22 ديسمبر، 2024 8:59 م

التطبيع العربي الاسرائيلي

التطبيع العربي الاسرائيلي

النص:
جدل بنكهة القهوة الكاريبية
– “(موكا) بالحجم المتوسط بدون (ويب كريم) لو سمحتِ”

طلب علاء قهوته بكلماتٍ تخرج مختنقة من خلف كمامه الواقي من خطر الابتسام ثم اخرج بطاقته المصرفية و دفع ثمن قهوته و تراجع خطوتين منحرفاً نحو اليسار ليتيح للزبون التالي طلب ما يريد.

و كماسح ضوئي سلط بصره على الاشياء حوله و اللوحات المعلقة منزلقاً به شيئاً فشيئاً الى الزبائن الجالسين في المقهى و بعض المصطفين في طابور صغير ينتظرون ادوارهم في انتقاء قهوتهم المفضلة.

لمحت عيناه نصف وجه لرجلٍ عربي في الطابور مماثلاً لسحنة بشرته فأومأ برأسه ايماءة تحية رشيقة تخالطها ابتسامة ود.

– “موكا متوسط، تفضل يا سيدي طلبك” قالت نادلة مقهى ( Coffee Tree ) بابتسامة محترف عَجول.

اخذ قهوته و اختار ان يجلس الى منضدة محاطة بمربع ارائك جلدية ناقص ضلع و استل هاتفه الخلوي من جيبه ليتصفح اخر مستجدات الفيسبوك مستمتعاً بالمكان المُتشرب برائحة القهوة المحمصة التي تتميز بها مقاهي مدينة بتسبيرغ الامريكية.

قطع عليه انغماسه في شاشة نقاله حركة جلوس الزبون العربي في الطرف المقابل من الاريكة والذي بادره بتحية عربية ( السلام عليكم ) فرد علاء السلام عليه و سأله:

– من اي البلاد العربية انت ؟

نَحّى العربي كوب قهوتة و طبق (النوتيلا بانكيك) من امامه تاركا فسحة صغيرة على المنضدة تكفي لاستيعاب جهاز حاسوبه المحمول قائلاً:

– انا سعد من السعودية، و انت ؟
– انا علاء من العراق
-تشرفت بإبن الرافدين
– بكم اكثر يا ابن الحرمين

– سُر الاثنان بالتعارف واختصر علاء الحديث بعد ان تاكد له ان سعداً طالب دراسات عليا و قد يحتاج لخلوة دراسية واستأنف تفحصه في جهازه و انهمك سعد بالتحديق في شاشة حاسوبه.

زبون ثالث يستأذنهما الجلوس فتفسحا قليلاً ليتوسط جلستهما في الضلع الثالث للأريكة مراعاةً للتباعد الانساني المفروض على بني الانسان.

القى دانييل الشيخ اليهودي رزمة الجرائد التي جاء بها معه على ما اتسع لها من سطح المنضدة و تناول احداها بوقار شيخوخة مُتعبة و باشر بالتصفُح بهدوءٍ يتناغم مع خيط دخان قهوته الداكنة.

حاجة سعد للتعرف الى الجاليات العربية سيما طلبة الدراسات العليا دفعته لسؤال علاء عن صفة اقامته في الولايات المتحدة.

وقد خاب ظنه عندما عرف ان علاء ليس سوى لاجئ اضطر للعمل في سياقة الشاحنات ليتمكن من تأمين كُلفة العيش لاُسرته.

استشف دانييل من لغتهما انهما عربييان فبادرهما بالسؤال باللغة الانكليزية:

– هل انتما عربييان ؟
فأجاباه بنعم و افصح كل منهما عن بلده.

فانشرحت تجاعيد وجه العجوز دانييل بالابتهاج و اخذ يبادلهما بعض المفردات العربية التي تعلمها اثناء فترة اقامته في الخليل المحتل فوجد الثلاثة شيئاً من الالفة و الرغبة في التعرف اكثر على الاخر.

