التشكيل الجديد لا يمثل بصيغته الحالية جميع السنة العرب ولا يلبي طموحهم، وإنما هو مجرد خطوة على الطريق يسعى في المقام الأول إلى إعادة الملايين من النازحين لديارهم.
أنتجت مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق طبقة سياسية متنافرة وغير منسجمة في المواقف والتوجهات، وخصوصا في البيئة السنية العربية، التي مثلت عنوانا مشتركا للاستهداف، رسمته قوات الغزو وساهمت فيه الجماعات الشيعية التي وفدت من طهران وواشنطن ولندن ودمشق والأحزاب الكردية النازلة من الشمال.
كان أبرز خطوط العنوان العريضة هو تهميش السنة العرب بشكل عام، وممارسة سياسات قمعية تمثّلت في إقصاء المناطق والمحافظات التي يقيمون ويعيشون فيها، وعزل رموزهم وأعداد منهم لا علاقة لهم بحزب البعث، ورفع شعار يتهم كل سني عربي بالبعثية وإن لم ينتم، واعتباره من أزلام صدام حتى لو كان راعيا للأغنام في صحراء الرطبة. لم يسلم من الملاحقة والغدر، حتى أولئك الذين انخرطوا في العملية السياسية عن قناعة أو لـ”دفع الضرر” كما قالوا. وأمثلة التنكيل بمحسن عبدالحميد وهو عضو في مجلس الحكم الانتقالي وعدنان الدليمي وهو رئيس كتلة في البرلمان، وطارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية الذي قتلوا ثلاثة من أشقائه قبل نجاته في آخر لحظة من إعدام متوقع، هي خير دليل على أن الحكام الجدد لا يريدون شركاء معهم وإنما أجراء ومصفقين.
ومما فاقم في عداء الأحزاب الشيعية للسنة العرب، أن المقاومة الوطنية للاحتلال انطلقت من الأحياء والمناطق السنية في بغداد والمحافظات. نجحت هذه المقاومة رغم تعدّد فصائلها وتواضع تسليحها في تحقيق انتصارات على القوات المحتلة باعتراف واشنطن، قبل أن يدخل الخط السلفي عليها ويحاول احتواءها ويجيرها لأهدافه المتطرفة.
وتفرجت سلطات الاحتلال على دخول هذا الخط وبتشجيع خفي من إيران والأطراف الشيعية المتعاونة التي أفرغت بممارساتها القسرية الساحة السنية من القوى القومية والبعثية والشخصيات الاجتماعية والأكاديمية والدينية والعسكرية وهي النخبة في المجتمع السني، الأمر الذي ساهم في ظهور قيادات متشددة مثل الزرقاوي ومن بعده أبوبكر البغدادي وعشرات آخرين.
سعى السنة العرب طيلة السنوات التي أعقبت الاحتلال إلى دفع تهم التكفير والإرهاب عنهم، فعمدوا في عام 2010، إلى تشكيل قائمة انتخابية عابرة للطائفية أسموها “العراقية” وأجمعوا على رئاسة إياد علاوي لها، وهو من أصول شيعية ومعه أكثر من عشرين نائبا شيعيا. فازت القائمة بأغلبية ساحقة وهزمت كتلة المالكي الذي سخّر الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والسلطات الحكومية لخدمة ائتلافه (دولة القانون). لكن تأييد الأميركان ودعم الإيرانيين له ساعداه للعودة إلى رئاسة الحكومة من جديد في لعبة مفضوحة، وهو الخاسر انتخابيا.
جرت أحداث كثيرة منذ صيف 2014 أبرزها احتلال داعش لأغلب المحافظات السنية، وعزل المالكي عن رئاسة السلطة التنفيذية وتعيين حيدر العبادي بدله، وهو أكفأ من سلفه علميا وأهدأ سياسيا وأخفّ طائفيا، ولكنه ما زال محكوما بعضويته في حزب الدعوة، رغم محاولاته العديدة لمغادرته التي لم تنجح لحدّ الآن.
