مرة أخرى يفشل الأعلام العربي في التعامل مع حدث سياسي من الطراز الثقيل، فالملاحظ غياب مصطلحات سمعناها كثيرا، كالمصداقية، والحقيقة، والحيادية وأخيرا المهنية، فظهر الانحياز المفرط الى طرفي النزاع في الازمة المصرية بشكل واضح لا يقبل اللبس، وتعمدت وسائل الاعلام الاستهزاء بالقيمة الفكرية والعقلية للمشاهد، وجعلته يبدو كمتلقي جامد لا يتفاعل مع الحدث الا بالأتجاه الذي ترسمه هذة الوسيلة الاعلامية أو تلك.
وما يثير الأنتباه في الأزمة المصرية الأخيرة، التعاطي الإعلامي الغريب لما يعتبران أهم وسيلتي أعلام في منطقتنا العربية الا وهما مؤسستي “الجزيرة والعربية”، فالمتابع لهما ولموقعيهما الألكتروني يجد حجم الانحياز المخيف في النقل الاخباري للحدث، بشكل يجعلنا نتصور أننا أمام حدثين تختلف معطياتهما ووقائعهما، وطريقة معالجة طرفي النزاع فيهما، ربما لا يجمعهما سوى الزمان والمكان، فكل من المؤسستين كانتا حريصتين على نقل الحدث ذاته بشكل مغاير عن الاخرى، فيما المُشاهد أختلطت امامه الحقيقة فضاعت المصداقية.
تميزت عناوين أخبار الجزيرة بالأنحياز المفرط لجماعة للأخوان المسلمين، فيما كانت العربية لسان حال الحكومة المصرية الحالية، وتحولت الأخبار إلى حوارت تكشف الصراع بينهما، فمراسلي الجزيرة ينقلون في خبر عنوانه أن “أنصار مرسي يحشدون انصارهم ويستعدون لانتفاضة بالمحافظات”، وردت العربية بـ “مغادرة جماعية لمعتصمي رابعة بعد تأمين خروج آمن لهم”، من جهتها كانت “كاميرا الجزيرة توثق مقتل اثنين برابعة العدوية”، في الجانب المقابل كانت العربية تبث “فيديو يظهر مجزرة ارتكبها الإخوان بقسم شرطة كرداسة”، وتتابع العربية هجومها بفيديو أخر يظهر “الإخوان يلقون مدرعة من أعلى جسر.. ويمثلون بجثث جنود”، هنا تبدأ الجزيرة بأستعمال ضغوط خارجية حيث تنقل عنوان “أميركا تدرس إلغاء مناورات مع مصر” في الأشارة للعزلة الدولية التي بدأت تفرض على الحكومة المصرية، فيما تعاطت العربية مع الخبر ذاته ولكن حاولت تخفيفة بأدراج تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش إيرنست، والذي لم يذكر “ما يشير إلى أن الولايات المتحدة مستعدة لقطع المساعدات العسكرية لمصر على الفور”، وتستمر حمى حرب العناوين بين الطرفين، وفيما اوردت العربية خبر تحت عنوان “الأقباط في مرمى الإخوان.. والحصيلة اعتداء على 52 كنيسة”، لم تذكر الجزيرة في أي من عناوينها اشارة لهذة الحادثة وكأنها لم تحدث اصلا، كل من المؤسستين يتعمد صياغة الخبر بما يتلائم وسياسته وأنجدته، وللانصاف لم تسقط الجزيرة والعربية فقط في خطأ الانحياز المكشوف، لابل أغلب المؤسسات الاعلامية في منطقتنا العربية حذت حذوها، فالصحف الرئيسية وأغلب القنوات الفضائية المصرية تواصلت في مهاجمة الاخوان المسلمين وتحميلهم وزر ما حدث، فيما وسائل الاعلام الاسلامية هاجمت الطرف الاخر وحرضت بشدة على استمرار العنف وسوقت بكراهية لأجندتها.
وهنا تبرز عدد من القضايا والتساؤولات، يا ترى اين المهنية من كل ذلك؟، واين الحيادية في نقل الخبر؟، أين القواعد الأحترافية في العمل الصحفي؟، وهل من المفروض بث الأخبار بكل هذا الكم من التحريض، ما يجعل الخصوم أكثر وحشية احدهما في مواجهة الاخر؟.
أن المشكلة تكمن في صياغة الخبر وطريقة تقديمه للمتلقي، فمراعاة المهنية وتقصي الحقائق وعدم تشويهها أو محاولة الالتفاف عليها، والتلاعب بالكلمات بما يخدم اجندة سياسية معينة، تلك اساسيات لا جدال فيها، وبالوقت نفسه يمكن لأي وسيلة اعلامية تحليل الخبر والتعليق عليه وفق قرائتها للحدث، وطريقة رؤيتها له.
ولكن في ضل غياب الأعلام المستقل، والذي من اسس وجوده الأعتماد على مصادر ذاتيه في التمويل، تعمل وفق مبدأ الربح والخسارة، بعيدا عن اموال الممولين والتي تُقدم من اشخاص، وأحزاب، وشركات تجارية، وبعض الدول والحكومات، التي لكل منها اجنداته الخاصة في التلاعب بتوجيه بوصلة الكلمة، والتي اصبحت سلاحا فتاكا في عالم اليوم، بما يخدم مصالح هذة الجهات السياسية.
مؤسساتنا الإعلامية العربية لاتزال مرهونة لهذا الطرف أو ذاك، فتغيب الحقيقة وتسقط المصداقية صريعة هذة الجهات، ومع سقوط الحقيقة تراق دماء الابرياء على منبر الحرية المزيف، حينها تتلقى حيادية ومصداقية الأعلام الصفعة تلو الأخرى.