23 ديسمبر، 2024 5:17 م

التصوف العقلي محاولة اثباتية مع الفيلسوف الفارابي

التصوف العقلي محاولة اثباتية مع الفيلسوف الفارابي

الواقف على منظومة الفارابي كاملةً لا يجد أن التصوف كان مظهراً عارضاً في فلسفة الفارابي ، فقد كان أبو نصر عقلاً ينشد المعرفة ، وروحاً تأنف الجسم وتشد إلى العلاء ، لترتقي فوق مباذل الحياة ومباهج الدنيا إلى سعادة الحق ومشارف النور، فجمع في نفسه سمو الروح إلى صفاء العقل ، وهكذا إذا أردنا أن نعرف أقدم صورة للأفكار الصوفية عند فلاسفة الإسلام ، وجب علينا أن نصعد إلى أبي نصر الفارابي فهو أول من صاغ الفلسفة الإسلامية في ثوبها الكامل ووضع أصولها ومبادئها ، والتصوف قطعة من مذهب الفارابي الفلسفي وهو ليس بالعرضي كما يزعم كارادي فو ، بل هو تتمة طبيعية لقضايا النفس والسعادة والأخلاق أوثق ارتباط، أضف إلى ذلك أن حياة الرجل كانت بوجه الإجمال كانت حياة عزلة وزهد وتقشف، لكن تصوفه لم يكن تصوفاً روحياً بالمعنى المعروف والسائد مع أئمة هذه النزعة مثل الجنيد (ت298 هـ) و الحلاج (ت 309 هـ) ، حيث أن الفارابي لا يقول بالحلول كما قال الحلاج ، ولا بالاتحاد والفناء كما قال الجنيد(1)، وقبل الحديث عن الموقف العقلي عند الفارابي أود اولاً الوقوف قليلاً عند مفهومي التصوف الروحي والتصوف العقلي لتحديد دلالتهما وتبيان الفرق بينهما :

اولاً _ التصوف الروحي ( العملي ) : وهنا لا نبحث عن جذوره بل نريد معرفة الأداة المعرفية لهذا التصوف، علماً أن موضوع التصوف الروحي هو الذات الإلهية، وغرضه أو هدفه إدراكها أو الاتحاد بها ، و خلاصته يقوم على قهر الجسد وكبح شهوات النفس ورغائبها فسبيله هو الذوق والكشف الشهودي ، والتحرر من المادة وأغراضها ولو أدى ذلك إلى التطرف ، وأتباع طرق خاصة وأساليب معينة تمر بمقامات وأحوال ومواجد وأذواق حتى يصل المتصوف الى حالة اللاوعي والانخطاف ومنها إلى مشاهدة الله تعالى . وهنا تتشعب مذاهب التصوف الروحي

فمنها ما يكتفي بالاتصال والمشاهدة حيث يشعر بما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ومنها ما لايرضيه إلا الفناء بذات الله فيقول بنظريات كالاتحاد والحلول ووحدة الوجود ، كقول بعضهم : إنا الحق … بل أنا أكبر … ليس في الجبة إلا الله … ، وما إلى ذلك فكلُ بحسبه كونها تجربة شخصية ولا يمكن تعميمها ولكن هذه المذاهب جميعاً تتفق على أن طريق التصوف هو الذوق والانخطاف الروحي وليس النظر العقلي المجرد(2). أذن هذا النوع من التصوف وطبعاً هو السائد تكون أداته المعرفية القلب أي أن النفس تصل الى مرحلة الاتحاد أو الاتصال فتكون مستعدة لقبول المعارف بعيدة عن الحس والعقل ، فهم يعدون علومهم قلبية ويجردون العقل من أي دور معرفي ، فالعقل عندهم : عاجز ، والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله(3)، فهذا النوع من التصوف يؤمن بتصفية القلب ، أي إعداد قلب السالك وروحه ليكون محلاً للمعارف الكشفية والإلهامية التي لا يمكن الحصول عليها بدراسة الكتب والتعلم وإنما بالإعمال الصالحة والزهد والجوع والسهر والصمت (4)، لكن فيما بعد سوف نجد الفارابي يخالف المشهور بتصوف يحمل أداة العقل النظري وفيما يأتي بيانه .

