لاشك أن قصيدة النثر قد تحررت من العديد من الإشكاليات وأنتقلت الى التنظيم الفني والفوضى المدمرة وبذلك ووسط المتغيرات التي رافقت جوانب عديدة في حياة المجتمعات ومنها بالأخص التطور التقني وشيوع المفاهيم والنظريات الجديدة التي أكدت في الغالب منها على (الآنا – السرية الكونية – اللاوعي ) حيث شكلت قصيدة النثر ضرورة تصاعدت أهميتها من عصر بودلير ليومنا هذا لذلك فأن رصد أي منحى إبداعي ضمن مفهوم قصيدة النثر يجعلنا أن نفتش عن العناصر الجديدة في هذا البناء وكذلك قدرة النص النثري للهروب من مسمى الشعر بمفهومه العام وقدرته على
تقبل مفردات جديدة ليتمكن الشاعر من تأمين وجوده في متاهاته عبر مايراه من علاقاته العبثية وأنساقه التخيلية، فالشعر في مفهوم رينيه شار ليس وسيطا لإلتقاط رسائل اللاوعي بل هو اللاوعي نفسه المصحوب بافتنان الحياة المعجز المتوارى الملفت للإنتباه البعيد الباقٍ في التحليق الروحي الموصوف بسخرية المُشابهة والذي يمتزج بالواضح الغامض خارج إطاره الزَمني والمكاني ، ومن هذا البدء أرى في أجلسُ جنب حياتي المجموعة الشعرية للشاعرة سهام جبار والتي تنتمي نصوصها الى قصيدة النثر أجدُ أنها رفضت التحديدات المُسبقة للمعايير الجمالية وقطعت الصلة مع نمطية اللغة ومع الأسلوب المرحلي وكذلك مع السِّمات المنطقية المُفَخمة وكل مايمت بالألاعيب الشعرية المقصودة ، وهنا يُكمن العالم الشعري الجديد لسهام جبار والذي أرى في عناصره الجديدة ذلك الإختراق الذي تحقق فوق المجرى الطبيعي لأفكارنا إختراق قوانين النوع وتخصيب المشهد الشعري والإستخدام اللامحدود لمقتنيات الحداثة الشعرية ضمن الإقصاء والإغراء
للمنظومة البوحيّة وتنشيط مؤثراتها النفسية والعاطفية وبذلك يستكمل النص منظومته التكاملية للكشف عن الحقائق المجهولة وكشف أسراها وهذا الكشف لايتعلق بالكونيات فقط بل الأهم منها بتلك الهواجس التي تنتاب النفس البشرية وهو يعني وبقول مالارميه إعادة اللغة بعد خلقها الى منابعها الحيوية وتحطيمها حتى تكف عن الخداع والخيانة وبتعبير أدق إنتهجت سهام جبار وضعا آخر للتعامل في نصوصها من خلال مراوغتها اللغة لتكثيف معناها الخاص وتتبع مديات حساسيتها ضمن قفزات المشهد الشعري ولعل تلك الرقابة المتخيلة هي معطى آخر من المعطيات الجديدة التي وظفتها الشاعرة للخروج من النص النثري الشكلي مادامت قصيدة النثر تتميز بفردانيتها بتعريف موريس شابلان وغونزاك فريك لذلك فأن ماقدمته الشاعرة في مجموعتها الشعرية ( أجلسُ جَنبَ حياتي ) إنما يُعَبرُ عَن إنسجامٍ تام مابين حيثيات المنتج من أن العالم لايطاق وما كَتَبَتهُ الشاعرةُ هو لإيجاد منفذٍ للرحيل بالشعرِ نحو المجهول مجهول الطرف الأخر ومجهول
الرغبة ومجهول الضياع ومجهولية الثبات ومجهولية لماذا بقيّت أشياءٌ كثيرةٌ بالية عالقة برداء الشعر لتصلَ لِمُعطىً أخرَ يتصل بالجمع الاكبر من الموجودات التي خلقت في الطبيعة او تلك الاشياء التي إستحدثها الاخرون تحت طائلة القناعة أو الرضى القسري وكل تلك الأشياء لاتريدُ من الآخرين تفسيرها وإنما الإحساس بأن التسلسل الزمني لم يعد قائما لخلق الأشياء الجميلة :
الضوءُ المدّونُ تَحتَ سنيني
رَجَّ القَدَرَ في العُتمةِ
ونبَشَ عن حُلمٍ
أضَعَهُ تحتَ الوسادةِ
هكذا أُربي
أُفقاً في قفص ،
إن فكرة الكلمات الطليقة تراها الشاعرة سهام جبار هي المحفز المناسب لإطلاق سراح الكلمات الحبيسة في قنوات الأفكار وأجواء الحلم وكذلك ضمن النهايات المتوقعة وغير المتوقعة والقصد هنا يكون قصدا إستكمالياً للإشتغال على أكثر من معنى داخل النص النثري وفي هذا الإتجاه أيضا نرى معطىً أخرَ مايصطلح على تسميته التضاد الإزدواجي ضمن أكثر من مفردة وأكثر من مشهد بوجود تجذري وبمشاركة تنافرية مابين ( العيني والسمعي والتخيلي ) لتأخذ المفردة سلوكا ما ضمن لغة وصفها هنري ميشو بالضرب اللاشعوري للفراغ والتي يقف الشعر عندها مابين حد التعبيرات الثرية والتعبيرات المبهمة مابين الحواس والغايات الفلسفية لإجادة التماهي لصياغة الكونية الجديدة وإن كانت بإثراء اللغة فلابأس ولا بأس إن كانت بهدمها للوصول لمعاني الأشياء من خارج كلماتها المتعارف عليها لذلك وضمن أجلس جنب حياتي قدمت لنا سهام جبار معطى أخر للمعطيات التي سبق وذكرناها ومن خلال مادعا اليه مالارميه (أن العالم شأنه شأن
تركيب جملة ) قدمت لنا حزما من المشاهد الشعرية لإنتاج جملة الكون كي تنطق صورها بأجمل صور النطق ضمن حدي المحدد الواضح والمبهم اللامحدود لنستدل من خلال الشاعرة على أن الشعر تشويش مستمر للتخيل وفقدان وقتي للذاكرة وإجادة تمزيق مفاصل الحياة للشعور بالوجود والوحدانية الحرة :
بغرابتي وغموض شأني
أعربتُ عن حياتي الشاقة
التي لوّنت أصابعي
بورودٍ مُطلقةٍ
مقرنصة رأسي المعلقَ في الطريق
بغرابتي ونفور روحي
أنزلقُ الى الجنون بموجةٍ
وأحلقُ عن الزبدِ بموت
كل هذا الزبد الذي صنعته غرابتي
يحدقُ بمروري السريعَ على هذه الأرض
لقد رأت سهام جبار في نصوصها النثرية وهي تقدم لنا روحا شعرية جديدة أن كل شيء قابلٌ للإبتكار ولنا أن نخلق لأي شيء في الكون أعظم فرصة وأنبل ملامح للوصول الى المشترك الشعري الذي يحققه الشاعر في ذاته أولا بخصائص تتمثل لديه دون التخطيط لها مسبقاً :
بائع التقيات والتمائم
أهداني بعوضاته النافقات
وأغمد مفتاحاً كهلاً
في سؤالي