قبل أن تذهب الظنون بالبعض أي مذهب وقبل أن يفسر طرحنا هنا على غير ما يعني، أسارع للتوضيح، إنني لا أقصد أحداً بعينه ولا أتكلم عن كاتب دون سواه، بل أعني ظاهرة استشرت وسار تحت لوائها بعض كتابنا، هي تجاهل الواقع والتشرنق في الـ(أنا). فالذات أولاً وبعدها الطوفان.
فبعض كتابنا أخذ للأسف يستهجن الفكر حينما يجدونه يعالج مشكلة بسيطة من المشاكل التي يعانيها المجتمع، فإنهم يعتقدون خطأ بأن الكاتب الحق ينبغي له أن لا يعالج إلا القضايا الفلسفية والأدبية والعلمية التي تهم المتخصصين .
وبعض الكتاب يكتبون وكأنهم يعيشون في بروج عاجية أو كأنهم خارج دائرة الأحداث أو بمعزل عن ما يجري حولهم من معطيات إيجابية كبيرة أو حتى إفرازات سلبية طارئة تحتمها مسيرة النهضة والإعمار في خطواتها الواثقة الوثابة – ان صارت فعلا – .
يكتبون بعيداً عن روح العصر وما تعنيه هذه الروح من رؤية حضارية لكل الأمور ذات العلاقة بالماضي والحاضر والمستقبل، ناسين إن تمرير هذه الأمور عبر قنوات الرؤية الحضارية يتيح لها الظهور بقالب فكري متناغم بدل ظهورها بشكل ممسوخ وجاف ومبتذل.
وعليه، فإن هذا الكاتب هو الذي يدرك إدراكاً لا يتزعزع، إن الكتابة الإبداعية ليست نزوة عابرة ولا شحنة طارئة، إنها إحساس راق بوجوب العطاء المستمر وشعور متأصل بشحذ الهمة نحو مستقبل حضاري لمجتمعه. فالكاتب المقتدر هو الذي يصوغ ما يكتب صياغة فنية تجتذب أفراد مجتمعه إليها، بالإضافة إلى إن عليه أن يغوص في أعماق أية مشكلة يعاني منها مجتمعه لتكون معالجته لها صحيحة. فإذا أخذ بها فإنها تغير مجتمعه نحو الأفضل وذلك لا يكون إلا إذا كانت حلوله للمشاكل حلولاً مستمدة من واقع الحياة.
ومن المحقق، إن الكاتب لا يصل إلى هذه القدرة إلا إذا كان مختلطاً بجميع فئات مجتمعه على أن يكون ممن تنطوي جوانحه على ضمير حي يجعله يتفاعل مع المشاكل التي يعاني منها المجتمع. والحق إن هذه المهمة من الأمور العسيرة إذ إنها تقتضي من الكاتب أن يكون منشغلاً بمشاكل الآخرين، وهي حالة لا يتصف بها إلا القليل من الكتاب خاصة إذا علمنا إنهم كثيراً ما يلاقون معاناة شديدة من جهات شتى، منها الجهات الغارقة في أعماق الجهل والجهات النفعية التي لا يهمها إلا مصالحها. غير إن الكتاب المخلصين يحتملون كل ما يقف في سبيلهم من متاعب، ذلك ما يحدثنا به التاريخ الثقافي البعيد والقريب.
ومن هنا، كان هذا الكاتب صاحب رسالة سامية يعمل على تشخيص مواطن الداء ليجتثها من جذورها، لأن الكلمة الصادقة أمانة ومسؤولية جد معتبرة. ولهذا يقول مالك بن نبي:- إن الكلمة لمن روع القدس. فكل من تعامل مع الكلمة وسحرها وولج دهاليزها، يعني جيداً صدق هذا القول، لأن الكلمة إن وجد لها المناخ الملائم ووجد لها أيضاً من يهتم بها ويقدرها حق قدرها، تكون ولا ريب فاعلة مبدعة تؤتي ثمارها الطيب كل حين ويتجاوب معها عشاق الحرف المتوهج.
إن انصراف الكاتب عن معايشة الواقع وعن تأصيل القيم الجمالية في مجتمعه وعن استشراف المستقبل لوطنه وعن المساهمة في صنع غده الأفضل، كل ذلك لا يعني سوى الهروب من ممارسة الدور الإيجابي الذي يفترض أن يقوم به الكاتب لأداء رسالته النبيلة في الحياة.
وليت هذا الهروب يأخذ شكل الصمت تنفيذاً لما ورد في الأثر (قل خيراً أو فأصمت). لكنه يأخذ شكلاً يبعث على الغثيان. فهناك على سبيل المثال لا الحصر نماذج من هؤلاء:-
الكاتب الذي لا يعنيه مما حوله شيء وكل ما يعنيه هو الحديث عن خوارقه وإبداعاته وكأنه أتى بما لم تستطعه الأوائل.
الكاتب الذي ينحر الإبداع كلما كتب ويدوس على التقاليد الأدبية والعلمية كلما خط قلمه سطراً، فتتراءى سطوره جثثاً هامدة وعباراته مقابر لدفن اللغة.
الكاتب الذي لا يرى في براعم مجتمعه وهي تتفتح سوى القتاد ولا يسمع في همس إبداعها سوى النشاز ولا يصغي إلى نغماتها العذبة لأن أذنيه لم تتعود إلا على كل ما هو قبيح.
الكاتب الذي يجمع بين كل هذه المثالب ويزيد عليها الكثير…
عن مثل هذه النماذج حدث ولا حرج، فما قيمة الكاتب إذا وقف في وجه التطور إذا لم يتفاعل مع مكاسب مجتمعه إذا لم ينصف هذا المجتمع فيبرز إيجابياته ويعالج سلبياته إذا لم يكن صاحب أهداف نبيلة وغايات سامية؟
على المرء أن يتساءل:- هل الكاتب الذي يتصف بما ذكرناه آنفاً ينتسب إلى الفئة التي تعاني من متاعب الحياة ومآسيها؟
الجواب على ذلك:- إن أكثر الكتاب المدافعين عن الفئات المظلومة هم الذين يكونون منها أو قريبين منها، ولكن قد يوجد من الكتاب فئة مترفة في حياتها تحس إحساساً قوياً بشقاء الفئات الضعيفة. فما هي إلا أن تنقلب على ذاتها مما يجعلها تنشغل بهموم تلك الطبقات، فالمسألة مسألة ضمير لا انتساب إلى فئة من الفئات.
إن تأصيل قيم الخير والجمال هي من أهداف الكاتب المؤمن برسالته، الكاتب الذي لا يبحث عن مكسب أو خطورة ولا يلهث وراء منصب أو جاه. أما التباهي وذكر الأمجاد الشخصية فهي لا تنطلي سوى على أصحابها، والأجدى منها الانصراف إلى المشاركة في بناء المجتمع بدل الانصراف إلى بناء الذات.
إن الكاتب لسان حال مجتمعه ويكتب بمداد دمه القاني عن أشجانه وأفراحه وأحزانه، وفي هذا يقول الشاعر الإنكليزي ميلن بـ(إن من يريد الإجادة يجب أن يكتب شيئاً يستحق عليه الثناء، ينبغي له أن يكتب هو نفسه قصيدة صادقة، أي أن يكتب صورة من خير الأشياء وأنبلها…).
فما أحوج ساحتنا الثقافية إلى كاتب يجمع بين الفكر الناضج والقلم الجاد والغيرة المتوقدة حتى يمكنه إحراز نتاج إبداعي راقي يضاهي الأدب العالمي. ولم لا؟!