يرجى ملاحظة المرفقات مع هذه المقالة لطفاً:
1- صورة الفنانة التشكيلية العراقية رشا عكاب.
2- لوحة الفنانة رشا عكاب التي تناقشها المقالة كمثال على العلاقة بين التشكيل والتأويل.
هل يمكن للفن التشكيلي أن يوسّع من أفق التلقي التأويلي للنصوص الدينية؟ هل بوسعه أن يفتح للمتلقي وللمتلقية أبواباً إضافية للتفاعل مع النص المقدّس من مدخل جمالي يُثري التجربة الروحية والفلسفية؟
هل يمكن للأعمال التشكيلية أن تُلهم وتُثري الذائقة الجمالية للمتلقي في التعامل مع النص الديني، فيستجلي المعنى الوجودي والفلسفي بشكل أكثر عمقاً واتساعاً وتحليقاً وتحرّراً من المبنى اللغوي المحاط بتراكمات تاريخية ضاغطة، وتفسيرات تراثية مغلقة، وسياق من الأدلجة والتوظيف الدعوي والصحوي المسيّس؟
وكيف يمكن للمتلقي أن يستخلص ويستنبط من هذا النص وعلى هدى العمل التشكيلي أبعاداً روحية وقيمية، إنسانية وعصرية وكونية الطابع تؤنسن التجربة الاستلهامية بصيغة تتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا والثقافة والبيئة؟
وبالمقابل، أليس بوسع التأويل الجمالي للنص الديني أن ينمّي الذائقة التشكيلية للفنان والمتلقي معاً، بما يتيح إنتاج أعمال فنية تتغذى على الروح الرمزية للنصوص دون أن تقع في فخ “التبشير الأيديولوجي” أو “التسطيح الفني” أو “الاستلاب العاطفي” للمتلقي؟
وهل يمكن للتأويل الجمالي للنص الديني أن يُحفّز الخيال الإبداعي لصانع العمل الفني، فيدفعه إلى تطوير لغة بصرية ورمزية جديدة من جهة، ويحرّض الخيال التأمّلي للمتلقي ليستوحي من العمل معانٍ متجددة وفلسفة مستدامة، من جهة ثانية؟
هذه الأسئلة تقود إلى طرح أوسع حول العلاقة الممكنة بين “التشكيل” كفن بصري تعبيري، و”التأويل” كفعل فلسفي “هرمنيوطيقي” ينتمي إلى فضاء النصوص.
وقبل الشروع بمناقشة الفكرة، من المهم إيضاح أن هذه المقالة ليست دعوةً إلى تديين الفن التشكيلي أو إخضاعه لسلطة النصوص، كما أنها لا تسعى إلى “أسلمة” الإبداع الجمالي أو تحويله إلى خطاب وعظي أو رمزي مغلق، بل هي محاولة للإبحار في الإمكانات الفلسفية الكامنة في العلاقة بين التشكيل والتأويل، بوصفها مساراً معرفياً حراً وغير مشروط. إن توسيع أفق التذوق الجمالي، من خلال استلهام النصوص الروحية دون امتلاكها أو تقييدها، أو فرض الوصاية عليها، أو فرض الوصاية من خلالها على المجتمع؛ يُسهم في ترشيد الوعي والارتقاء بالمفاهيم، ويكرّس مسلكاً منفتحاً ومعتدلاً في فهم الدين، يبتعد عن الغلو والتشدد، ويجعل من الفن أداة لاستثارة الفكر لا أدلجته، ولتعميق الروح لا تسطيحها.
تشير الهرمنيوطيقا “hermeneutics“، إلى التأويلية أو علم التأويل، وهو مجال فلسفي يهتم بفهم وتفسير النصوص، خاصة النصوص المقدسة أو الأدبية أو الفلسفية. وفي سياق هذه المقالة، تُستخدم للإشارة إلى العملية التأويلية التي يخوضها القارئ أو المتلقي لفهم المعاني العميقة وراء النصوص الدينية. وكذلك الأسلوب أو المنهج الذي يتم من خلاله تفسير النصوص، ليس فقط لغوياً، بل عبر ربطها بالجماليات، والرموز، والسياق، والتجربة الإنسانية.
بمعنى أن التأويلية أو الهرمنيوطيقا هي طريقة أو ممارسة الفهم العميق للنصوص، تتجاوز القراءة السطحية، وتركّز على استكشاف المعاني الخفية أو المحتملة من خلال التأمل والسياق والتفاعل الشخصي.
أما “التشكيل” فهو مصطلح يُستخدم للإشارة إلى عملية تحويل المواد إلى عمل فني تعبيري، سواء كان لوحة، تمثالاً، تركيباً بصرياً، أو غيرها من الوسائط. وهو يعني “تشكيل” عناصر (خط، لون، كتلة، فراغ…) لصنع لغة بصرية تعبّر عن فكرة أو إحساس أو موقف وجودي أو تأويلي.