ثانياً _ التصوف العقلي ( النظري ) : وهو موضوع بحثنا إذ نُريد التركيز عليه لأن الفارابي جعله مصدراً معرفياً مهماً ، لذا نود الإشارة إلى أن التصوف الروحي كان موضوعه الذات الإلهية ، بينما مع التصوف العقلي سوف يكون الموضوع هو العقل الفعال، والفارابي طرح رؤية في هذا الباب مما جعل تصوفه يوصف بالعقلي وهذا ما سيتم إيضاحه ، فأهم خصائص النظرية الصوفية التي قال بها الفارابي أنها قائمة

على تأمل فكري يقود العقل إلى درجة من الكمال والتأهب، فيصبح العقل قادراً على تلقي المعرفة المطلقة والمعقولات المحضة ، أي أنه يقوم على أساس عقلي ويتجلى ذلك في المنظومة الفيضية، إذ تفيض الصور والمعقولات على العقل الإنساني من عالم الإلوهية .وهنا الحديث عن نظرية الفيض يقودنا إلى الحديث عن النظرية الاشراقية ، لان الإشراق هو أفاضة الأنوار (كما أن الفيض هو إشراق العقول العلوية) ويقوم الإشراق على اعتبار النور مبدأ وجودياً ، ثم تتسلسل الأنوار، اعتباراً من نور الأنوار ليبدأ بعد ذلك عالم الأجساد المادي(5). وهذه الصور التي يتلقاها الإنسان لم تكن في مادة فهي مجردة عن الحس أي لم يكن مصدرها الحواس ، وإنما هو استغراق في التأمل العقلي حتى يصير إلى الإشراق ، إذ يقول الفارابي في حديثه عن الروح الإنسانية (( وهذه الروح كمرآة ، وهذا العقل النظري كصقالها . وهذه المعقولات ترتسم فيها من الفيض الإلهي كما ترتسم الأشباح في المرايا الصقيلة إذا لم يفسد صقالها بطبع ، ولم يعرض بجهة صقالها عن الجانب الأعلى شغل بما تحتها من الشهوة، والغضب ، والحس، والتخيل( وهذه العبارة فيها إشارة إلى مجاهدة شهوات النفس ، وفيها شحنة صوفية إذا جاز التعبير ) ، فإذا أعرضت عن هذه وتوجهت تلقاء عالم الأمر ، لحظت الملكوت الأعلى ، واتصلت باللذة العليا))(6) ، وهنا نسأل الفارابي لمن تحصل هذه المعرفـة الخاصة ؟ التي فيما بعد يترتب عليها الاتصال بالعقل الفعال ، فهل الاتصال يكون بعد أستكمال قوانا العقلية ؟ وهل هذا الاتصال لايكون إلا للخاصة الذين استكملوا العلوم الطبيعية ثم تدرجوا لمعرفة مبادئ العلم الالهي؟(7)، وهنا يجيب الفارابي بقوله : بأنها لا تحصل إلا لذوي النفوس

