23 ديسمبر، 2024 4:47 م

التشيع بين التأصيل والتصحيح

التشيع بين التأصيل والتصحيح

تعرض الإسلام ومنذ اليوم الأول لرحيل قائده الأكبر رسول الله (صلى الله عليه واله) إلى ظاهرة كادت تؤدي بمشروع الرسالة لولا اللطف الإلهي وتمثلت هذه الظاهرة الخطيرة بـ ( الانقلاب) على الأعقاب في محفل السقيفة سيئة الصيت لينتج ذلك الانقلاب الأسود انقلابات أخرى كانت تقصم بين الفينة والفينة الأخرى ظهر الإسلام وتهدد كيان الأمة بالاضمحلال والهزيمة لما شكلته من انقلاب على المفاهيم الأساسية للإسلام ومبادئ رسالته السمحاء .
ولأن التشيع هو هوية الإسلام الأصيل فأنه كان هدفاً لحصار واغتيال دائم أسفر عن عمليات اغتيال مادية لقادته لم يسلم من غيلها وغدرها أحدا من خلفاء رسول الله وهم اله الأطهار وأئمة الأمة المعصومين ابتداءً من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وانتهاءً بأمل المستضعفين الإمام المهدي (عج) ، وهكذا تعرضت العترة الطاهرة إلى حملة إبادة وتصفية شعواء كانت أمر فصولها ما جرى في كربلاء من قتل لمعالم الرسالة وال رسول الله (صلى الله عليه واله) وسبي حرائر الرسالة في مشهد لم تشهد له الأرض نظيرا في القسوة والإجرام إلى قصر ابن أكلة الأكباد في الشام .
ولذلك كان على الأئمة الهداة المعصومين بعد جريمة كربلاء أن يتحملوا أعباء الحفاظ على معالم الرسالة المحمدية من التشويه والتدليس الذي لحق بالشريعة الغراء نتيجة تسلط حكام الجور وسلاطين الفجور من بني أمية وبني العباس من خلال تأسيس مدرسة ومنهج يحافظ على ديمومة الرسالة وضمان صيانتها من الانحراف بالإضافة إلى مواجهة السلطات ومكرها بمختلف الأساليب والأدوار في سبيل حماية الإسلام والثلة المؤمنة من المسلمين من أنياب السلطة المستذئبة والمتسلطة على رقاب المسلمين .
النتيجة أن كان مذهب التشيع الذي اختص بها أتباع مدرسة أهل البيت (ع) هو الوسيلة التي يتم بها حفظ رسالة الإسلام ولقد بذل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) جهدا من اجل تأسيس نظام وهيكلية تشرف على تنظيم شؤون الأمة في حضور الأئمة وفي غيبتهم عبر نشر علوم الإسلام وفكره ورسالته من خلال فقهاء المدرسة الأمامية والذي استطاعوا رغم المحن وبطش السلاطين من إدامة مشروع الرسالة والحفاظ على معالمه ونهجه المتمثل بسنة الرسول الأكرم وال بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ، إلا إن ذلك لا يعني بالضرورة أن تلك الجهود كانت هي فقط السبب الرئيسي في استمرار هذا الخط الرسالي لأن الأعداء وحينما أدركوا وعجزوا عن ضرب المذهب من الخارج من خلال التصفية والقتل المادي عملوا على اختراق المذهب والتخطيط لضربه من الداخل عبر دعم ورعاية مجموعة من الدنيويين أو الجهلة في سبيل أحداث ما يمكن إحداثه من شرخ وهدم لمعالم وهوية التشيع .
سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) وخلال كلمته الموسومة (عوامل ازدهار التشيّع بين الأمس واليوم ) والتي القاها في خطبة عيد الأضحى المبارك تفضل علينا بقراءة دقيقة ومفصلة لأهم أسباب ديمومة المذهب وازدهاره على الرغم من كل المحن والابتلاءات التي تعرض لها قادته وقواعده والتي عبر عنها سماحته من خلال نقل حديث الإمام الباقر (عليه السلام) والتي شخصت ذلك التاريخ الدموي والإرهابي ضد الشيعة بقوله ” وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطّعت الأيدي والأرجل على الظنّة وكان من يُذكر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله أو هُدّمت داره ” .