وقد تعاطف السياسيون السنة في الداخل مع العبادي وعقدوا معه اتفاقا سياسيا مكّنه من تشكيل حكومته الحالية بلا مشاكل. لكنه اعترف بأنه يواجه صعوبات في تنفيذ ذلك الاتفاق الذي هو في الحقيقة لا يلامس الحقوق الكاملة للسنة العرب باعتبارهم مكوّنا رئيسيا ضمن لغة المكونات السائدة، ولا يضمن استحقاقاتهم السياسية والاجتماعية، وهو ما دفع أطرافا سنية في الداخل والخارج إلى ضرورة تجميع القوى وتشكيل تحالف سياسي يمثل الحدّ الأدنى لخيارات السنة العرب في المرحلة الراهنة، واستعدادا لمرحلة ما بعد داعش عقب تحرير المناطق التي يحتلها.
وقد أبدت السعودية والأردن والإمارات وقطر وتركيا استعدادها لدعم هذا التجمع سياسيا شرط أن يكون ضمن سقف الدستور العراقي الحالي، والمشاركة في العملية السياسية القائمة والعمل على إصلاح عيوبها ومعالجة ثغراتها من داخلها، مع تعهدات الدول الخمس بتعمير المحافظات المنكوبة وتسهيل عودة نازحيها إليها والمساعدة على استتباب الأمن والاستقرار والتنمية فيها.
وعلى هذا الأساس جاء لقاء أنقرة التشاوري في الثامن من الشهر الحالي، وجمع أربعة وعشرين سياسيا يمثلون اغلب الكتل والجماعات السنية في داخل العراق وخارجه، لينتخب لجنة تنفيذية ضمت كلا من خميس الخنجر وأسامة النجيفي وصالح المطلك ورافع العيساوي وسعد البزاز وعبدالله الياور ومحمد الكربولي واثيل النجيفي ولقاء وردي، تتولى صياغة رؤية سياسية جديدة تتوافق مع الواقع الحالي في العراق وتسهم في تصحيح مساراته بما يضمن وحدة البلاد، والعمل على بناء دولة مدنية تقوم على تعزيز القانون والمؤسسات وإنشاء جيش مهني وأجهزة أمن محترفة وحصر السلاح بيد الدولة مع اعتماد النظام اللامركزي في المحافظات وحقها الذي شرعه الدستور في تكوين أقاليم إدارية لا طائفية، تكون جزءا وعونا للحكومة الاتحادية.
كما شكّل اللقاء التشاوري لجنة إدارية يكون مقرها في بغداد، مهمتها التنسيق مع الحكومة والتداول مع الكتل والأطراف السياسية الأخرى، ضمّت سليم الجبوري واحمد المساري ووضاح الصديد. وقريبا سيعلن عن لجنة سياسية للتحالف الجديد تعدّ لمؤتمر عام يشارك فيه 2000 شخصية سنية من جميع أنحاء العراق.
وعموما فان هذا التشكيل الجديد لا يمثّل بصيغته الحالية جميع السنة العرب ولا يلبي طموحهم أو تطلعاتهم، وإنما هو مجرد خطوة على الطريق يسعى في المقام الأول إلى إعادة الملايين من النازحين لديارهم وإعمار مدنهم من قبل الدول العربية، بعد أن أعلنت الحكومة عجزها بحجة تدني مواردها المالية، ويعمل على إشراك السنة بالعمل السياسي بفاعلية، بلا إقصاء أو اجتثاث. وبعكس ذلك إذا لم تستجب الأحزاب الشيعية المتنفذة لهذه المطالب العادلة وتستمر في سياساتها الطائفية، فان من حق السنة العرب الذين كابدوا الويلات وعانوا وضحوا طيلة سنوات القهر منذ الاحتلال إلى اليوم، أن يلجأوا إلى خيارات تضمن لهم على الأقل، حياة حرة كريمة، بعيدا عن تسلط الآخرين عليهم، فالكرة الآن في ملعب التحالف الشيعي. فهل يصحو إلى نفسه قبل فوات الأوان؟
نقلا عن العرب