أتفاق لحل سلمي في سوريا, أبعد شبح الحرب..بالتأكيد إن دمشق ستعطي الكثير, بيد أنها تأخذ الكثير أيضاً, فهي معادلة (الأرض والسلاح)..كل طرف يتاح له تحقيق الجزء الأهم من الهدف, فالبيت الأبيض لا تشغله القضايا الإنسانية بقدر أهتمامه بمصالحه في المنطقة والتي يعدها جزء من الأمن القومي الأمريكي وأمن إسرائيل, وهذا ما يكشفه تصريح الرئيس الأمريكي باراك أوباما بوقتٍ سابق بقوله “إن استخدام السلاح الكيميائي في سوريا يمثل خطراً جدياً على الامن القومي للولايات المتحدة ولبلدان اخرى في المنطقة. وبناء عليه، ينبغي محاسبة الاسد”, كما أكد أوباما “أن العملية العسكرية ستضعف قدرات الأسد وتساعد في إنهاء الحرب الأهلية الدائرة منذ قرابة الثلاث سنوات”. وأضاف “أن هذا الهجوم سوف يكون جزءا من استراتيجية أوسع لزيادة دعم المعارضة والسماح لسوريا في النهاية بتحرير نفسها من هذه الحرب الأهلية الرهيبة والقتل وغير ذلك مما يشاهد على الأرض”. في خفايا هذا الحديث تنكشف رغبة عارمة في إدامة الصراع المسلح عبر أحداث توازن ميداني, فالجيش السوري حقق نجاحات فكك خلالها المجاميع المسلحة وشلّ قدرتها على المناورة والمبادرة..إضعاف القوات النظامية يفرض توازن يتيح ديمومة الحرب المستعرة في سورية, ويأتي ذلك عبر توجيه ضربة لمواقع أستراتيجية تشكّل خطراً على المصالح الأمريكية وأمن إسرائيل.
لم يكن الأتفاق الروسي الأمريكي باليسير, غير إن عوائق العملية العسكرية المتعددة سهّلت الأمر كثيراً..مع تراجع حلفاء البيت الأبيض (بريطانيا) بسبب رفض مجلس العموم التدخل العسكري و (المانيا), طغت رغبة كبيرة لدى الشارع الأمريكي لتفادي الدخول في صراع “سوري داخلي”. إن ذلك التراجع في قرارات الدول المؤثرة في خيار الحرب والسلم, مضاف إليها عدم أمكانية إستحصال تفويض أممي بقرار العمل العسكري بسبب الفيتو (الروسي- الصيني), ما كان ليثني إرادة الأدارة الأمريكية التي سلّمت المشروع إلى “الكونجرس” يعطي الحق للرئيس بالتدخل ضمن خطة معلومة وبتوقيتات ثابتة, فأصدقاء الولايات المتحدة لهم رغبتهم الجامحة في تقويض النظام السوري وقد عد الرئيس الأمريكي أحد أسباب التدخل العسكري ما عبر عنه “بمصداقية الولايات المتحدة أمام أصدقاؤها في المنطقة”.
جاءت مبررات القرار الأمريكي ضعيفة ومتنوعة, في محاولة لإقناع الرأي العام بأي شكل من الأشكال, أتضح العجر الذي وقعت بها إدارة الرئيس “أوباما”, الأمر الذي جعل الجانب الروسي يتدخل بقوة مستغلاً الفرصة لأثبات قوته ومحوريته, ولعل موسكو رأت الوقت مناسب جداً لكسر القطبية الواحدة. إن تأكيد الإدارة الأمريكية على محدودية الضربة وعدم أستهدافها للنظام كانت تمثل رسالة صريحة لحلفاء الأسد (روسيا, إيران, حزب الله) لتتجنب أي تدخل قد يقدم عليه أحد هذه الأطراف, ولا شك فأن أي تطور سيجعل المنطقة كلها تشتعل.
توقيتات الضرية العسكرية شكّلت أحجية للعالم, فبدأ الحديث عن سيناريوهات الضربة ومدتها الزمنية, غير إنها لم تحدد موعد دقيق رغم تحمّس الداعمين والقائمين على العملية العسكرية..السبب هو إما ضعف المعلومات الأستخبارية, أو تيقنها برد قاسي وغير متوقع من الجانب السوري وحلفاؤه سيما (حزب الله) الذي لم يصدر منه أي تصريح منذ بداية الحديث عن التدخل العسكري. يبدو أن الرئيس السوري نجح في الأختبار الأول, وحسب ما أشارت إليه بعض التقارير, فإن المضادات السورية أسقطت طائرة أمريكية وأربعة صواريخ “توماهوك” . وقد أفادت صحيفة ‘أوكلاهوما بوست’ نقلاً عن مصادر عسكرية أمريكية بأن “طائرة اف22 رابتور قد تحطمت شمال الأردن”.
فيما قال الخبير العسكري (جون بلو ريد) للصحيفة “إن إسقاط طائرة اف22 رابتور يؤكد أن سورية تمتلك منظومة صواريخ اس300 محدثة أو صواريخ اس 400 وتوقع الخبير الأمريكي توتر العلاقات الروسية الأمريكية على إثر تزويد روسيا لدمشق بصواريخ اس400”
وحسب صحيفة ‘لوس انجلس تايمز’ الأمريكية, فأن تقارير عسكرية أفادت “إن الدفاعات الجوية السورية أسقطت أربع صواريخ توماهوك أمريكية” وأضافت الصحيفة نقلاً عن مصادر “إن واشنطن قصفت الصواريخ الأربع لجس النبض السوري”.