وتُجادل هذه المقالة بأن التشكيل هو “هرمنيوطيقا صامتة”، بمعنى أن التشكيل ليس مجرد عمل فني بصري، بل هو فعل تأويلي يمارسه الفنان (أو حتى المتلقي) بطريقة غير لفظية. العمل التشكيلي يُفسِّر العالم أو النص أو الذات أو المعطيات الشعورية أو الروحية، تماماً كما تفعل النصوص المكتوبة، ولكن بصمت وباللون والشكل والخط. بالتالي، “التشكيل” هنا هو لغة غير لغوية توازي القراءة، تُنتج المعنى من دون كلمات.
ويُعدّ العمل التشكيلي في جوهره فعلاً تعبيرياً، لا بمعنى البوح الانفعالي فحسب، بل بوصفه وسيلةً تأويليةً تمارس التفكير بالصورة والشكل واللون. فالفن التشكيلي لا يكتفي بنقل الواقع أو محاكاته، بل يُعيد صياغته رمزياً، ويُحمّله دلالات فلسفية ووجودية وجمالية. إنه نوع من “الكتابة الصامتة”، حيث تُصبح الخطوط والألوان أدوات تأويلية “hermeneutic” تُعبّر عن رؤى الفنان أو تساؤلاته، وتُثير في المتلقي انفعالات وتأملات تتجاوز ظاهر الصورة إلى أعماق المعنى.
وكلا الحقلين – التشكيل والتأويل – يعتمدان على السرد والتخييل والتفلسف: فالتشكيل هو سرد لوني ذو طاقة رمزية، والتأويل هو سرد فكري نابع من النص ومُحفَّز به، يُنتج نصّاً موازياً يتوسّط بين النص الأصل والمتلقي.
تُحاجج هذه السطور بأن ثمّة علاقة (أو علائق) فنية، إبداعية وجمالية، سردية وفلسفية، بلاغية وسيميائية (رمزية إشارية)، قوامها المحاكاة والتناغم والتكامل، من الممكن أن تجمع بين عنصرين أساسيين؛ الأول: فني بصري هو “العمل التشكيلي” والثاني: أدبي بلاغي هو “النص الديني”، مما يفتح المجال لنقاش أوسع وأعمق حول العلاقة السردية – الفلسفية بين التشكيل والتأويل كحقلين تجمع بينهما أداتَي “السرد” و”التفلسُف”؛ فالتشكيل، في الفنون الجميلة، هو سرد لوني ديناميكي يُحرِّض على التأويل الفلسفي للعمل الفني لإنتاج نصٍّ موازٍ له. والتأويل، في الدراسات الدينية، سرد فلسفي يشتغل كنصٍّ موازٍ للنص الديني، وهو نِتاج لما ينبعث من النص الديني (الأدبي بطبيعته) من تحريض بلاغي يشجّع القارئ على التفاعل التأويلي مع النص؛ استقرائياً (استخلاص العام من خلال الخاص)، واستنباطياً (استخلاص الخاص من خلال العام).
يتمتع الفن التشكيلي بإمكانات تقديم لوحاتٍ مُوحية جمالياً، مُعبّرة روحياً، بليغة إنسانياً، مُمتعة بصرياً، ناطقة لونياً وحركياً، مُلهمة تأويلياً، ويمكن توظيفها في توسيع أفق التعامل مع النصوص الدينية.
وتحاول هذه المقالة تطوير قراءة تأمّلية في علاقة مُحاكاة جمالية مُمكنة بين الآية القرآنية (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) وإحدى لوحات الفنانة التشكيلية العراقية رشا عكاب.
تعكس اللوحة المعاني الرمزية للعلاقة الزوجية القائمة على الاحتواء، الحماية، التكامل، والسكينة. وتفتح القراءة البصرية للّوحة مستويات متعددة:
1- الاحتواء والقرب العاطفي:
يظهر الرجل وهو يحتضن المرأة برقّة وحبّ، مما يعكس المعنى المجازي للّباس في الآية، حيث يكون الزوجان ستراً وحماية لبعضهما البعض. لا يحتضن الرجل المرأة هنا بوصفه مهيمناً عليها أو متحكماً فيها، بل بوصفه كائناً محيطاً بها في علاقة دافئة متبادلة. هذه الصورة تجسّد معنى “اللباس” كاحتضان نفسي وروحي وجسدي.
