لا يخفى إن التظاهرات وسيلة مهمة وفاعلة للضغط على الحكومة والبرلمان او كليهما للبحث عن قرارات ترضي المتظاهرين الشرعيين وتقليل الخسائر إلى أدنى الحدود ، وعندما ترتفع أصوات المتظاهرين ويزداد عددهم ويتوسع انتشارهم فان ذلك يربك كائن من كان في مواقع المسؤولية والقرار ، فيضطرهم لا بتسريع اتخاذ الإجراءات ومحاولة السيطرة على الأمور قبل أن تخرج زمام الأمور عن الحدود فحسب وإنما بإيجاد المعالجات الممكنة ، ومن المفترض أن يلجا المتفهمون لمراجعة النفس ودراسة وتحليل أسباب التظاهرات وكيفية حدوثها بهذا الشكل وإتباع الحكمة والموضوعية منعا لحدوثها وتكرارها في كل المرات ، وهذا منهج العقلانيين والنزيهين و يمكن إتباعه وتعميمه على الكثير من الحالات ، فالساعين للخير يجدون من التظاهرات وسيلة لمعرفة المسافات والانحرافات التي تبتعد عن الأهداف لتصحيحها ومعالجتها بالتعاون مع المخلصين والحكماء ، كما إن الشريرين والفاسدين وغيرهم ( في حالة عدم استخدامهم القوة والقمع للمواجهة والإنهاء ) ، فان بإمكانهم أن يستفيدوا من التظاهرات لمعرفة مدى انفضاح أمرهم وكيفية اتخاذ الإجراءات التي تجعلهم بمنأى عن المساءلة والمحاسبة ، فقد تتطور الأمور للمطالبة بتدخل القضاء او الجهات والمنظمات الضاغطة او الأممية فتتحول القضية إلى محاكمات وأحكام قاسية بمصادرة الأموال او الحبس وربما الإعدام ، وتشهد تجارب الشعوب العديد من الأمثلة التي انتهت اغلبها بالإدانات والعقوبات وبعضها وصل إلى القتل او بمحاكمات صورية محلية او بتدخل المحاكم الدولية ، ومعظم الحالات التي تجعل من الحكام او متخذي القرار في أعلى درجات الإحراج وتعرضهم لأعلى المحاسبات تتعلق بمن يتغاضى عن ارتفاع الأصوات فيلتزم الصمت ويظهر عدم الاكتراث ويدير ظهره ليجير الذنب على التاريخ او الآخرين فيقدم قرابين ككبش فداء فتبدأ جولة في الفوضى وتبادل الاتهامات ، كما إن هناك من يتوهم إن هكذا أمور يمكن تسويفها فيعالجها بمجموعة من الإجراءات والقرارات التي ربما توقف النزيف ولكنها لا تداوي الجروح ، فتعاد الجروح ليصيبها الالتهابات التي ترافقها الحمى التي لا يفيد بعدها غير البتر او الكي وهناك من يعول على عامل الوقت فيراهن على المسكنات كوسيلة لمعالجة الأمور وللأسف فان البعض يتصرف وكأن الله غافل عن ما يعملون .
إن العبرة من خروج التظاهرات ومنها تظاهرات تشرين التي لا تزال حية في اغلب محافظات العراق ليس ترفا او بطرا او لتمضية أوقات الفراغ ، فقد اقترنت التظاهرات بتقديم تضحيات بالأرواح والدماء وصلت إلى عشرات الشهداء ومئات الجرحى من المتظاهرين والقوات الأمنية والمدنيين كما استنزفت خسائر وتكاليف سواء بإحداث أضرار في الممتلكات او توقف الأعمال او فوات الفرص ، كما إنها أثارت قلقا بين السكان وتغييرا في أنماط سلوكهم بعد فرض حظر التجوال وإيقاف خدمات الانترنيت وقطع الطرق وتعثر الدوام وارتفاع الأسعار وتذبذب الأسواق ، وفي بعض ألأحيان خرجت التظاهرات عن أشكالها المألوفة للناس مقارنة بالتظاهرات التي شهدتها البلاد سابقا او المظاهرات التي تجري في الدول الأخرى ، إذ تبدو هذه التظاهرات وكأنها ساحات للمعارك تستخدم فيها مختلف أنواع وسائل القتل والأذى والردع رغم إن الهدف المعلن هو حماية التظاهرات والمتظاهرين وبذل الجهود لعدم حرفها عن سلميتها كونها ممارسة مسموح بها بدستورنا والقوانين الأممية ، ولا نعلم إن تحقيق هذا الهدف وسط الدعوات للمحافظة على سلامة المتظاهرين وأبناء الوطن من الشرطة والجيش تستلزم سقوط 400 شهيد و15 ألف جريح وتحول العديد من الأماكن إلى مستشفيات للميدان ؟ ، ولم تكون التظاهرات عبارة عن وقفة احتجاج او تجمهر وينفض بعد أسماع الأصوات او اتصال رسالة لمن يعنيهم الأمر بل تطورت المشاهد إلى العديد من الممارسات التي لا نريد الإسهاب في وصفها لكي لا نضطر للإيحاء بالخروج عن الحياد بشأنها فهي صورة ليست تقليدية او ثلاثية الأبعاد ، والمهم هو كيفية معالجتها بما يرضي جميع الأطراف ويمنع التدخل الأجنبي بما في ذلك فرض وصايا واملاءات وبما يعرضنا لمزيد من الخسائر ويعقد الأمور ، ومن المفترض أن تكون المعالجة في صلب المطالب وليس على طريقة ( يخوط بصف الاستكان ) والمطالب واضحة للجميع منذ الدقائق الاولى لانطلاقها ولكن هناك من يحاول أن يبسط الأمور لأكثر من التبسيط فيحولها إلى أمور ومنافع ذاتية ، ومن صور التسويف أن هناك من ينادي بدعوة ممثلين عن التظاهرات للتفاوض معهم حول الحلول رغم إن الحلول معروفة وممكنة ولكنها تستلزم الإذعان للحق والتحرر من الضغوط ، ونحن لا ندعي الفهم أكثر مما يعرفه المتظاهرون او ممن يمتلكون الحلول والإمكانيات ولكننا نتمنى لصياغة نهايات غير عقيمة لهذه التظاهرات واعتبارها فرصة للجميع في إزالة معظم التراكمات وتصحيح ما يمكن تصحيحه من أخطاء وانسدادان .