الصافية التي تطهرت من الشهوات ، وتنزهت عن الانفعالات ولم تستسلم لأوهام الحواس ، فتصبح كالمرايا الصقيلة التي لم تفسد أو تشوه بشيء ، حينذاك ترتسم المعقولات في العقل النظري كما ترتسم الأشباح في تلك المرايا، وهذا يكون عن طريق الاستغراق بالتأمل العقلي فهو بجوهره نظري عقلي يقوم على الدراسة والإعمال الفكرية والتأمل العقلي(8)، إذ يقول الفارابي: (( ويجب إذا كنا نحن ملتبسين بالمادة ، كانت هي السبب في ان صارت جواهرنا جوهراً يبعد عن الجوهر الأول ، إذ كلما قربت جواهرنا منه ، كان تصورنا له أتم وأيقن وأصدق . وذلك إنا كلما كنا اقرب إلى مفارقة المادة كان تصورنا له أتم ، وإنما نصير اقرب إليه بان نصير عقلاً بالفعل.وإذا فارقنا المادة على التمام يصير المعقول منه في أذهاننا أكمل ما يكون))(9)،أي أن وجودنا متلبس وممزوج بالمادة، وهذا الأمر أدى لأن يبتعد جوهر ذاتنا عن جوهر ذات الموجود الأول ، لأنه كلما كان وجودنا أقرب إلى المفارقة منه إلى المادة يكون تصورنا عنه أكثر تكاملاً ، وهذا يحصل نتيجة الجهد العقلي (النظري) التأملي فتكون هذه الكمالية في المفارقة ، لكن هذا لا يعني أن الفارابي أهمل الروح وجعلها تستغرق في ملذاتها ، بل كان يرى أن التلازم طبيعياً بين سمو العقل وانسلاخ الروح عن الدنيويات، إذ يوصي الفارابي جميع السائرين والسالكين في طريق الفيض الإلهي بالوصية التالية:(( أن لك منك غطاء ـ فضلاً عن لباسك ـ من البدن ، فأجهد أن ترفع الحجاب وتتجرد ، فحينئذ تلحق ، فلا تسأل عما تباشره))(10)، أي بمعنى أرفعوا الحجب وأزيلوها وتجردوا لكي تصلوا إلى الفيض الإلهي ، لأنه لا مكان للسؤال هناك … وبالرغم من أن الإنسان محاط ضمن إطار وقالب الجسم

لكنه لا يشعر بوجوده وكأنما مكانه في الملكوت ، وهناك تحصل المعرفة،(( فان ألمت فويل لك ، وان سلمت فطوبى لك وأنت في بدنك كأنك لست في بدنك وكأنك في صقع الملكوت ، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاتخذ لك عند الحق عهداً إلى أن تأتيه فرداً))(11)، أو بلغة فلسفية أن المسعى الحثيث للاقتراب من العقل الفعال، هو دينامية التطهير النظري والعملي من المادة والجسم ، من خلال العقل البشري ، أي إن العقل الهيولاني يعتبر مادة العقل المنفعل الذي صار عقلاً بالفعل ، وهذا العقل صار مادة للعقل المستفاد ، وفي النهاية يصير العقل المستفاد مادة العقل الفعال(12)، فيصبح العقل الفعال حاضراً في العقل المستفاد وتكون علاقة وحدوية فيتحقق الاتصال، وهنا العقل المستفاد له الفضل في هذا الاتصال وتحقق المعرفة الاشراقية المتميز بصبغة التصوف العقلي. ولذا هناك نص قريب جداً في بيان هذه المعرفة ذكره الفارابي في حديثه عن العقل المفارق(( وفعل هذا العقل المفارق في العقل الهيولاني شبيه فعل الشمس في البصر، فلذلك سمي العقل الفعال))(13)،أي إن هذه المعرفة لاتتم إلا بفيض من العقل الفعال، وهذه جنبة أشراقية .

ثالثاً _ العقل المستفاد و التصـوف العقلـي

يتبين أن فلسفة الفارابي بمجملها العام ، سواء ما يتعلق منها بالجانب الميتافيزيقي أو المعرفي ، تقوم على نظريته في العقول ، التي تترتب من العقل الأول إلى العقل العاشر وهو (صلة الوصل) بين العالمين العلوي والسفلي في الوجود والمعرفة ،

