18 ديسمبر، 2024 10:18 م

التصدع المجتمعي .. حقيقة يجب ان نواجهها

التصدع المجتمعي .. حقيقة يجب ان نواجهها

المجتمع كما يُعرف نفسه هو مجموعة من البشر يقطنون منطقة جغرافية محددة تجمعهم روابط مشتركة وهكذا فهو في الواقع مجموعة بشر بينهما روابط ، تلك الروابط تشكل عمود هيكيلية المجتمع ! وقد تكون الأمة كمفهوم أوسع تتألف من عدد من المجتمعات .
المقدمة أعلاه تناولت المفاهيم الفلسفية والاجتماعية للكلمتين بابسط صورهما كي يسهل لنا الانتقال الى المجتمع بصورة اشمل وكيف يتم إدارة مجتمعاً يعاني من التصدع والأنقسام بدون صراع .
بدءاً لابد من ان نميز بين ثلاث مفاهيم وهي التصدع والانقسام والصراع ، ولعل اهم الدراسات في هذا المفهوم في العصر الحديث هي الدراسة التي قام بها اثنان من ابرز الباحثين هما روكون وليبيست تحت عنوان ( بنية التصدعات ، الأنظمة الحزبية ، موالاة الناخبين ) هذه الدراسة تناولت المجتمع الإسرائيلي على وجه الخصوص وقد عرَّفَ هذان العالمان التصدع المجتمعي بالتعريف التالي ” حالة خاصة من الأنقسام والصراع الأجتماعي أو حالة منتظمة ومستمرة للصراعات الأجتماعية حيث تقسم المجتمع ضمن خطوط ثقافية وصراعية ثابته لفترة طويلة وعلى أساسها تتشكل مجموعات متمايزه ومتعارضة بإستمرار أو مايسمى بمجموعات الصراع وعلى أساسها تتشكل ايضاً مظاهر من التوحد القيمي والتمسك بالهوية المشتركة داخل كل مجموعه مع حدود انغلاقية ونسق تنظيمي لكل هوية أو مجموعه ” .
المجتمع الإسرائيلي هو المثال الأفضل لتوضيح التصدع المجتمعي فهو يتألف اساساً من قسمين وهما الحراديين وهم اليهود المتدينيون المنغلقون والصهاينة الذين يؤمنون بشكل آخر من الدولة واعجبت بمصطلح لخص معتقد كل جهة فالحراديين يريدون دولة اليهود والصهاينة يريدون دولة يهودية ! هذا التصدع يبرز جلياً على المستوى المؤسساتي فكلا الطرفان لديهم استقلال في الاحياء السكنية والشبكات الإعلامية والبنوك والمدارس والصحف .
إسرائيل الدولة الدينية التي تألفت من يهود اوربا وروسيا ( أشكانازيم ) ويهود اسبانيا والبرتغال والعرب ( سفارديم ) وهاذان بينهما صراع مستتر منعهم من الانصهار والتصاهر مع كل ذلك لم يتطور ذلك الصراع الى نزاع وتناحر والغريب بالامر انك تقرأ في مفردات الأبحاث الاجتماعية التي تناقش سمات الدولة العلمانية انهم غالباً ما يحذرون من ( الخومنه ) وهو مصطلح يقصد به شكل دولة الخميني وسلطة رجال الدين .
اذن المجتمع الإسرائيلي مجتمع يعاني من تصدع واضح لكن مفهوم الدولة الجامعه تمكنت من اذابة وصهر عشرات القوميات في قومية مستحدثة حولت الديانة الى قومية فكان مثلاً وعد بلفور ينص على إعطاء وطن قومي لليهود الذين هم من عشرات القوميات وهم الكيان الوحيد الذي انفرد بذلك فلن تجد مثلاً وطناً للنصارى او وطن للمسلمين بل اوطان منقسمة بموجب نظريات الدول القومية الحديثة .