ثم يجري سماحة المرجع اليعقوبي ومن منطلق المسؤولية استقراءً وتحقيقا ً لأهم عوامل الازدهار ويسبق النتائج بجواب لسؤال عن أسرار ذلك الازدهار وتلك الديمومة بقوله ” ونجد من مسؤوليتنا البحث في جواب السؤال الذي يستحق التأمل فيه عن سر ديمومة هذا الكيان الشريف وصموده رغم كل تلك الحرب الجهنّمية التي أحاطت به حتى حافظ على وجوده بل نمى وازدهر وتوسّع وفرض نفسه على الجميع مما أصاب الحاسدين والحاقدين من بعض طوائف المسلمين الأخرى أو غير المسلمين بالذهول والدهشة “أما عن الأساليب والأهداف التي تقف خلف الحرب والعداء الذي يتعرض له التشيع في الماضي والحاضر فيلخصها سماحته بالقول ” ولم يجد أعداء هذا الكيان الشريف حلاًّ إلاّ استخدام الوسائل الوحشية من القتل والتدمير والتفجير والتخريب بلا أي خطوط حمراء من أجل إيقاف زحف هذا التمدّد المبارك وتطويقه لأنّهم يجدون في مبادئ هذه المدرسة السامية وثقافتها العدوّ الوحيد والخصم العنيد لمشاريعهم الاستكبارية واتخاذ مال الشعوب دولاً وعباده خولاً أما غير أتباع أهل البيت (عليهم السلام) –مسلمين كانوا أو غير مسلمين- فلم يعبئوا بهم كثيراً لإمكان ترويضهم وامتلاك زمامهم بشكلٍ من الأشكال ” ولعل مثل هذا التشخيص الدقيق قلما توصل إليه علماء الأمة ومفكريها أولا لدقته وثانيا لإحاطته بالتفاصيل الدقيقة .
أما لماذا يتعرض سماحة المرجع اليعقوبي في هذا الوقت لإثارة تلك العوامل وتشخيصها فأن سماحته يجيب بقوله ” وإنّما جعلنا إثارة هذا السؤال والبحث في الجواب عنه واجباً علينا لأنّه يحمّلنا مسؤولية إدامة عناصر القوة والازدهار هذه، والتحرّك بها لإقناع الآخرين وهدايتهم إلى هذا الحق المبين ” ثم يتوسع سماحة المرجع اليعقوبي في الإيضاح بقوله ” إن الالتفات إلى عناصر القوّة والديمومة والإقناع في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تزيد إيماننا بصحتها وأحقيتها وبنفس الوقت توجب علينا مسؤولية المحافظة على هذه العناصر وإدامتها وتنميتها، وتجنّب كل ما يضعفها ويحجّم دورها وأثرها، فنكون –والعياذ بالله- سبباً في خيانة هذه الرسالة العظيمة وخذلان أئمتنا الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين ” وهو مبرر مجدي ومطلب ضروري وجواب شافي لكل من سيطرح إشكالاته التي ينتجها عقله القاصر عن إدراك معاني استعراض خصائص وعناصر القوة في المذهب الرسالي الذي يتعرض لحملات من الهدم والتصفية على الصعيد المادي والمعنوي خصوصا في الأعوام التي تلت سقوط نظام البعث وما أعقبها من صحوة شيعية في البلدان المجاورة .
