يُحكم على آلاف الجامعات حول العالم استنادا إلى تصنيفات عالمية مصدرها الولايات المتحدة أو أوروبا أو شرق آسيا ، ويوما بعد يوم تتزايد تلك التصنيفات ، حتى بلغ عددها اليوم ، في حال استبعاد التصنيفات المحلية ، حوالي 25 تصنيفا عالميا . يعمل كل تصنيف عالمي من هذه التصنيفات ، بصورة مستقلة عن التصنيفات الأخرى ، أي إن لكل تصنيف طريقته الخاصة في تقييم الجامعات ، فكل تصنيف يضع معاييره الخاصة به ، ولغرض دخول احدى الجامعات لاحد تلك التصنيفات ، عليها اتباع سياسات ذلك التصنيف ، وهي سياسات ربما لم يسبق لها اتباعها سابقا .
لقد رافق هذا الأمر جدل واسع إلى الحد الذي جعل منظمة اليونسكو ، تهتم به ، وفي عام 2011 ، نظمت منظمة اليونسكو بالتعاون مع البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ، مؤتمرا دوليا لشرح أبعاد هذا الأمر وتداعياته ، خرج هذا المؤتمر بكتاب تضمن دعوات للثناء على تلك التصنيفات ، وأخرى للتشكيك بها ، والنظر اليها بريبة ، فهي تصنيفات لا تعكس جودة التعليم العالي المقدم فيها ، إنما هي مجرد خدعة تستخدمها المؤسسات التعليمية لجذب الطلبة والأساتذة وتزيين صورتها في الوسط الأكاديمي؟ ولاسيما اذا عرفنا ان بعض الحكومات اتخذت من التصنيفات العالمية ، وسيلة لقياس مستوى التنافس العالمي الذي تخوضه مع البلدان الأخرى ، فعلى سبيل المثال يعتمد احدى التصنيفات على عدد مشاركات كل جامعة في الدوريات العالمية التي تصدر غالبيتها العظمى في بريطانيا وأمريكا باللغة الإنجليزية ، ويشار بهذا الشأن إلى ان الرئيس الروسي خطط لدخول خمس جامعات روسية في قائمة أفضل مئة جامعة في العالم في تصنيف “تايمز هاير إديوكيشن” للعام 2020 ، من جانبه يعطي تصنيف (نايدو) أفضلية لجامعات الدول الغنية فوق الدول الفقيرة، وهو أمر لا دخل للجامعات فيه، كما انه يركز على بعض جامعات القمة في بعض البلدان ، وهو ما يدفع الحكومات إلى العناية بتلك الجامعات على حساب الجامعات الأخرى ، حتى تبقى جامعاتها في الصدارة التصنيفات العالمية .
نحن بلدان العالم الثالث ، هل من حقنا السعي إلى دخول احدى تلك التصنيفات ؟ ، وما هي الفائدة المرجوة لنا من ذلك ؟ ، أسئلة لابد لنا من طرحها هنا في سياق سعي وزارة التعليم العالي العراقية الحثيث إلى دخول احدى تلك التصنيفات ، ترى هل ان دخول احدى تلك التصنيفات سيوفر لنا حصانة علمية ، أو أنه مجرد خدعة ، تمنح بموجبه الدول المتقدمة المزيد من الشهرة لجامعاتها ، التي باتت تُعرف بجامعات النخبة وأصبح التعليم فيها امتيازا يحظى به قلة من الطلبة الذين يستطيعون تحمل تكلفة الدراسة في هذه الجامعات.