عودة الى مجتمعنا العراقي بعد كل هذا التقديم هل يعاني مجتمعنا من تصدع ام لا ؟ الجواب بكل تأكيد نعم وحتى مجموعاتنا السكانية فهي عبارة عن كانتونات لشريحة معينة من المجتمع منذ بدء الهجرة من الريف الى المدينة في بداية القرن العشرين فتكونت مدن بأكملها ذات مذهب واحد او عرق واحد او قبيلة واحده حتى في العاصمة بغداد كانت الاحياء ذات خطوط فصل واضح ثقافي ومجتمعي فعگد النصارى لم يسكنه أي مسلم وعگد اليهود لليهود ونزولاً الى العشائر فمنطقة التمايمه بالكاظمية حصراً لبني تميم والتكارته والجنابيين والانبارين وعرب جبور والبوعيثه وغيرها . ثم ظهور مدن ومناطق مذهبية شيعية وسنية تأصل فيها التصدع بعد سقوط الدولة وانهيار مؤسساتها والانتقال الى حالة اللادولة والتي أدت الى اجبار المجتمع على التنازل عن الهوية الأكبر وهي الهوية الوطنية والقبول بالهوية الاضيق وهي الهوية المذهبية مستثمرة لحالة التصدع المجتمعي آنفة الذكر .
قرأت في تاريخ العراق ان بن غوريون حينما دعا كل اليهود الى التوجه للعيش في دولتهم إسرائيل وحدثت احداث تهجير اليهود التي بدأت بإلقاء قنابر حارقة على احد بيوت اليهود وقتل اثنين منهم وادت الى هجرة ١١٥ الف يهودي من العراق واليمن ومصر وتبين فيما بعد حينما القت السلطات العراقية القبض على المنفذين اكتشفوا انهما يهوديان وتم اعدامهما !
الاحداث التي جرت في العامين ٢٠٠٥ و ٢٠٠٦ التي رافقها صراع مسلح وتهجيربين السنة والشيعة وطبقاً لتقارير أمريكية حيث كانت مراكز الشرطة مشتركة تقول ان اغلب التهجير حدث من مجاميع مسلحة تعود لنفس الطائفة !
التصدع المجتمعي هو ظاهرة موجودة ويجب الاعتراف بها واذا كانت العاصمة بغداد ماضياً قد تلاشى فيها هذا التصدع باجراءات الدولة بتوزيع الأراضي السكنية توزيعاً عشوائياً بالاقتراع بعد ثورة تموز ١٩٥٨ الا ان تلك الاحياء الجديده لم تلغي المجموعات المنغلقه فالصابئي يسكن القادسية والشيعي يسكن مناطق الشيعه في الثورة او الشعلة او الكاظمية والسني يسكن الاعظمية والعامرية والدورة والمسيحي يسكن بغداد الجديدة والاثوريين والغديروهكذا . هذا التصدع هو عبارة عن مجموعات صراع ومن واجب الدولة العمل على رفع فتيلها بالمساواة والعدل وإعطاء الحقوق واذا دولة كاسرائيل تمكنت من إدارة شعباً كاملاً من عشرات المجتمعات ويتكلمون اكثر من عشرين لغة وصهرهم بدولة ألغت هوياتهم القومية ومنحتهم هوية دينية بديلة تجاوز فيها مفهومي الولاء والانتماء كل الحدود فأصبحوا على استعداد للتضحية بارواحهم من اجل دولة الشتات ، فان مجتمعاً كمجتمعنا العراقي ذو الوطن المشترك واللغة الواحده والتاريخ الواحد وغالبيته من دين واحد وقبائل وعشائر واحده قادر بالتأكيد ان يبقي التصدع المجتمعي الى مادون الانقسام والصراع ولكن يجب اولاً ان نعترف اننا مجتمع متنوع ومتصدع وذلك ليس بخلل بل صيرورة تاريخية .