قبل سنة 2003 لم يكن للتشريع المحلي وجود، ونقصد بالتشريع المحلي وجود هيئات محلية في مراكز المحافظات أو المدن لها صلاحية تشريع القوانين، وبعد سنة 2003 وإقرار الإدارة اللامركزية كثابت من ثوابت الدولة العراقية وتشكيل المجالس المحلية ومن ثم مجالس المحافظات بدأ الجدل بشأن هذا الموضوع إذ إنه من ثوابت الإدارة المحلية في التجارب العالمية وجود مساحة للتشريع المحلي.لم يكن للمجالس المحلية-ونقصد بها مجالس المدن ومجالس المحافظات- قانون ينظم عملها فقط قانون رقم 71 الذي سن في زمن إدارة بول بريمر سنة 2004 والذي أعطى مساحة ضبابية للتشريع المحلي، ومع ذلك حاولت المحافظات شق طريقها بهذا الاتجاه على الرغم من تأثير قلة الخبرة والصراع مع السلطات الاتحادية: وزارات وحكومة ومجلس نواب، والإرث الإداري غير المعتاد على هذا الأمر، فصدرت بعض التشريعات الخجولة التي اصطدم الكثير منها بصلاحيات الوزارات وأوقف تأثيرها عملياً وكذلك اصطدمت مع القضاء الذي لا زال لا يتعاطى مع التشريع المحلي كما يتعاطى مع التشريع الاتحادي.
علماً إننا نتحدث هنا عن صلاحيات المحافظات لا عن الإقليم وإن كانت أغلب النصوص القانونية تنطبق على الاثنين معاً.
في الدستور العراقي الدائم المصوت عليه سنة 2005 تحدثت بعض المواد عن هذا الأمر وسنستعرضها وفقاً للتالي:
المادة (110) حددت الصلاحيات الحصرية للسلطات الاتحادية بتسع عناوين لا عاشر لها.
المادة (114) حددت الصلاحيات المشتركة.
المادة (115) حددت إنه كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم، وإنه في حال الخلاف تكون الأولوية لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم، وهذا من أقوى النصوص التي يستند عليها مؤيدو التشريعات المحلية.
المادة ( 120) جاء في البند ثانياً منها :ـ تمنح المحافظات التي لم تنتظم في اقليم الصلاحيات الادارية والمالية الواسعة، بما يمكنها من ادارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الادارية، وينظم ذلك بقانون.المادة (116) يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمةٍ واقاليم ومحافظاتٍ لا مركزيةٍ واداراتٍ محلية.المادة (1) جمهورية العراق دولةٌ اتحادية واحدة مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق.كل هذه النصوص الدستورية تؤكد على لامركزية الإدارة ووجود فعلي لحكومات محلية وبدون القدرة على التشريع المحلي فمن المجازفة القول بصحة وجود اللامركزية الإدارية في البلد واقعاً.
في سنة 2008 صدر قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (21) وكان من المؤمل أن يفك هذه الشفرات الدستورية ويوضحها، وقد فك بعضها فعلاً، نصت المادة (2) منه في بندها الأول على إن ” مجلس المحافظة هو اعلى سلطة تشريعية ورقابية ضمن الحدود الادارية للمحافظة لها حق اصدار التشريعات المحلية في حدود المحافظة بما يمكنها من ادارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الادارية بما لا يتعارض مع الدستور والقوانين الاتحادية.”
كما جاء في المادة (7) منه فرع اختصاصات مجلس المحافظة البند ثالثاً إن من ضمن الاختصاصات ما يلي: ” اصدار التشريعات المحلية والانظمة والتعليمات لتنظيم الشؤون الادارية والمالية بما يمكنها من ادارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الادارية وبما لا يتعارض مع الدستور والقوانين الاتحادية.”و عدل القانون في سنة 2010 ثم عدل في سنة 2013 والآن هناك تعديل مطروح للنقاش، وابزر ما جاء في التعديل الأخير-باعتباره يمثل القانون بصيغته الحالية- بخصوص التشريعات المحلية:المادة (2) البند أولاً: “مجلس المحافظة هو السلطة التشريعية والرقابية في المحافظة وله حق اصدار التشريعات المحلية بما يمكنه من ادارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الادارية بما لا يتعارض مع الدستور والقوانين الاتحادية التي تندرج ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية”.وهذا التعديل لهذه المادة اختلف عن النص الأصلي في إنه حصر السلطة التشريعية والرقابية في المحافظة بالمجلس بعد أن كان هو أعلى سلطة مما يعني إمكانية وجود غيره.
المادة (7) ثالثاً بقيت على حالها.