وسط تسارع الأحداث وأنشغال العالم بالحدث الأهم (الضربة العسكرية), أستطاع الجيش السوري تحطيم أغلب أوكار (المعارضة المسلحة), وفي أوج التناقضات برزت المبادرة الروسية المتضمنة لحل سلمي قائم على تدمير السلاح الكيماوي السوري..أعقبتها مباحثات طيلة ثلاثة أيام بين وزير الخارجية الأمريكي (جون كيري) ونظيره الروسي (سيرغي لافروف), تمخض عنها أتفاق يرمي إلى إزالة الأسلحة الكيمياوية السورية بحلول منتصف 2014، على أن تسمح دمشق للمفتشين الدوليين بدخول أراضيها في مهلة أقصاها نوفمبر المقبل بغية التثبت من إتلاف الترسانة الكيماوية. وبموافقة الرئيس الأمريكي على المقترح الروسي والتي سبقتها موافقة سوريا وأطراف دولية أخرى, تحول مسار الأحداث إلى توقف العمل العسكري وتغليب الحل الدبلوماسي.
جنّبت القوى العظمى منطقة الشرق الأوسط من حربٍ مفتوحة, فيما خابت آمال العديد من الدول الداعمة للحرب والمتطلعة لعالم عربي غارق بالدماء. لقد تمرّست تلك الدول على أباحة الدم عبر تصدير فتاوى التكفير وتخصيص الأموال الطائلة لتحقيق النفوذ في المنطقة على حساب شعوب البلدان التي تختلف معها سياسياً أو دينياً, فوجدت ظالتها في سوريا وقبلها العراق..إن الأتفاق الدولي بشأن سوريا سيضمن للجيش السوري مواصلة تقدمه الميداني, مما يعرض المسلحين لحصار خانق, فالحكومة السورية تمتلك منظومة أمنية مدّعمة بجهد أستخباري عالي المستوى ولها رصيد شعبي قادر على حفظ الوضع, الخطوة القادمة ستكون أحكام القبضة على التنظيمات المسلحة, سيما إن جزء المعارضة المدني سيكون ضمن أتفاق “جنيف2” المؤجلة.
إن المجاميع التكفيرية تشكل شبكة معقدة من العلاقات الدولية وتحوي في صفوفها عشرات الجنسيات والألوان, وهي على أرتباط وثيق بالأشقاء الآخرين سواء كانوا في أفغانستان أو مصر أو العراق..المرحلة المقبلة ستشهد بحث تلك الجماعات عن الملاذ الآمن والبيئة المناسبة لإعادة تنظيم صفوفها ثم الشروع بإستئناف الأعمال الإجرامية..العراق سيكون أهم وأول الدول المرشحة لهذه المهمة, فالأسباب الموجبة كثيرة, أهمها القرب الجغرافي إضافة إلى متاخمة أوكار المسلحين هناك للمناطق الساخنة هنا, ناهيك عن الضعف الأمني والأستخباري والعسكري الذي تشهده القوات المسلحة نتيجة لإعتمادها على أشخاص لا يملكون الرؤية والفساد الذي نخرها حتى بدت كسيحة, فضلاُ عن عدم الأستقرار السياسي الذي ولّد حالة من الأنشطار المجتمعي الأمر الذي يوفر أرضية لذرائع القوى التكفيرية.
الأعمال الإجرامية التي تشهدها الساحة العراقية, تشكّل إيقاعاً ثابتاً. وبتتبع تلك الهجمات نلاحظ إنها تأخذ شكل منحنى يتصاعد في بغداد ثم يهبط لدرجة الصفر قبل عودته للصعود مجدداً في عمق المناطق الهادئة وبفترات متقاربة (ساعة صفر). قد يتحول العجز الحكومي إلى وبال على الشعب العراقي بدخول مجاميع رافدة للإرهاب المتنامي في البلد, فالعملية العسكرية ضد سوريا بالتأكيد مؤثرة على الوضع العراقي, لكن أفرازات الحل والتوافق الدولي, ستكون مباشرة وأكثر تأثيراً على الوضع الأمني المتردي في العراق, وتتمثّل بسهولة التسلل عبر الحدود العراقية بسبب ضعف الحماية الحدودية أو إنعدامها. ومع تضييق الجيش السوري على الجماعات المسلحة, فإن العراق سيكون محط أنظار تلك الجماعات, لذا يجب أن تتظافر الجهود بين البلدين لتفويت فرصة التواجد في الأراضي العراقية.
يتطلب الأمر أجراءات عاجلة لا تتحمل أي مماطلة أو توافقات مبنية على مصالح ضيقة, أبرزها إنسجام سياسي شامل يتضمن ترحيل كل المشاكل المعقدة وإنهاء الخلافات البسيطة, إضافة إلى ضبط الحدود والشروع بعمليات نوعية تستهدف حواضن الإرهاب, والإسراع بأستخدام التكنلوجيا الأمنية المتطورة (سونارات الكشف القوسية ومناطيد المراقبة وعجلات كشف المتفجرات), علماً إن أسعارها لا تشكل معضلة إذا ما قورنت بالميزانية العراقية.