فالفارابي يعتقد أن العقل العاشر وهو العقل الفعال (واهب أو معطي الصور)(14) ، هو مستودع الصور العقلية وأن حصول المعرفة البشرية أو أدراك الصور العقلية ، أساسه هو إشراق هذا العقل المفارق على نفوسنا الناطقة عند الاستعداد لهذا الإشراق، وسنأتي إلى بيان هذه العملية التي اصطلحنا عليها التصوف العقلي بيد أن العقل هو اللاعب الأساس هنا. فالعقل الإنساني يسير هنا في تدرج صاعد على ثلاث درجات ، حيث يقوم بالتعقل بشكل دائم ، فدائرة العقل بالقوة هي انتزاع صور المحسوسات ، ودائرة عمل العقل بالفعل ، هي تعقل المعقولات المجردة في العقل بالقوة(15)، وعندما يستطيع العقل بالفعل تحقيق شرطين أثنين ينتقل إلى رتبة العقل المستفاد وهما الاستيعاب الكلي لجميع المعقولات ، وصيرورة العقل بالفعل معقولاً بالفعل والمعقول منه هو الذي يعقل أي حصول مرتبة التأمل الذاتي، حينئذ تحصل الصور معقولة للعقل من حيث هو مستفاد(16)، وهنا مع العقل المستفاد يصبح العقل البشري قادراً على أدراك الصور المجردة ، التي لم تخالط المادة أصلاً ، ولكن العقل المستفاد يستطيع أن يدرك الصور المجردة ، وهي تمتاز عن المعقولات المجردة بأنها لم تكن قط في مادة بحيث تنتزع منها ، ولكنها دائماً مفارقة ، وذلك مثل العقول السماوية أو المفارقة(17). ويترتب على ذلك أن المعرفة الإنسانية لا يحصلها العقل باجتهاده في الواقع بل هي تتجلى في صورة هبة من العالم الأعلى(18)، ولكن هذه المعرفة لا تكون هبة لأي إنسان كان بل للإنسان الذي بلغ مرتبة العقل المستفاد وهذه الرتبة لا تنال إلا بمزيد من البحث والتأمل وتصفية النفس. وهنا يطرح سؤال مهم مفادهُ هل كل ذهن بشري قادر على الوصول إلى درجة العقل المستفاد ؟

الجواب بحسب أدبيات الفارابي يكون كلا ، لأنه أشار في مواطن معينة على أنه لاينالها الا الخاصة وهم الفلاسفة والحكماء وهذا يعني في قبال ذلك يوجد طبقة مضادة لايمكن لها الاتصال وهذا واضح مع الفارابي وتقسيماته في مدينته الفاضلة(19). وبالعودة الى الخاصة التي يكون فيها مرتبة العقل المستفاد ، التي هي أسمى مراتب الإدراك البشري ،لا يبلغها العقل بالفعل ((إلا بعد أن تصير فوق العقل المنفعل أتم وأشد مفارقة للمادة ومقارنة من العقل الفعال …. ولا يكون بينه وبين العقل الفعال شيء آخر ))(20) ، إذ إن إفراد البشر يتفاوتون في معلوماتهم ، نظراً للتفاوت الموجود في مراتب عقولهم ، وكلما أتسعت معلومات المرء كلما صقل العقل النظري الروح وأقترب من أصحاب النفوس الخالدة فإن النفس الخالدة عند الفارابي هي التي تبلغ مرتبة العقل المستفاد ، وتصبح في غنى عن المادة ، قادرة على الاتصال بالعقل الفعال ، فتصبح إلهية بعد أن كانت مادية (21)، فهذا تصوفً مداره العقل النظري مع سعت تطوره ، فيكون العقل المستفاد هو الأمل الأقصى للعقل البشري معرفياً ومن باب تحقيق السعادة وهو الصورة التامة الكاملة له ، وبفضله يمتلك جواز اختراق عالم ما بعد الطبيعة وحيازة شرف التواجد مع الصور المفارقة(22)، وهنا تتجلى النزعة الاشراقية عند الفارابي في نظرية الفيض، حيث تفيض الصور و المعقولات على العقل الإنساني من عالم الإلوهية ،إذ يقول الفارابي: ((الروح الإنسانية هي التي تتمكن من تصور المعنى بحده وحقيقته منفوضاً عنه اللواحق الغريبة ، مأخوذاً من حيث يشترك فيه الكثير ، وذلك بقوة لها تسمى العقل النظري، وهذه الروح كمرآة ، وهذا العقل النظري كصقالها ، وهذه المعقولات ترتسم فيها من الفيض الإلهي كما ترتسم الأشباح في المرايا الصقيلة إذا لم يفسد صقالها بطبع ولم يعرض بجهة من صقالها عن الجانب الأعلى شغل بما تحتها من الشهوة

