23 ديسمبر، 2024 9:58 ص

ظاهرتان متناقضتان أو سلوكيات تختزل ثقافة أو حضارة أو تربية في نتائجها وآلياتها، تلك هي ما يُعرف اليوم بالتسقيط ونقيضه في التصعيد، ولعلّ بواكير التسقيط الاجتماعي والسياسي مارسه البعثيون في بدايات الستينيات من القرن الماضي مع الزعيم قاسم ومع الشيوعيين كأفراد أو مجموعات، بل مارسوها أيضا مع مدن ومجتمعات، كما كانوا ينشرون طرائف عن الكورد والشروك والمعدان، حتى وصل بهم الأمر إلى إطلاق صفات ذميمة على مدن بأكملها كما في ناصرية الثقافة والفن والأدب والحضارة فجعلوها شجرة للخباثة وهي ينبوع للطيبة.

هذا السلوك يعتبر من أسوأ أنواع السلوك العدواني غير المعلن في مجتمعاتنا على المستوى الخاص والعام، وهو بتقديري ينمُ عن إصابة صاحبه أو أصحابه بمرض سياسي أو نفسي وتربوي، تترجمه أفعال مكتومة تشبه في نتائجها ما تفعله حشرة الأرضة في نخرها للأشجار أو البيوت، والخطورة تكمن في الصمت والكتمان أثناء أداء عملها أو ممارساتها، وإذا كانت تلك الدودة أو الحشرة تفعل ذلك بحثاً عن الماء والكلأ دونما قصد إلا إشباع غريزتها، فٲن الإنسان هنا يفكر ويخطط ويبرمج كيف يهدم صرحاً لا يستطيع ارتقائه، حتى إن نجح بذلك بشعر لا بسعادة الانتصار وتحقيق رغبته في الارتقاء، بل بتدمير ذلك الصرح الشاهق الذي عجز عن اعتلائه؛ وبذلك “ساوى حيطانه” كما يقول الدارج المحلي.

للأسف الشديد انتشر وترعرع هذا السلوك أو الشعور في البيئة التي تساعد على نموه، وهي بيئة التخلف والفساد والتقاتل على المناصب والامتيازات بعيداً عن الهدف السامي في مؤسسات الدولة والأحزاب والجمعيات وحتى المنظمات منذ العام 2003 ولحد اليوم، لكنه بدون أعراض ظاهرة، وهنا تكمن خطورته حيث لا تظهر الأعراض إلا وقد حقق صاحب هذا الشعور برنامجه، فهو يعمل ليل نهار لا كمنافس يشق طريقه إلى ذات المنزلة التي وصل إليها رفيقه، سواء أكان في أعلى مستويات المسؤولية أو في اختصاصه أو درجته الوظيفية، ولذلك تراه يستخدم كل الأساليب لتسقيط غريمه الناجح أو المتميز، وهنا أتحدث عن ظاهرة للأسف الشديد انتشرت حتى تسببت في تآكل وتهجير واستقالة أو إبعاد الآلاف من أولئك الناجحين في أعمالهم أمام أ؍ناس لا همَ لهم إلا إزاحة الناجحين وتدميرهم ليتسلقوا مواقعهم، مما أدى إلى اكتضاض جامعات الغرب والولايات المتحدة وكندا واستراليا بآلاف المبدعين الهاربين من بلدان الأمراض الأخلاقية المزمنة.

وفي الوقت الذي يعمل هؤلاء في إسقاط الناجحين يعمل الآخرون في منافستهم على دفع منافسيهم للارتقاء إلى مواقع أعلى تتيح لهم تبوء مواقعهم ولكن بسمو ونبل، وهنا نتوقف عند التصعيد النقيض للتسقيط حيث يعمل الفرد والمجتمع على دعم ودفع المتميزين والناجحين إلى اعتلاء مواقع ومراتب ومراكز أعلى، كي يتاح للآخرين تبوء أماكنهم، وهكذا دواليك في إنتاج أفواج من المتميزين يقابلهم أفواج من الفاشلين الذين اعتلوا مواقع رفيعة ومتقدمة في دول الفشل والفساد، بينما ترتفع حضارة الكثير من البلدان الجاذبة لهذه القامات والأعمدة من ضحايا الفاشلين والطارئين في عمليات التسقيط والتهميش والإقصاء، تنحدر بلاد الفاشيين والفاشلين والانتهازيين والفاسدين إلى الحضيض.