اتسمت الاحاديث المتقطعة بالتشبث بالمشتركات اللغوية و التراثية بين الشعوب العربية و الشعب العبري و عن اشهى الوجبات العراقية في مطاعم (صمد العراقي ) و (شاكو ماكو الجميرا) التي ارتادها دانييل في زيارته الاخيرة الى دبي.

و لم يُبد علاء تقاعساً عن سرد بعض مخاطر عمل الشاحنات و مغامرات الطريق عندما لمس شيئاً من الرغبة في صدر سعد لسماع شيء عن بيئة عملٍ تُصنف كواحدة من اخطر الاعمال في العالم.

– هل يوجد الكثير من الاخوة العراقيين في مجال الشاحنات ؟ سأل سعد متفاعلاً مع وصف علاء لمهنته.

– علاء : نعم انهم كُثر، و هنالك ايضاً ساقة من كل الجاليات العربية ( من سوريا و الصومال و المغرب و الجزائر و لبنان و …)
– قاطعه سعد ضاحكا ( but NO Saudis ! لكن لا سعوديون ههههه )
– علاء نعم هههه لا سعوديون و لا خلايجة اصلاً.
– فإستدرك دانييل منسجماً بالضحك ( and Definitely no Jews و بالتأكيد لا يهود هههه )

لكن الاحاديث المجتمعية سرعان ما تفقد عذوبتها مع انزلاق الحديث الى الشأن السياسي و الشأن الديني إذ و من دون سابق تلميح ابدى دانييل سروره بمبادرات التطبيع العربية مع إسرائيل مشجعاً مبادرات التصالح و السلام.

فلم يجد علاء و سعد بُدا من اظهار شيء من المجاملة و الانسجام مع عناوين عمومية تلوكها السنتهم بلا طعم ( السلام، حل الدولتين، نحن ابناء عمومة ) لكن علاء لم يتحمل المزيد من التمثيل خصوصا عندما وصف دانييل الشعب الفلسطيني بالاقلية و شبههم بالاقلية الكردية في العراق و انهم يجب عليهم ان ينخرطوا في دولة اسرائيل كمواطني اقاليم و ليس كدولة مستقلة.

قطع علاء عليه كلامه بجملة تُعيد النقاش الى المربع الاول:

– ( نحن نؤمن بالسلام مع الانسان اليهودي وليس مع النظام الاسرائيلي المغتصب المثير للمشاكل و الدسائس في المنطقة).

– (كل الانظمة في الشرق الاوسط فاسدة) رد دانييل مُشتتاً كلام علاء.

عدل سعد جلسته و اتكأ الى الخلف مُعبراً بشكل لا ارادي عن انزعاجه مما آل اليه الحديث و من إنتقاد كل انظمة الحكم الشرق اوسطية بدون استثناء.

– فكِر في الامر Think about it، استهل دانيل بتلك العبارة سؤاله الموجه لعلاء قائلاً:

( ما شأن الشعوب بفساد حُكامهم اذا كان هؤلاء الحكام الفاسدون يسعون نحو تحقيق السلام في المنطقة ؟ ) (اليس ذلك شيئاً جميلا؟) في الامس الامارات و البحرين و اليوم السودان و غدا المغرب و السعودية و ما ان تُطبع السعودية سيطبع الجميع و سيعم السلام، اليس كذلك ؟
قال دانييل جملته الاخيرة ملتفتاً الى سعد.

وبكلمات مُترددة كأنها صدرت من فم سعد بمرسوم أميري جاهز قال مُتَلَكئاً :

– “رأيي و رأي المجتمع السعودي يكون في العادة تبعا لرأي جلالة الملك و سمو الامير إن وجدا ان الخير في التطبيع فبها و الا فلا تطبيع، نحن شعب لا يتدخل في السياسة )”.

و بمكر موروث رحب دانييل بكلام سعد و قال:

– “عين العقل”

ثم ادرك :

– “اعتقد ان تطبيع العلاقات رسميا سيكون قريبا لان سياسة اسرائيل و المملكة العربية السعودية متناغمة في التصدي لإيران و حلفائها و وقف انشطتها النووية و الارهابية، هذا ما افهمه من المانشيتات اليومية في الصحف و النشرات الخبرية ” قال ذلك فاتحاً يديه نحو كتفيه مائلاً برأسه نحو اليسار كمن يريد ان يقول ( على عُهدة القائل)”.

