لم تكن وفاة الدكتورة بان مجرد حادثة غامضة في سجل الجرائم، بل تحوّلت إلى مناسبة كشفت حجم الهشاشة في الوعي الجمعي، وانفلات الخطاب العام، وتضخم الذات الإعلامية على حساب القضاء والوقائع.
فما إن أُشيع نبأ الحادثة، حتى انقلبت المنصات الاعلامية إلى محاكم، والناشطون إلى قضاة، والجمهور إلى هيئة محلفين لا تعرف من التحقيق سوى ما يرضي مزاجها.
وتناسى الجميع أن إصدار الأحكام المسبقة في القضايا الجنائية يعد استعجالًا مذمومًا، لا يستند إلى معطيات واقعية ولا إلى أدوات تحليلية رصينة.
فمسرح الجريمة، والأدلة، والفرضيات، كلها تبقى في عهدة المحققين المتخصصين، الذين درسوا أصول التحقيق الجنائي واكتسبوا خبرة ميدانية تؤهلهم لفك شيفرة الوقائع.
وفي المقابل فإن عامة الناس يفتقرون إلى أبجديات هذا العلم، ويقعون غالبًا في فخ الانحياز العاطفي والمزاجي، وهو أول ما يُحذر منه عند دراسة أصول التحقيق الجنائي.
إن مكان القضايا الجنائية هو مراكز الشرطة، والأقسام المختصة، والمحاكم، أما دور الصحافيين والناشطين، فهو داعم ومراقب لما يدور في هذه المؤسسات، لا أن يتحولوا إلى سلطة قضائية بديلة.
لكن الواقع أننا شاهدنا صحفيين وناشطين ومواطنين عاديين وضعوا أنفسهم مكان القاضي، ووجهوا اتهامات خطيرة مبنية على تكهنات لعائلة الضحية وشقيقها، ولمحافظ البصرة، والأحزاب السياسية، وطالبوا القضاء بتبني هذه الاتهامات.
ولم يقف هذا الانفلات الخطابي عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى الطعن المباشر بشرف الضحية حين ألمح إلى تعرضها للاغتصاب، وبما يكشف عن ادعاء وقح يفتقر إلى أبسط المعايير الأخلاقية، يستند الى رغبة أصحابه في صناعة الإثارة لا في كشف الحقيقة.
وحتى بعد أن قال القضاء كلمته وأصدر قراره النهائي، لم يمتثل هؤلاء لقرار القضاء، وأصروا على روايتهم للحادثة.
لذا بات من الضروري اتخاذ إجراءات قانونية بحق كل من استثمر سياسيًا في القضية، ووزع الاتهامات دون دليل. هؤلاء يجب أن يُقاضوا بتهمة تضليل العدالة، وإرباك الرأي العام، وزعزعة الأمن المجتمعي.
فالقضاء ليس ساحة للمزايدات، بل مؤسسة يجب احترامها وصون هيبتها، هذا المبدأ لا يقتصر على العراق، بل تؤكده تجارب دول ديمقراطية تعاملت بحزم مع التشكيك العلني في أحكام القضاء.
ففي فرنسا، خضع السياسي جان-لوك ميلانشون في سبتمبر 2019 للتحقيق بعد أن وصف القضاء الفرنسي بأنه “مسيس”، وأُدين لاحقًا بغرامة قدرها 8,000 يورو بتهمة “التمرد” و”التهجم على القضاء”، في رسالة واضحة بأن استقلال القضاء خط أحمر لا يُمس.
وفي ألمانيا، واجه الصحفي هولغر شتارك من صحيفة “دير شبيغل” عام 2014 تحقيقًا جنائيًا بعد نشره تقريرًا يتهم المحكمة الدستورية العليا بالتحيز السياسي. النيابة العامة فتحت تحقيقًا بتهمة “تشويه سمعة مؤسسة دستورية“.
لذا من واجب ذوي الدكتورة بان، رفع دعاوى قضائية ضد كل من تطاول على ابنتهم، واتهمها أو اتهمهم بالتستر على القاتل.
كما يجب على القضاء أن يلاحق كل من شكك في حكمه بعد صدوره، واعتبره غير واقعي، لأن ذلك يُعد طعنًا صريحًا في مؤسسة القضاء، وتضعيفًا لها.
وللادعاء العام العراقي أن يتحرك لحماية هيبة القضاء، وصون الأمن المجتمعي، حتى لا يظن المشككون أنهم في مأمن، فيتمادون في تطاولهم على الدولة والمجتمع.