى والأجمل والأجلّ والأجود هو أن نقول لبعضنا: نربح سوية أو نخسر سوية، ومن هنا ننطلق في عملية التفاوض.
ومن مباديء التدافع الايجابي بين الحكومة والمعارضة تحمل المسؤولية بصورة مشتركة وتضامنية، فالحكومة يجب أن تتحمل المسؤولية حين تمسك بالسلطة ولا تتنصل عنها، فلايمكن أن يجلس حزب سياسي على كرسي السلطة ويبقى متمسكاً بلبس ثوب المعارضة فينتقد ويصرخ ويحتج على الأوضاع في الاعلام وينادي بالويل والثبور ولا يحمل نفسه مسؤولية ما يحدث أو مسؤولية التحرك لمعالجة الخلل بل يبقى متشبثاً بالعيش في الماضي يكرر ويجتر ما كان يفعله أيام الاستبداد قبل ثورات الربيع العربي. والمعارضة يجب أن تتحمل المسؤولية مع حزب السلطة في الشدة والرخاء، وحين يصيب وحين يخطئ، ولا نعني هنا أن تتحول المعارضة إلى تابع ذليل للحكومة تجمل لها خطاياها في أعين الجمهور بل المطلوب هو عدم تضخيم الخطأ لتحقيق مكسب سياسي على حساب الاستقرار الوطني وعدم الزج بمصالح الوطن والمواطن في مزايدات سياسية ومهاترات اعلامية ومناكفات برلمانية بل التعامل بموضوعية وعقلية اصلاحية وعدم التتبع والشماتة بل التقصي عن الحقائق بهدف الاصلاح وعدم التشهير بالمسؤول التنفيذي في الإعلام بل النقد البناء والتصويب الرشيد. كما إن لغة التخاطب السياسي يجب أن تكون محكومة بأخلاقيات وضوابط إنسانية فلايجوز أن تنتقص الحكومة من شخوص المعارضة ولا تنتقص المعارضة من شخوص الحكومة وإذا حصل هذا من أي من الطرفين فعلى الطرف الثاني الترفع والتسامي عن الرد وعدم الدخول في مهاترات اعلامية صبيانية.
إن المشاركة في الحكم الرشيد لبلد يعيش انتقالاً ديمقراطياً يتطلب من الحكومة والمعارضة الاستشعار الدائم للمسؤولية الوطنية، فتعاون الحكومة وتفاعلها مع المعارضة ينبغي أن يكون غير مشروط كما أن تعاون المعارضة مع الحكومة يتحتم أن يكون غير مشروط هو الآخر، فالشعور بتلك المسؤولية الوطنية يلزم من الجميع النهوض بأعباء الوطن والتواصي بالحق والصواب والتناصح بدون شروط مسبقة تعيق عملية التوافق الوطني فالواجب هو الاتفاق على مباديء مشتركة فيها نجاح الجميع وليس وضع الشروط من طرف على طرف. إن مرحلة الانتقال الديمقراطي وما فيها من مصاعب ومعوقات وتحديات كبرى تتطلب من الجميع التفكير بعقلية “وطن لا طائفة”، و”دولة لا مكوِّن”، و”أمة لا حزب”، وهذا يفرض نبذ عقلية الانغلاق والانطواء والانعزال فلا بد من الاندماج عبر سياسات تتعايش لا تتناقض، وتتناغم لا تتنافر. هذا هو المطلوب من الحكومة التي لاينبغي أن تعزل نفسها في برج عاجي بعد حصولها على السلطة بل ينبغي ان تزيدها السلطة تفاعلاً وتواصلاً وتشاوراً وتشبيكاً للعلاقات والجسور والروابط مع الآخرين لأن العزلة ستجعل الحزب الحاكم يصاب بأمراض السلطة وأولها انعدام الواقعية والانفصال عن الشارع والعمل ضد الذات والتعصب والغرور والكسل والجمود والفساد. والاندماج مطلوب من المعارضة أيضاً، وليس الانسحاب والسلبية والصراخ في وسائل الاعلام والاستقواء بالشارع المنفعل أو بالخارج المتربص لان هذه السلوكيات ليست بطولة ولا سياسة ناجحة ولا تمنح صاحبها زعامة ورمزية بل تحط من شأنه وتضعف صورته مستقبلاً لأنه سيكون جزءاً من الأزمة ومسعر حرب وصانع فتن ومتسبباً في عنف أهلي داخلي وتدخل خارجي. والاحترام المتبادل للحقوق والمسؤوليات والصلاحيات والادوار والوظائف ضرورة أيضاً، إذ ينبغي على الجميع احترام الدستور والقانون والأعراف السياسية الراسخة فيجب احترام استقلالية السلطة التنفيذية عن التدخل في قراراتها أو التجاوز على صلاحياتها دون أن يمنع ذلك السلطة التشريعية من ممارسة دورها الرقابي والتشريعي ومحاسبة ومساءلة الحكومة على أدائها باستقلالية كاملة وحرية تامة. وكذلك عدم لجوء الحكومة إلى تأويل نصوص الدستور بطريقة تقلل من شأن المعارضة او تضعف مكانتها او تكبلها او تمنعها من اداء دورها او أن تمارس الحكومة الابتزاز والمساومة والضغوط ضد المعارضة لثنيها عن ممارسة واجباتها.
