18 ديسمبر، 2024 10:44 م

التصعيد السعودي في منتهياته

التصعيد السعودي في منتهياته

كثير من الصحة قد يكون في العبارة التي ينقلها الكاتب المصري الكبير محمد حسين هيكل معنعنة عن شارل ديغول, و التي تقول ان الطريق إلى فهم السياسة يبدأ بالنظر إلى الخريطة.. فمن الصعب على المراقب متابعة التسابق اللاهث للاحداث دون النظر الى الخطوط والعلامات التي تؤشر الحدود التي تقف عندها الاطراف المتصارعة ونقاط التماس فيما بينها..الا في الحالة السعودية..فالخوض في عقل وقلب قيادة بلاد الحرمين لا يحتاج الا الى قراءة سريعة لعناوين الصحف ومقالات الرأي, خصوصا ما يصدر منها في لندن او بيروت..
وهذه الحقيقة هي التي تجعل الكثير من الاراء تميل الى ان الزوبعة التي ضربت العلاقات السعودية الايرانية قد وصلت مداها الاخير وهي غير مرشحة الى التصعيد الى مستوى اعلى مما وصلت اليه حتى الان..
فلا يمكننا ان نفسر الاحتفاء المبالغ به من قبل الاعلام الخليجي لقطع العلاقات الدبلوماسية ما بين ايران وكل من جيبوتي والصومال الا انه نوع من الارتباك من الفتور الذي قوبل به الخطاب السعودي التصعيدي من قبل العديد من الاطراف التي كانت – افتراضيا- ضمن القائمة الضيقة من الحلفاء المنتظر ان يكون موقفهم اكثر اندفاعا مع الجهد الاعلامي والسياسي السعودي خصوصا مع الفرصة المتاحة التي وفرتها ردود الافعال الايرانية المتشنجة – وغير المحسوبة كما يبدو- تجاه البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد ردا على قرار اعدام الشيخ النمر..
فهذا التصرف وما يمثله من تجاوز على القيم والاعراف والمواثيق الدولية وتعارضه التام مع ما تقتضيه اصول الضيافة والاحترام الكامل للبعثات الدبلوماسية الاجنبية وحصانتها والمسؤولية الاخلاقية والقانونية تجاه امنها وسلامتها, قد كان فرصة للعديد من الدول في الذهاب ابعد قليلا في مواقفها دون المغامرة باثارة حفيظة ايران التي اعلنت بدورها ادانتها لهذا التصرف ونواياها في اتخاذ جميع الاجراءات القانونية تجاه مرتكبيه مما يخفف كثيرا من الاعباء السياسية والبروتوكولية لمنتقديه..
ولكن يبدو ان الانتقادات المعلنة -والتي جاءت في غير وقتها سعوديا -من قبل الخارجية الامريكية لوضع حقوق الإنسان والإجراءات القانونية في المملكة, قد حددت السقف الذي يمكن التحرك من خلاله للعديد من الدول والذي كان اوطأ بكثير مما كانت تتمناه الحكومة السعودية..
فآخر ما كانت تنتظره الرياض من الحليفة الاهم والاكبر ان تعرب – وفي عز الأزمة- عن القلق من “إزاء الآثار السلبية المحتملة لتنفيذ إعدامات جماعية، بما فيها إعدام الشيخ النمر”, والذي وصفته بـ”المعارض السياسي والزعيم الديني” داعية السلطات في المملكة, وعلى لسان جوش إرنست المتحدث باسم البيت الأبيض, الى ان “تحترم وتحمي حقوق الإنسان وأن تضمن اعتماد إجراءات قضائية عادلة وشفافة في كل الحالات”.
وهذه التصريحات قد تكون وراء القلق الذي عبر عنه وليّ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مما يراه “ميلاً من الولايات المتحدة للعب دور أقل في الشرق الأوسط”. في حديث لمجلة “إيكونوميست” البريطانية قال فيه -بعتب واضح – ان “على الولايات المتحدة أن تدرك أنها البلد رقم واحد في العالم وعليها أن تتصرف على هذا الأساس”.
فهذا الانكفاء الامريكي – كما يراه الامير بن سلمان- قد يكون السبب في فتور العديد من العواصم الحليفة تجاه توجهات الرياض التصعيدية , وهو ما قد يجعل دولة كتركيا -مثلا- تطرح نفسها وسيطا ما بين المملكة والجار المزعج الذي تتهمه باثارة المشاكل في طول وعرض المنطقة, ولا تتجاوز ردود افعالها بعض عبارات الادانة التقليدية المتذاكية بعد اسبوع واحد فقط من اعلان انشاء مجلس التعاون الاستراتيجي بين السعودية وتركيا والذي عدته نفس الصحف -الممولة بسخاء- على انه حدث يتعدى الحلف الثنائي.
وهذه المعطيات قد تجعل المملكة , امام خيارين اولهما الوعي بان هذا التصعيد قد بلغ ذروته, وعليها ان تتدارك المضي به بعيدا والاستفادة من التعاطف الدولي مع حادث الاعتداء على البعثات الدبلوماسية في طهران ومشهد من اجل تحسين اوراقها في التسويات القادمة في المنطقة, خصوصا مع تضاؤل فرص الصدام الغربي مع ايران في ظل رغبة جميع الاطراف في انضاج الظروف المؤدية الى تطبيق الاتفاق النووي مما يحتم على المملكة الوعي بالاثمان الباهظة التي قد يتوجب عليها اداؤها في العديد من الملفات الاقليمية اذا اختارت التصعيد في الاوان الخطأ..او اللجوء الى الخيار الثاني -والاخير- وهو عبور الخليج الى الضفة الاخرى مرة واحدة والى الابد للحسم النهائي لهذا الخلاف المتقادم حد السخف.
فدولة يتجاوز انفاقها العسكري الارقام التي تمثل الميزانية العسكرية لدول اقليمية عظمى مثل مصر واسرائيل وتركيا وايران ..وفي حالة تقاطع فوق سياسي مع دولة مجاورة, قد يكون من المستغرب ان لا تبادر الى ضرب التهديد الوجودي الذي تكابده وتقوم بتحرير الجزر العربية المحتلة على الاقل وحرمان ايران من موطأ قدم مهم في الخليج ان لم نقل الدخول في معارك كسر عظم نهائية مستندة الى الاحلاف الكثيرة والمتناسلة التي تتجمع حولها..والاغرب هو في تبديد ثروات مواطنيها في عملية التمترس خلف جيوش ودول اصغر منها حجما واضعف تسليحا واقل انفاقا..
ليس استخفافا ولا انتقاصا من المملكة الجارة والقريبة منا دما وتاريخا وتراثا ومصير..ولكنه ضجر وملل من اصرار عنيد لممارسات احالت منطقتنا وشعوبها الى مصدر للخراب والموت المجاني المسفوح..فان مثل هذه السياسات ان كانت تدل على شيء فانها تشير الى سوء فهم عميق لحركة التاريخ ومنعطفاته ,وعدم الوعي المؤسف بحقيقة عدم امكانية السيطرة على هذه الامور عند انطلاقها وخضوعها الحتمي للتفلت الخارج عن سيطرة كل الاطراف..وهي دليل على المدى الذي يمكن ان يصل اليه الاستخفاف بوحدة النسيج المجتمعي للامة وامنه وسلمه الاهلي وخطورة الاسراف في اغراق المنطقة في الصراعات الفئوية المسعورة بشبق القتل والتدمير والتي لا يمكن لها ان تسفر عن رابح اوخاسر.