قيل قبل انسحاب جون بايدن من السباق الرئاسي، بان حظوظ نائبته (كاميلا هاريس) ضعيفة جدا لخوض السباق الرئاسي ضد دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق، لأنَّها لا تمتلك الشعبية ولا الكاريزما، بيد أنَّ المعطيات الواقعية كذبت توقعات وتحليلات جميع المراقبين، فلم يمض أكثر من عشرة ايام من إعلان ترشيح هاريس، إلا وتدفقت عليها التبرعات بمقدار اكثر من ٣٠٠ مليون دولار، وتخطت دونالد ترامب الرئيس السابق والمرشح الحالي للرئاسة الأمريكية استطلاعات راي أجرتها عدة مؤسسات منها وكالة رويترز، بمقدار نقطة – نقطتين حتى في عدد من الولايات المتأرجحة مثل بنسلفانيا.
لم يكن جورج دبليو بوش الابن له كاريزما ولا شعبية، ولم يدور في خلده شخصيا أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، إلا انه تفاجا في يوم ما، بأن عدد من القياديين الجمهوريين عقدوا اجتماعا معه، وابلغوه أن يعد نفسه للترشيح، عن الحزب الجمهوري، وبعد أن تبوء مركز رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بقدرة الإعلام المأجور، كانت زلات لسانه أخطر من زلات لسان بايدن “البريئة”، فقد قال في احدى خطبه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول؛ من ليس معه أو مع الولايات المتحدة الأمريكية فهو ضدها، و قال في مناسبة أخرى أسوء منها، بانه يخوض حربا صليبية بعد احتلال أفغانستان والاستعداد لغزو العراق، وكان يفتقر أيضا للقيادة حسب اعتراف من عرفوه وعملوا بالقرب منه، ولقد لعب نائبه ديك تشيني دورا اكبر منه، حيث كان يمسك المقود من الخلف، إلا أنَّ بوش اصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية لمرة ثانية، بالرغم من أنَّه خسر أمام ال غور مرشح الحزب الديمقراطي، الذي وصفه الإعلام حينه بأنَّه اكثر الشخصيات السياسية أناقة، لكن المحكمة الفدرالية العليا أطاحت به لان الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة كانت في تلك المرحلة بحاجة الى بوش الابن الذي كان يفتقر الى أي شكل من أشكال الشعبية أو الكاريزما.
إنَّ الإعلام صناعة، وهو أخطر من أي سلاح، وبإمكان جر أي شخص من القاع ولم يكن محل أنظار أحد ما، ليسلط الضوء عليه بين ليلة وضحاها، ويصبح احد أعلام السياسة، وليتم تسويقه وتحويله أمّا الى بطل قومي، مثلما حدث مع الخميني الذي لم يكن يعرفه المجتمع الإيراني إلا في حدود فرقته الدينية، ليتحول في غفلة من الزمن الى البطل الأوحد للثورة الإيرانية، إذ كان الأفق اليساري والعمالي في حينها قد ساد على ثورة ١٩٧٩ في ايران وخاصة عند دخول عمال النفط على خط الثورة بإعلانهم الإضراب، مما وجه ضربة قاضية لنظام الشاه وأطاحت به، وكانت الدوائر الإمبريالية في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تخشى أن تتحول إيران الى قلعة يسارية، أو على الأقل وقوعها في خندق الاتحاد السوفيتي، فتسارعت للالتفاف على الثورة من خلال صناعة “بطل” للثورة، فراحت إذاعة (مونت كارلو) الفرنسية و(بي بي سي) البريطانية و(صوت أمريكا) الأمريكية تبث خطب الخميني ليل نهار، وبعد أن تم تسويقه إعلاميا ودعائيا، نقل عبر الخطوط الجوية الفرنسية الى طهران، وهو نفس الشيء الذي حصل مع نوري المالكي الذي لم يكن يحلم بالحصول على منصب مدير عام في احدى وزارات الحكومة، ليأتي زلماي خليل زادة المبعوث الأمريكي والمفوض المطلق من قبل إدارة بوش ويختاره لرئاسة الوزراء، وتم تلميع صورته وسوق إعلاميا واصبح مثل غيره من الذين جلبتهم أمريكا الى دفة السلطة ولكن بسيناريو مختلف، ليطلق على نفسه “مختار العصر” تيمنا بمختار بن يوسف الثقفي 1 هـ / 622– م – 67 هـ / 686 م) الذي رفع شعار “يا الثارات الحسين” في صراعه الدموي مع الدولة الأموية على السلطة بحسب الروايات التأريخية، وبعدها ليتحفنا أي المالكي بعبارته الشهيرة باللهجة الشعبية “بعد ما ننطيهه” أي أنَّه لن يقبل بترك السلطة، بعدما سلَّم ثلث مساحة العراق الى داعش، وبعد دورتين متتاليتين من مساعي ترسيخ سلطة طائفية دكتاتورية مدعومة بغول من مافيا الفساد، لتطيح به نفس الجماعات التي سوقوه لنا.