أعلنت وزارة التعاليم العالي العراقية ، عبر برنامجها الحكومي إلى أنها تسعى صوب دخول جامعاتنا العراقية في التصنيفات العالمية ، كتصنيف شنغهاي ، وهذه التصنيفات تعتمد على أسس ومعايير معينة ، من بينها نسبة الإشارة إلى البحوث المنشورة في وسائل إعلام ومجلات علمية أجنبية معينة ، وهو امر سيصبح أساتذة العراق وباحثيه ، بسببه رهينة مجلات قليلة ، لان الوزارة تجبرهم على النشر في هذه المجلات حتى تتم ترقياتهم العلمية ، بغية دخول جامعاتنا في احدى تلك التصنيفات ، ويشار اليها بالبنان ، تخيلوا قيمة الأموال بالعملة الصعبة التي تهرب للخارج بحجة النشرفي تلك المجلات ، التي لا وزن لها ولا طعم ، سوى أنها عنوان من عناوين الدخول في التصنيفات العالمية ،أ تدرون ما هي قيمة النشر في تلك المجلات ؟ بربكم لماذا على الباحث العراقي دفع مالا يقل عن 500 دولار مقابل النشر في احدى تلك المجلات العلمية ، انه استنزاف مستمر للعملة الصعبة ، يجب إيقاف هذا الاستنزاف المالي وتدفق هذه الأموال التي ترحل إلى الخارج باسم البحث العلمي ، فهذا الأمر له تبعاته الاقتصادية على الاقتصاد العراقي ،انه امر مخجل ان نشتري الهواء بملايين الدولارات ، انه امر أشبه بشراء ماركات الملابس التجارية ، وترك الماركات الرخيصة ، لا لشيء سوى أنها من علامة أديداس أو نايكي وغيرها ، ثم انظروا بالمقابل ماذا سيحصل لمجلاتنا العلمية المحكمة ؟ اذا هجرها الباحثون والدارسون !! ، من سيدعم تلك المجلات ، اذا لم تكن الكوادر العراقية وجامعاتها؟ من سينشر بها؟ ، لماذا لا نطور مجلاتنا ؟ لماذا لا نرصن البحث العلمي فيها .
لماذا نتسابق على الدخول في تلك التصنيفات الشكلية ، التي هي في الأساس شأن تجاري ، بغية استقطاب الجامعات العالمية لطلبة البلدان المختلفة ، وهل تنوي جامعة سومر أو القاسم أو سامراء ،على سبيل المثال ، استقطاب طلبة من اوربا ؟ ويذكر بهذا الشأن ان صحيفة الغارديان البريطانية قُدّرت مساهمة الطلبة الدوليين في الاقتصاد البريطاني خلال العام الأكاديمي 2011-2012 بأكثر من 10 مليارات جنيه إسترليني ، لقد استوعبت بعض الجامعات العالمية ، هذه الدرس وقررت عدم التفكير بالانضمام إلى احد تلك التصنيفات ،بعد ان تبين لها ان تلك التصنيفات إنما هي موضة فارغة وليس ثورة في التعليم ، وانها خدعة ، وليس دليل على رقي النظام التعليمي ، وفي اضعف الحالات ان تلك التصنيفات دعاية للدول المتقدمة ، على حساب توفير ابسط الحقوق لطلبة البلدان المتخلفة ، ومن ثم فان التفكير والانشغال بالانضمام إلى تلك التصنيفات ،إنما هو مضيعة للوقت ، وهدر للأموال ، فهو عبارة عن ابتزاز مالي ، وعبء على الباحثين والإداريين ، الذين يبقون في سعي محموم ودائمي ، على حساب إنجازهم البحوث الرصينة .
لماذا صار هدف وزارتنا تلميع صورة الجامعات إعلاميا على حساب النهوض بها ، عبر تجديد المناهج والمختبرات وبناء الورش والقاعات الحديثة ، ومعالجة أساليب الغش الإلكتروني المشاعة ، وتدني المستويات العلمية لخريجيها ، وتوفير سبل الراحة والمرافق الصحية لأبنائنا الطلبة ، فضلا عن بناء كليات طب تستوعب هذا الكم الهائل من الطلب غير المسبوق على المهن الطبية ، لأسباب لا داعي لذكرها هنا ، بدل تهريب الأموال الصعبة إلى الخارج ، بحجة الدراسة ،فضلا عن توظيف كوادر إدارية للأقسام العلمية ، حتى يتفرغ الباحث والتدريسي ورئيس القسم ، لأعماله البحثية ، بدل الانشغال بكم الأعباء الإدارية واللجان التي تسعى لإدخال ذلك القسم وتلك الكلية في احدى التصنيفات العالمية ، حتى اصبح الوقت المتبقي لرئيس القسم من جراء هذه الأعمال الإدارية ، اقل من الصفر ، في الوقت الذي يطالب فيه التدريسيون والباحثون ، بإنجاز ما لا يقل عن بحث واحد في العام الدراسي ، انظروا إلى جامعاتنا التي يفتقر معظمها إلى الأبنية اللازمة ، لأنها تعتمد على نظام الإيجار ، فهل يعقل مطالبة تلك الكلية التي لا يتوفر لها بناية خاصة بها ،وتعتمد على نظام الإيجار ، بالدخول إلى تصنيف شنغهاي ؟! .