ان تأخير إعداد موازنة 2020 لكي تكون متوافقة مع الحلول فيه دلالة على المحاولة لإيجاد الحلول وما تتطلبه من إمكانيات مادية ، ولكن المشكلة إن اغلب الحلول لا تأتي من خلال الأموال والتخصيصات وإنما تحتاج إلى (ماسسة ) لحلول جذرية تعالج أسباب المشكلات وجذورها وليس ما يظهر منها من تداعيات ، فما فائدة أن نخرج 250 ألف موظف إلى التقاعد ونأتي ببديل عنهم والوظيفة العامة حسب الإحصاءات المعلنة لا تعمل بمعدل يفوق ال20 دقيقة والى ابن نتجه ونحن نعسكر المجتمع ونزيد حجم القوات المسلحة والأمن في وقت نستورد ابسط الأشياء التي يمكن أن نزرعها بحدائق منازلنا وما ناتج استهلاك أكثر من 20 ألف ميكا واط اغلبها للاستعمال المنزلي ونحن لا ننتج نصف ما نستهلك من الطاقة الإنتاجية وما فائدة أن نتبع أفضل الطرق الديمقراطية ونحن نكبل متخذي القرار والمشرعين عندما تقاد البلاد بأنظمة غير صالحة للاستخدام العراقي ، والقصد من كل ما تقدم هي الدعوة في البحث عن أجود القرارات في المعالجات ، فالتظاهرات حق مكفول والاستماع لها وتنفيذ المفيد من مطالبها ليس ضعفا بل هي أم الشجاعة لان العناد جهل وجبن ، والجمع بين الأضداد صعب في الكثير من الحالات لذا لايمكن أن يلتقي الهدر مع الإصلاح لان في ذلك ضياع في الأرواح والفرص والزمن والأموال ، وفي الوقت الذي نقف فيه جميعا لتحقيق المنافع والامتيازات لأبناء شعبنا المظلوم لإعادة حقوقهم المشروعة وتعويضهم عن جزء من الحرمان ، فان المطلوب ليس الهبات وإنما الرشد و الجودة في القرارات وليس الترقيع للإرضاء وغلق الأفواه ، والبدايات الصحيحة تؤدي إلى النهايات السعيدة ويتطلب العمل بالجودة البحث والإصلاح في أسس الفعاليات الاقتصادية والسياسية والأمنية ، وهذه الأسس لا تتطلب زيادة في عدد المتقاعدين والعاملين بلا أعمال لأنها سترهق اكبر الموازنات لان الصحيح أن نعيد الصناعة والزراعة والسياحة ونستثمر كل الموارد لزيادة الناتج المحلي وتقليل الاعتماد على إيرادات النفط ، كما إن الإصلاح يعني إعادة النظر بنظم التربية والتعليم والتدريب بما لا يبقي الفرد يبحث عن وظيفة للاسترزاق وليس للإنتاج ، وكلما كانت القرارات مفيدة وتسهم لتوفير الأعمال وازدهار الحياة وإسعاد الناس كلما كانت الحلول الأخرى بسيطة لان السياسة والأمن هما من مدخلات او مخرجات الاقتصاد الفاعل القادر على توفير فرص العمل وإشغال العاملين وسد احتياجاتهم وإشباع رغباتهم ، ونتمنى أن لا ننخدع جميعا بالشعارات والأكاذيب التي تشغلنا عن حل مشكلاتنا الحقيقية فالحلول الحقيقية هي في جودتها وجوهرها لا بحجمها وكمياتها ، وان متطلبات توفيرها وتنفيذها متوفرة في الموازنات التي تهدر كل عام في الصراعات والرغبة في الاستحواذ والإنفاق في المواضيع التي تزيد من العطش والجوع والجنوح للفساد ، ومن واجب الحكومة ومجلس النواب أن لا يزيدوا من الأعباء دون تحقيق مردود واضح وصريح كما إن من واجب الشعب أن يراقب الأداء فما ينفق هو من ثرواته لان الحكومة والبرلمان يتبدلان كل أربع سنوات أما الشعوب فإنها باقية منذ أجيال لأجيال .