وفيما يتعلق بالإنفاق على الحملة الانتخابية الأمريكية لعام ٢٠٢٠ فقد بلغ خمس عشرة مليار دولار، حيث أنفقت على السباق الرئاسي ست مليار دولار بينما أنفق تسع مليار دولار على انتخابات الكونغرس بغرفتيه الشيوخ والنواب. وقد أنفق أكثر من نصف تلك المبالغ على الحملات الدعائية والإعلامية. وهذا يعني أنَّ حجم الإنفاق المالي هو من يصنع الكاريزما ويسوقه للمجتمع، بغض النظر ما يحمله من الشهادات الأكاديمية والعلمية، وبالعودة الى (ليش فاليسا) الذي قادة حركة التضامن ضد السلطة في بولندا في نهاية الثمانينات، فقد كان عاملا وأسس مع رفاقه حركة التضامن، وسطع نجمه في العالم بدعم الإعلام الغربي، ودقت له الطبول، وتم تحويله الى نجم تجاوزت شهرته شهرة رئيس أمريكا أو لاعب كرة قدم شهير، وبعد انهيار الكتلة الشرقية، واستلام الجناح الليبرالي الموالي للغرب السلطة في بولندا، انتفت الحاجة الى (ليش فاليسا)، فانطفأت شمسه وافل نجمه وبات في طي النسيان .
والأكثر سخرية في المشهد الأمريكي، هو عندما يتحدث المحللين عن تمتع ترامب بالكاريزما، ولكن التجربة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية، تبين أنَّ ما تحتاجه الساحة السياسية هو معلم سرك لا أكثر، وأمّا الكاريزما وغير ذلك، فلا مكان لها في الساحة “الديمقراطية الأمريكية العريقة”. فهذا المدان بأكبر عدد من الجرائم حوَّل ساحة المناظرات السياسية إلى مجرد سيرك، فهو يوظف جميع خطاباته في حملته الانتخابية بالتهكم على منافسيه، وفبركة الدعايات والأكاذيب للنيل من خصومه، ففي المناظرة الأخيرة التي أطاحت ببايدن لم يقل ترامب أي شيء عن برنامجه الانتخابي، سوى التهكم والسخرية على خصمه بايدن وإدانة سياساته، وبنفس المنطق والمعيار، يمكن أن نقول، بأنَّ الإعلام الموالي للديمقراطيين استطاع الإطاحة ببايدن قبل أن يطيح به سنه وزلاته.
وأخيرا لابد من القول إن صناعة الإعلام بإمكانها تغيير مزاج المجتمع وتسليط الضوء على قضايا ثانوية وإبرازها على أنَّها قضايا مصيرية، مثلما يحدث لدينا في العراق، بين الحين والآخر لتحقيق أهداف جهنمية. وإذا ما بقينا في الولايات المتحدة الأمريكية، فنجد أنَّ عدد الذين قتلوا من أصول أفريقية في عهد أوباما على يد الشرطة هو اكثر بكثير مما قتل في عهد ترامب، وقد تأسست حركة حياة السود مهمة “Black Lives Matters” عام ٢٠١٣ أي في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، لكن لم يسلط الإعلام الضوء كما سلط على قتل (جورج فلويد) الذي مات مختنقا تحت قدم شرطي أمريكي ابيض في مدينة مينيابوليس في نهاية أيار من عام ٢٠٢٢. والسبب ببساطة يعود إلى أنَّ الطبقة الحاكمة اتفقت بأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة الى بايدن وليس الى ترامب خلال المرحلة القادمة. واتفقت قناة (فوكس نيوز) اليمينية التي كانت تدعم ترامب مع (سي ان ان) “اليسارية” الموالية للديمقراطيين الى جانب جميع وسائل الإعلام بما فيها سوشيال ميديا على الإطاحة بترامب.
ولكن يبقى هناك صف من الحمقى والسذج العنصريين والفاشيين بحاجة الى شخصية تعزف على وترها، ولا تحتاج الى الإعلام كي يصنع منها كاريزما، فهي تدور خارج الزمان والمكان، لكن الإعلام ينفخ بها مثلما تنفخ الرياح على الجمرة لتتحول الى نار موقدة.