احمر وجه علاء و استشاط غضباً مكبوتا و باغت دانييل بسؤالٍ متهكماً:

– هل لك ان تُخبرني كم رأس نووي في حوزة اسرائيل ؟

– صمت دانييل لبرهة ثم ادرك قائلاً “I don’t know لا ادري”.

— “سمعت في الاخبار يوماً انها تمتلك ٤٠٠ رأساً نووياً” قال علاء و قد قدحت عيناه شرراً.

ثم اردف مُعقباً :

– “اما الارهاب فلما لا نسمي مجازر صبرا و شاتيلا و يافا و القدس و الجولان و القصف الاسرائيلي المتكرر على سوريا و لبنان و العراق بالارهاب ايضا ؟ لما لا نسمي سلسلة الاغتيالات التي خططت لها او ساهمت بها اسرائيل في العراق و ايران لشخصيات بارزة كابو مهدي المهندس و قاسم سليماني و بعض القادة في الحشد الشعبي و العالم النووي محسن فخري زاده لمَ لا نُسمي كل ذلك ارهاباً “؟

– اومأ دانييل بيديه كمن يهش ذبابة من امامه غير مقتنعاً و مُهمهما بكلمات لا تكاد تُسمع:

– “كُلهم قتلة”

– و انتفض سعد من رقدته و انطلق كالسهم الواثق قائلاً:
– ( كُل الذين ذكرتهم قتلة مجرمين يا اخي علاء و قد اشرفوا على قتل اهلنا السنة في العراق و سوريا ).

فرد علاء عليه منزعجاً من تحول الحوار الى منولوج طائفي مُمل قائلاً:

– “قُل انهم اشرفوا على تطهير مناطق اخوتنا السنة من مئات الانتحاريين العرب و الافغان و الشيشانيين ممن تأثروا بالفكر الوهابي التكفيري المتشدد و بفتاوى امام الحرم المكي”.

– “انت شيعي” ؟ بلا ادنى تَحَفُظ اطلق سعدٌ كلمته بوجه علاء كالرصاصة.

– انا مسلم يا اخي و الشيعة مسلمون كما تعلم.

شاح سعد بوجهه عن علاء ملتفتاً الى دانييل قائلاً:

– “كل مشاكلنا مصدرها ايران و ذيولها في المنطقة و مع الاسف يا اخي دانييل ان السواد الاعظم من الشيعة منقاد لإيران”.

مَطَّ دانييل شفتيه و رفع كتفيه كمن ينأى بنفسه عن صراع ليس له فيه ناقة و لا جمل.

ثُم تابع علاء انفعالاته التي يؤججها اسلوب سعد قائلاً:

– “انتم كشعب سعودي لا رأي لكم و الاحرى بكم ان تصمتوا، فلو عقد اميركم ابو منشار صلحاً مع ايران و زار طهران اصبحتم اصدقاء للشيعة كما انتم اليوم اصدقاء لإسرائيل”.

– “خلاص” قالها سعد بالعربي و اردف:
– ” إلزم حدودك” لا تتجرأ على المملكة و اميرها، و بلهجة سعودية “ذيلة اسيادك”.

تحول الحوار الى صدام لغوي بوجوه عابسة مكفهرة و حركات ايد بلهاء و على طرف النقيض ثمة ابتسامة هادئة تُجلل وجه دانييل محاولاً تلطيف الاجواء بين الحين و الاخر ( calm down friends, calm down ) اهدأوا يا اصدقائي اهدأوا، ثم القى نظرة الى ساعة يده قائلاً:

– استميحكم عذرا، علي الانصراف الان لموعد مهم، تشرفت بمعرفتكما.
– ارتشف اخر رشفة من كوب قهوته كأنه يشرب نخب (صداقة اسرائيل) و تناول معطفه و صر جرائده الى كُمه و انصرف تاركاً المجلس للعربيين يتشاجران في جدلية ( صداقة ايران ) ام معاداتها.