ومن مباديء التعايش بين الحكومة والمعارضة عمل كل من الطرفين في إطار تصور استراتيجي لا انفعال وقتي، والعمل بعقلية تعاونية تكاملية تفاعلية بهدف الإصلاح لا الدعاية، واعتماد سياسة عملية هادفة لا جدلية عدمية. وهذا المبدأ يتعلق بمستوى القدرات الذهنية السائدة في مجتمعاتنا والتي تعاني من هبوط ملحوظ على مستوى النخب السياسية والجمهور على حد سواء، فالتفكير سطحي ساذج، وضيق الأفق وغياب الحكمة والرشد سمة غالبة، والشخصنة، وعدم القدرة على ضبط الانفعالات، والتعصب والعدوانية، واللعب بالاوراق الدينية والمذهبية واثارة النعرات الفئوية كلها من المساويء الأخلاقية والسلوكية والممارساتية السائدة في عالم السياسة والاجتماع في بلداننا العربية. إن التعايش الديمقراطي البناء بين القوى السياسية يتطلب أن يكون لدى كل طرف من الحكومة والمعارضة تصور استراتيجي لما يريد أن يفعل وكيف يفعل ومتى يفعل ومن يقوم بالفعل ولماذا يقوم بالفعل فلايمكن أن يتم العمل في غياب الخطة وانعدام الرؤية وبالتالي يقع الجميع ضحية التخبط والارتجال والفوضوية والعشوائية والتشتت واللاهدفية. كما إن إدارة الأزمات لاينبغي أن تكون بالانفعالات وردود الافعال والصراخ عبر مكبرات الصوت وإثارة العوطف وتأجيج المشاعر وإلهاب حماس الجماهير للنزول إلى الشوارع فيحدث الاحتكاك العنفي بين المواطنين ويتعرض السلم الاهلي والامن الاجتماعي والاستقرار السياسي لمخاطر جمة. أما مواطن الخلل والقصور في العملية السياسية فيتم اصلاحها من خلال الحوار المباشر الشفاف بين الحكومة والمعارضة عبر طاولة مفاوضات تتمتع بالشرعية الديمقراطية تحت قبة المؤسسات الدستورية ووفق الآليات القانونية والنقاش السياسي المتزن الهاديء ومن خلال مصارحة ومكاشفة ومساءلة متبادلة فلا يمكن أن تكون المواجهة بين الحكومة والمعارضة عبر وسائل الاعلام من خلال تبادل الاتهامات والتسقيط والتخوين. ونحن هنا بكل تأكيد لا ندعو إلى التعتيم على وسائل الاعلام ومنع وصولها إلى المعلومات حول كواليس النقاشات السياسية والحوارات الدائرة والاتفاقات التي يتم التوصل اليها بل لابد ان تقوم القوى السياسية بالتواصل مع وسائل الاعلام ليكون الجمهور على اطلاع دائم على مايجري لكن ما ندعو إليه هو عدم تحويل وسائل الاعلام الى منبر لتبادل الشتائم بين السياسيين وتأجيج الشارع وإثارة النعرات وتكريس حالة الاحتقان السياسي.
وحين نتكلم عن التعايش السياسي بين الأحزاب الفاعلة فإن من الشعارات السياسية المفيدة ذلك الشعار الذي رفعه حزب الاتحاد الاسلامي الكردستاني في تسعينيات القرن الماضي، وهو حزب سياسي اسلامي كردي عراقي، إذ رفع شعار: لانثور ولانثير ولانستثار. بمعنى انه لايثور من تلقاء نفسه لأتفه الاسباب فيتسبب في قلب طاولة الحوار الوطني، ولا يثير الاخرين باستفزازهم، ولا يستثار بان يسمح للاخرين باثارته واستفزازه، فهو محافظ على هدوئه واتزانه وملتزم باستراتيجيته. إن اعتماد سياسة عقلانية بعيدة عن الانفعال أو الانقياد وراء العاطفة وعدم قلب الطاولة في أول تباين في وجهات النظر بين الحكومة والمعارضة بل النفس الطويل والصبر والحكمة كلها أمور مطلوبة يضاف إليها الذكاء السياسي المتقد والتفكير بخطط بديلة والعصف الذهني للبحث عن مشتركات جديدة كل هذا أساسي في إدارة الحياة السياسية، ففي مسار الاصلاح السياسي يتعين ان يكون السعي دائماً موجهاً لبناء الصواب وتكريسه وتعزيز موقف أصحابه قبل الانشغال بفضح الأخطاء أو تهديم المخطئين. كما يتحتم التركيز على نقد الذات قبل الانشغال بمخاصمة الآخر. هذه مباديء أساسية من المهم أن تتبناها السلطة والمعارضة معاً. إن السلطة التي تنشغل بسفاسف الأمور والقضايا التافهة ويكون لها متحدثون كثر يملؤون شاشات الفضائيات ويمارسون اللغو الاعلامي ويوزعون الاتهامات لقوى المعارضة والصحفيين، هذه سلطة تفتقر إلى الرشد والوعي والشعور بالمسؤولية. كما أن المعارضة الخاوية سياسياً والتي تحترف المتاجرة بالأزمات وتنشغل بهدم الآخر وتشويه صورته ولا تستشعر المسؤولية الوطنية وتحرف الحقائق هي أيضاً معارضة متورطة في العنف الأهلي حين ينشب وهي ذئب دموي حتى لو لعبت دور الحمل الوديع.