ثم يذكر سماحة المرجع اليعقوبي أهم عوامل الازدهار والتألق والتوسع لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) والتي لخصها سماحته إلى عشر نقاط وترك الباب مفتوحا أمام الباحثين والمفكرين للإضافة في حال وجدت عوامل أخرى ولعل من أهم العوامل أو العامل الرئيسي من وجهة نظر سماحته هي ما يتعلق بالحفظ الإلهي لهذا المذهب الرسالي والذي كان قادته هم صنوا القرآن أو قرآنه الناطق ولذلك كان حفظ هذا القرآن هو الوعد الذي قطعه الله تعالى ووعد عباده به ( إنا أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وإما العامل المساند للعامل الثاني فهو قناعة المسلمين والباحثين عن الحقيقة بأن التشيع هو الوجه الحقيقي للإسلام ورسالته الإنسانية السمحاء بالإضافة إلى العامل الثالث وهو رعاية الإمام المهدي (عج) والذي لم تنقطع بركاته في استنقاذ المذهب من العديد من المنعطفات التي اعترت مسيرته الرسالية نتيجة الظروف القاهرة التي مر بها في ظل سلاطين الجور ولذلك كان عهد ووعد الإمام ودعاءه لشيعته بأنه سيكون الخيمة التي تحفظ المذهب من الانحراف والتحريف وتحمي قواعده الرصينة من خلال ثلة من العلماء الرساليين الذي بذلوا المداد واسترخصوا الدماء في سبيل الحفاظ على الإسلام ومذهبه الحق وهذا ما قطعه الإمام المهدي (عليه السلام) على نفسه في رسالته للشيخ المفيد بقوله ” إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء- أي الشدّة وضيق المعيشة- أو اصطلمكم الأعداء ” وبأن جعل للأمة في غيبته من ينوب عنه باستنقاذ العباد ورعاية مصالح الأمة وهم علمائها الربانيين من الذين تبوئوا مقام المرجعية الرشيدة وهم العامل الثالث في عوامل الازدهار وأسس الإمام المهدي (عجل الله فرجه) لهذه القيادة النائبة برسائله العديدة إلى نوابه المعينين في زمن الغيبة الصغرى ومنها قوله ” وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله عليهم”  وقوله (عليه السلام) ” الراد عليهم، كالراد علينا وعلى الله تعالى، وأنه شرك بالله” .
وبعد أن يستعرض سماحة المرجع اليعقوبي أهم تلك العوامل العشرة التي ساهمت في حفظ الإسلام والمتمثل بمذهب التشيع يعود ليشخص أهم العوامل التي تسهم في خيانة الإسلام وخذل الأئمة المعصومين (عليهم السلام ) والتي يلخصها سماحته في أربع نقاط استطاع أعداء الإسلام وأهل البيت (عليهم السلام) من إيجادها وتنميتها في داخل الوسط الشيعي ولعل أهم وأخطرها هي تسقيط علماء الأمة وانتهاك حرماتهم وتشويه صورتهم والحط من مقامهم مما يؤدي إلى تنفيذ مخططات الأعداء الرامية إلى توهين المذهب وضرب أهم مفاصله الحيوية والمتمثل بالمرجعية النائبة عن الإمام المهدي (عج) وبالتالي أيجاد القطيعة بين القواعد الشعبية وقياداتها الدينية .
أما العامل الثاني والذي لا يقل خطورة في تهديده فهو التشويه المتعمد للشعائر الدينية وخصوصا الشعائر الحسينية من خلال الفعاليات الدخيلة والطقوس المبتدعة وبث الحكايات الخيالية الكاذبة لغرض المبالغة في تصوير الحدث وبما يساهم في انتهاك حرمة الأئمة والإساءة لهم بالإضافة إلى استخدام هذه الشعائر الدخيلة وسيلة لضرب المذهب وقيادته الرشيدة والمتمثلة بالمرجعية الدينية من خلال خطباء السوء والرواديد الجهلة بتعاليم الشريعة .
إن سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في هذا التحليل والتشخيص الدقيق لأهم عناصر وعوامل ازدهار المذهب الشيعي ومكامن الخلل التي يتعرض لها كيانه الشريف يخطو خطوة جبارة للتمهيد بالقيام بحملة للحفاظ على نقاط القوة وتنميتها وإزالة ومحاربة الظواهر السلبية واجتثاثها لتنقية المذهب من كل الشوائب الدخيلة وإبقاء المذهب الشيعي ناصعا ومنطلقا أمام المسلمين من العامة وأمام التواقين والباحثين عن الدين الحق والمتمثل بالإسلام كرسالة تستنقد العباد من حيرة الضلالة وفخاخ الجهالة والتيه الذي يعانيه أتباع الديانات الأخرى نتيجة الغرق في الماديات والحنين إلى التنمية الروحية والإنسانية التي تكفلت رسالة الإسلام بحملها ونشرها بين الناس للوصول بالناس إلى عبادة الله تعالى والإيمان بكتبه ورسله ونبذ عبادة شياطين الجن والإنس من العالمين .