والغضب والحس والتخيل . فإذا أعرضت عن هذه وتوجهت تلقاء عالم الأمر لحظت الملكوت الاعلى واتصلت باللذة العلياء))(23) . فأصحاب هذه المرتبة هم وحدهم الذين وصلت عقولهم إلى الكمال في صقل مرايا نفوسهم ، وجعلها قادرة على تخليص المعقولات من غواشي المادة ، بالعلم والمعرفة ، ليعقلوا حدساً وإشراقاً ، ما يهبه لهم العقل الفعال من صور ومعقولات مجردة دون اللجوء إلى وساطة الحس(24)، ومن هنا يتضح أن الإشراق و الإلهام المعرفي الذي حصل عليه الفارابي جاء نتيجة تصوف عقلي يقوم على التأمل الفكري والمعرفة ، إذ ((كلما اتسعت معلومات المرء أقترب من العالم العلوي و دنت روحه من مستوى العقول المفارقة فإذا وصل إلى درجة العقل المستفاد أصبح أهلاً لتلقي الأنوار الإلهية وأضحى على اتصال مباشر بالعقل العاشر))(25)، وفي ضوء بيان هذا العقل نرى مدى أتساع عقلنا حتى أنه يستطيع أدراك الصور الكلية للأجسام ، وبذلك تتسع حدود التجربة الحسية وتصير معرفة عقلية ،ومن هنا أرتبط التصوف عند الفارابي بعلم النفس ونظرية المعرفة ، بل أرتبط بالنظريات الفلكية والميتافيزيقية (26). وبعد وضوح الفكرة يتبادر إلى الذهن سؤالان :

الأول هل أن هذا الاتصال الذي تحقق بالعقل العاشر ومن خلاله بدء العقل المستفاد أدراك الصور المجردة من خلال تصوفه هل وصل إلى مرحلة الاتحاد والحلول أم ماذا ؟

والثاني هل أن الفيض والإشراق الذي ذكره الفارابي بحسب النص أعلاه هو مبنيٌ على تصوف عقلي بحت فقط ؟

أما بخصوص التساؤل الأول : فإن هذا الاتصال لا يرقى إلى مستوى الاتحاد والفناء كما ذهب الجُنيد ولا الحلول أو وحدة الشهود التي يقول بها المتصوفة كالحلاج ، إذ

أن الاتصال الذي يقول به الفارابي مجرد سمو إلى العالم العلوي ، والارتباط بين العقل الإنساني ، والعقل الفعال دون الامتزاج بين الواحد والأخر(27)، وأن كان حديث الفارابي عن الاتصال وكيفيته في حقيقته يعود الى جذور أرسطية،لان أرسطو في شرحه للخير الأسمى في الكتاب العاشر(الأخلاق النيقوماخية) يؤكد أنه فضيلة تتكون بالوحدة والتأمل العقلي ، فهو قوة تأملية تكتفي بنفسها وتدرك الحق المطلق ، وفضيلة عليا لأنه يتصل بأسمى شيء في الإنسان وهو العقل ، فأرسطو يرى أن الحياة العقلية غاية في نفسها ، ومتى جد الإنسان في الدراسة والنظر والبحث والتفكير ، تشبه بالله والعقول المفارقة التي هي أدراك مستمر وتأمل دائم(28)، فجوهر تصوف الفارابي نظري عقلي يقوم على الدراسة والإعمال الفكرية حتى يرقى إلى الارتباط مابين الإنسان والعقل الفعال(29)، مع عدم امتزاج أحدهما بالأخر.أما المتصوفة فينظمون بين العبد والرب وحدة غير منفصلة ويقولون بحلول أللاهوت بالناسوت(30).