2- التكامل والتوافق:
في اللوحة، تتكئ المرأة على الرجل برأسها، بينما يحيطها بذراعيه، مما يعبر عن العلاقة التشاركية القائمة على التناغم بين الطرفين، تماماً كما يشير التشبيه القرآني إلى كون كل من الزوجين لباساً للآخر، في إشارة إلى الألفة والاندماج. اتكاء المرأة برأسها على كتف الرجل يُجسَّد في وضعية تنمّ عن انسجام داخلي وتكامل في الدور والمكانة، لا تراتبية فيها، ولا أفضلية لأحدهما على الآخر، وبشكل يحاكي تصوير النص القرآني لعلاقة تفاعلية متكافئة لا تُختزل في الذكورة أو الأنوثة.
3- السكينة والجمال المشترك:
ألوان اللوحة الدافئة والخلفية المزخرفة ذات الأشكال اللولبية الناعمة تعكس الشعور بالأمان والطمأنينة، وتستدعي مفردات قرآنية موازية من قبيل “السكن” و”المودة” و”الرحمة” كما في الآية الأخرى: “وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً”.
4- الدلالة الروحية والرمزية:
وجود هالة خلف الرجل والمرأة يشير إلى قدسية العلاقة الزوجية بوصفها علاقة مبنية على السكينة والترابط الوجودي والاتصال الروحي، وليست مجرد ارتباط مادي. هذه الهالة التي تحيط بالرأسين، وزخرفة القوس الخلفي بما يُشبه النصوص أو النقوش، تمنح المشهد بعداً شبه أيقوني، يتجاوز الواقع إلى ترميز لحالة مثالية، أو لنقل: استعارة بصرية لعلاقة روحية مقدسة.
وبناءً على ما سبق؛ يُمكن اعتبار هذا العمل التشكيلي تأويلاً بصرياً معاصراً للآية، حيث يجسد بمفرداته الفنية العلاقة التكاملية، الوجودية والوجدانية، بين الزوجين، والتي تقوم على الحبّ، الدعم، والاحتواء، كما ترمز إليه مفردة “اللباس” في النص القرآني.
اللوحة التي أبدعتها الفنانة رشا عكاب تشكّل نموذجاً حيوياً لهذا التفاعل الممكن بين التشكيل والتأويل. فبمجرد التأمل فيها، تُستدعى الآية: “هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ”. وتغدو اللوحة بمثابة مرآة بصرية لهذا التشبيه القرآني الذي يحمل مستويات رمزية تتجاوز المستوى الحسي لتلامس الروحي والوجودي.
يسهم الفن التشكيلي في تأويل النص الديني عبر تحويل المفاهيم المجردة إلى صور بصرية، تفتح المجال لتلقٍّ متعدد الأبعاد للنص، يغادر قيود التفسير اللغوي نحو إدراك حسّي وعاطفي أكثر عمقاً. وتبقى العلاقة بين التشكيل والتأويل مفتوحة على احتمالات متنوعة، حيث يمنح الفن للنص أفقاً جمالياً دون أن يدّعي احتكار المعنى، مما يجعل الحوار بينهما مستمراً وديناميكياً.
ويمكن للنظر إلى اللوحة بوصفها “تأويلاً جمالياً” للآية أن يقترح مقاربة وجدانية وعاطفية وروحية لتناول الأعمال الفنية والنصوص الدينية على حد سواء، ويوسّع دائرة الفهم من حدود اللغة إلى أفق الصورة، ومن التجريد إلى التجسيد، وبشكل يستثمر في طاقة المعنى من دون اختزال أو تبديد.
إن التفاعل بين العمل الفني والنص الديني هنا لا يسعى إلى إضفاء شرعية دينية على الفن، ولا إلى تحويل النص إلى ذريعة زخرفية، بل يتم توظيف النص القرآني بعمق تأويلي ووعي فلسفي، مما يجعل العمل التشكيلي يتجاوز كونه مجرد “ديكور ديني”، ليُصبح قراءة بصرية معاصرة للنص. التفاعل بين التشكيل والتأويل، كما تقترحه هذه المقالة، وكما تحاول تقديمه من خلال اللوحة محلّ البحث، هو حوار بين عالمين يتقاطعان في الإنسان: العالم الذي يُصوَّر، والعالم الذي يُقرَأ. وفي هذه النقطة تحديداً، يكتسب التشكيل بعداً تأويلياً، ويستعيد التأويل حسّه الجمالي.
وهكذا، يبقى التشكيل والتأويل في حالة شدّ وجذب، تفاعل وتجاور، لا ينفي أحدهما الآخر بل يُغنيه، في مشهد تأملي مفتوح على احتمالات لا نهائية من الإدراك والمعنى.
ملاحظة: تمت صياغة هذا النص بالتعاون مع الذكاء الاصطناعي (ChatGPT) من شركة OpenAI، من خلال حوار تأملي وتفاعلي ساعد في بلورة الأفكار وصقلها لغوياً وفكرياً.