المادة (44) والتي تحدد الموارد المالية للمحافظة وبالذات البند ثانياً الفقرة (2) منها والتي تنص على إنه من ضمن تلك الموارد : “الضرائب والرسوم والغرامات المفروضة وفق القوانين الاتحادية والمحلية النافذة ضمن المحافظات”.
كان نص هذه الفقرة قبل التعديل: ” الايرادات المتحصلة من الرسوم والغرامات المحلية والمفروضة وفقا للدستور والقوانين الاتحادية النافذة.” وهي لم تكن واضح في صلاحية التشريع في حين إنها بعد التعديل واضحة بذلك.المادة (45) التي تتحدث عن نقل الصلاحيات لثمان وزارات وتشكيل هيئة عليا بشأن ذلك.وعلاقة هذه المادة بالتشريع كون نقل عمل هذه الوزارات إلى المحافظات يعني إن المحافظات ستكون مسؤولة عن تفاصيل عملها كافة كلاً حسب محافظته وبالتالي هي مسؤولة عن أي حاجة تشريعية يستلزمها العمل الآن أو في المستقبل.
كما اكدت الموازنة الاتحادية لسنة 2016 على حق المحافظات في اصدار تشريعات مالية، وكذلك المحكمة الاتحادية التي أكدت في آخر القضايا التي نظرت فيها بهذا الخصوص-سنة 2012- على حق المحافظات في التشريع، كما وأصدر ديوان الرقابة المالية الاتحادي تعليمات بخصوص التشريعات المالية استناداً إلى قرار المحكمة الاتحادية أعلاه.
رغم كل هذه النصوص، ورغم أهمية التشريع المحلي في تحقيق إدارة لامركزية حقيقية وتكوين حكومات محلية ممكن الانطلاق منها لإصلاح وضع البلد، وتأكيد الحاجة لمساحة التشريع المحلي بعد نقل الصلاحيات للوزارات الثمان، ووجود فوارق بين بعض المحافظات في بعض الجوانب تتطلب خصوصية تشريعية، إلا إن مساحة التشريع المحلي لازالت محدودة جداً وغير ملموسة من قبل المواطن للاعتبارات التالية:
1-الصراع مع السلطات الاتحادية حكومة ووزارات ومجلس نواب.
2-الإرث الإداري وتأثيره على تصرف أعضاء الحكومات المحلية ومسؤولي الدوائر وموظفيها ورغبتهم في خوض التجربة من عدمها.3-الجانب المالي والحاجة له في التشريعات حيث لا تمتلك أغلب المحافظات حسابات مصرفية حكومية خاصة بالأموال المستحصلة محلياً ولازالت وزارة المالية تمتنع عملياً عن فتح هذه الحسابات.4-عدم تعاطي القضاء بواقعية مع التشريعات المحلية حيث لازال يتعامل مع مخالفتها-إن تعامل- وفق بند مخالفة التعليمات فقط!
5-الانتخابات المحلية الأخيرة انتجت حكومات محلية ضعيفة ومتصارعة وبالتالي لم يكن صوت الحكومات المحلية قوياً في المطالبة بذلك.
6-مركزية الاحزاب الحاكمة وانعكاس ذلك على هذا الأمر حيث لا ترغب أغلب الاحزاب في تقوية الحكومات المحلية على حساب الوزارات.
7-عدم وجود داعم شعبي قوي لذلك لعدم تفهم الأمر أولاً ولإنعكاس الخلل في العمل في الحكومات المحلية على ذلك. ولحل هذه الأمور اقترح التالي:
1-قيام الحكومات المحلية بإنشاء هيئة تنسيقية ضاغطة على السلطات الاتحادية كافة لتكميل كل متطلبات الحصول على الاستحقاق التشريعي وكذلك نقل الصلاحيات خاصة في جانبها المالي.
2-حملة توعية كبيرة لتعريف المواطنين بأهمية هذه المساحة وإمكانية الافادة منها.
3-الاستفادة من الخبرات القانونية في تدريب الكوادر وتحديد مكامن الخلل القانوني ومساحات الفراغ التي تتطلب تشريعات محلية.
4-البدء بتنفيذ بعض التشريعات التي ليس فيها جنبة قضائية أو مالية كبيرة لكي تظهر آثار التشريعات وفوائدها ولكي تشحذ الخبرات.
5-وضع آلية واضحة لسير عملية التشريع من الاقتراح إلى التنفيذ لأن آلية ذلك غير واضحة ولا مكتوبة حالياً.
6-لا قيمة لكل ما ذكرنا ما لم تكن هناك سلطات إتحادية متعاونة ومتفهمة لأهمية بناء حكومات محلية حقيقية، وما لم تكن هناك حكومات محلية مؤمنة بذلك وقوية أيضاً وتمتلك ثقافة قانونية تؤهلها لذلك.