وأما بخصوص السؤال الثاني هل الإشراق الذي ذكره الفارابي بحسب النص أعلاه هو مبنيٌ على تصوف عقلي بحت فقط ؟ لذا أنقسم الباحثون إزاء هذا السؤال على فريقين :

* الأول: يرى أن تصوف الفارابي قائم على أساس عقلي نظري يعتمد على الدراسة والتأمل ، وطهارة النفس لا تتم عن طريق الجسم والإعمال البدنية فحسب بل عن طريق العقل والإعمال الفكرية أولاً وبالذات ، وهناك فضائل عملية جسمية ولكنها

لا تذكر في شيء بجانب الفضائل العقلية النظرية ، فهم يقللون من التصوف الروحي( العملي) إلى درجة عدم فاعليتها في منظومة الفارابي(31).

* الثاني : يرى أن هذه المعرفة لا تحصل إلا لذوي النفوس الصافية التي تطهرت من الشهوات ، وتنزهت عن الانفعالات ، ولم تستسلم لأوهام الحواس وأعرضت عن عالم الخلق وما فيه من مادة وشهوات(32)، وهم الأقرب إلى الموضوعية بدليل قول الفارابي: (( إن لك منك غطاء فضلاً عن لباسك من البدن ، فأجتهد أن ترفع الحجاب وتتجرد ، فحينئذ تلحق فلا تسأل عما تباشره ، فإن ألمت فويل لك وان سلمت فطوبى لك ، وأنت في بدنك تكون كأنك لست في بدنك وكأنك في صقع الملكوت، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشرٍ فاتخذ لك عند الحق عهداً إلى أن تأتيه فرداً))(33) .

ختاماً

نصل إلى لب الحديث لنقف عند مصدر معرفي مهم أضافه الفارابي إلى الحس والعقل وهو الإشراق ليكون المصدر الثالث في نظرية المعرفة الفارابية ، والتي كان مدارها العقل الهيولاني الذي انطبعت فيه المعارف وغدا عقلاً بالفعل يصبح بالتعقل مستفاداً . لقد مارس العقل المستفاد الإعمال الاختيارية الإرادية الجميلة ، وأعتمد الخير والفضيلة فتحرر من المادة ، وتجلت له الحقائق العلوية فاتسعت معارفه وبات متأهباً لتلقي الفيض والإلهام من العقل العاشر الفعال(34) ، كونه واهب الصور حيث يفيض منه كإشراقات تتنزل على من أستطاع أن يتحرر من قيود المادة ويرتفع إلى مرتبة الكائنات السماوية ، لأن الله الذي يفيض منه إلى العقل الفعَال فإن الأخير يعود ويفيضه إلى العقل المستفاد لهذا الإنسان. بعد تحقيق استكماله الأخير للنفس

الناطقة من خلال القوة النظرية والعملية معاً ، ومن ثم يصبح هذا الإنسان فيلسوفاً ، وبذلك يقول الفارابي:(( وإذا حصل ذلك في كلا جزئي قوته الناطقة وهما النظرية والعملية ، ثم في قوته المتخيلة ، كان هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه . فيكون الله عز وجل يوحي إليه بتوسط العقل الفعال ، فيكون مايفيض من الله تبارك وتعالى إلى العقل الفعال يفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل بتوسط العقل المستفاد ، ثم إلى قوته المتخيلة. فيكون بما يفيضه منه إلى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً ومتعقلاً على التمام)) (35).