23 ديسمبر، 2024 11:12 م

التسامح والإنتقام في الإرث العراقي

التسامح والإنتقام في الإرث العراقي

استهلالاً : هل يمكن يمكن القول ان التسامح هو في الجوهر واللب من إرث إنساني وديني متجذر عرفته البشرية منذ الأزمنة الأولى  لسيرورتها التاريخية ؟ وبالتالي فالسياقات العامة ، ينبغي ان تعود الى العمل بهذا الإرث ، الذي جرى ويجري تجاهله خلافاً للنصوص الدينية والحقوق الإنسانية وما تتطلبه طبيعة الحياة ذاتها ؟ .
ان مفردة التسامح كنقيض للعنف ، لابد ان تثير بدورها جملة من الأسئلة على وقع معطياتها – التاريخية منها أوالحاضرة – : هل يمكن الحديث عن ثقافة التسامح ،خارج أنساقها السياسية والإجتماعية والفكرية وماشابه ؟ وبالتالي فما الجدوى من وجود طريق جميلة وسط الحرائق ؟ ثم من أين يبتدىء الحديث عن التسامح ؟  وأين يمكن ان ينتهي ؟
ان سيرورة التاريخ تنبئنا بأن النكسات والإخفاقات التي واجهتها ثقافة التسامح ، انما نشأت في الأصل منذ التكوينّ الأول للاجتماع البشري ، ذلك لأن التاريخ القديم حافل بأدلة ممهورة بالتيقن ،  بأن العنف كان الجوهر في الأساس ، وقد رافق الانسان منذ نزوله  الأرض ، حيث دشنّه بمعصية سماوية وجرم أرضي إرتكبه ما ان بدأ بالتكاثر( معصية آدم وجريمة قابيل )  لتتأخر من ثم دعوات التسامح طويلاً ، قبل ان تأتي مع الأنبياء والمرسلين ، لكنها لم تستطع مع ذلك،  إحداث خرق ملموس في دوائر العنف ، إذ بقي التسامح بمثابة بقع بيضاء متناثرة أمكن ل” سلاح ” العنف تجاوزها أو تطويعها أو إستغلالها .
ومع كلَ ماشهدته الحضارات القديمة – أو ما اصطلح على تسميته بالحضارات الوثنية – من عنف ، الا ان حركته بقيت محصورة في حدودها الأرضية كصراع بشري لم تُشرك فيه الآلهة ، الا في حدود ما ابتدعته مخيلة الإنسان ، وفيها أوكلت مهمة العنف ، الى صنف معين من الآلهة إطلق عليه (إله الحرب أو الدمار أو الاوبئة أو ماشابه ) طبقاً للميثولوجيا ، وكان هو الإله الوحيد الذي يتطلب  إرضاؤه تضحية بشرية حصراً ، ترافقها طقوس  إحتفالية خاصة ، لكن قطعاً تاماً كان قد حدث بعد ذلك مع تضحيات كهذه ، جسّدتها قصة النبي إبراهيم ، التي كانت دلالتها في ما أسقطته من رمز بأن فظائع التضحية، بالبشر لايمكن قبولها من إله، كذلك لم يسجل تاريخ تلك الحضارات – الوثنية – حروباً كبرى خيضت تحت مسميات دينية أو معتقدية مباشرة ، بل كانت الشعوب لاتجد موانع  قدسية في ان تتبادل آلهتها كجزء من إرث بشري عام ،  لذا لايرى المنتصر غضاضة في اتباع آلهة المهزوم ،  في وقت قد يتبنى فيه المهزوم ما يرده من معتقدات وآلهة .
لكن ومع ظهور الأديان السماوية ، برزت الوشائج بين الدين والحرب الدينية ، وربما كانت الفتوحات الإسلامية، هي اولى الحروب المقدسة ، ما أدخل مفاهيم جديدة في حياة العرب ، إذ انتقلوا من خوض المعارك القبلية للإستيلاء على كلأ أو مراع أو غنيمة أوطلباً لثأر، الى حروب لنشر الدين .
لقد أوجدالعرب صيغة للتسامح في حياتهم السابقة ضمن أشهر محددة أطلقوا عليها ( الأشهر الحرم ) جرى التقيد بمفاعيلها كعرف مجتمعي في منظور أخلاقي أملته ضرورات الحياة البدوية ذاتها ، وبالتالي لم تُخرق الا بعدما أصبح العنف سلوكاً سياسياً في الصراع من أجل السلطة .
التسامح بمدلوله الأخلاقي / الثقافي وبعده الإجتماعي ، إنما يتمظهر واقعاً بغفران الإساءة ،أيّاً تكن عناوينها ومصادرها ، وفي العادة ، تنتشر ثقافة التسامح حينما يسود نوع من التكافؤ بين أطراف مختلفة بعد نزاعات  لم يتمكن فيها أي طرف من إخضاع الآخر بشكل حاسم ، الأمر الذي يجعل التسامح ثقافة تتسم بالثبات والتجذّر، طالما بقي الإعتراف بالتكافؤ قائماً، أي ان التسامح هنا ، يأتي  كحالة ضرورة يحتمّ قيامها وجود أطراف متناظرة ، وبالتالي فهي سمة بشرية تجد مباركتها في التشريع الديني ، الا ماكان مصدره الله ، فيسمى (مغفرة ) حيث لاتكافؤ بين الخالق والمخلوق ، أما التعصب والإنغلاق( الفكري ، الإجتماعي ، المعتقدي )  الذي يشكل  أهم مصادر العنف تجاه الآخر المختلف ، فربما استلهم مقولاته الأساسية إستناداً الى نظرية ” الإصطفاء ” التي تجعل شعباً أو أمة دون سواها ، مختارين ومفضلين عند الله ، ومن الطبيعي ان تشكلّ تلك المقولة مصدراَ مهماً لانشقاقات لاحقة – دينية أو عرقية أو طائفية- مترافقة مع سلوكيات من نوع الإستعلاء والشعور بالتميّز والعنصرية وغيرها من الظواهر المضادة للتسامح ، وهي التي ولدت من رحمها حركات ” قدسّت” العنف المؤدلج والمؤطر والمسيس –الخ ، باعتباره الركن الأصلب من أحادية عقائدية مطلقة الصواب .
تذهب بعض الآراء ، ان تجسّيد العنف في الموروث الإسلامي ، كان في مصدره  حديث ” الفرقة الناجية ” الذي اتخذته الحركات التكفيرية والمتشددة عموماً، سنداً فقهياً وتشريعاً دينياً ، فمادامت القاعدة الدنية تنصّ على ان الله لن يسبغ رحمته – أي لن يتسامح في المعنى البشري – الا مع فرقة واحدة لها الحقّ في ما تفعل وتشرّع باسم الله ، لذا فكلّ المختلفين معها ، هم على ضلالة ولو كانوا من المسلمين .
والتسامح ان صدر عن قويّ مقتدرتجاه ضعيف،  يسمى (العفو)  وهو معنى أو مفهوم حقوقي تمارسه سلطة أو قوة تمتلك استطاعة تنفيذ عقوبة مستحقة على ما ارتكبه المعفو عنه من جرم ، فيما التسامح ظاهرة تربوية إجتماعية تزدهر في الغالب بين شعوب أو أمم إستقرت بعد اضطراب .
 الملاحظ في هذه الحالة ، ان كلا المصطلحين – التسامح والعفو – ينطلقان من القاعد ة إياها مع فارق في الشكل ، ففيما يعلن “العفو ” حيثياته ودوافعه بشكل ظاهر، يضمر التسامح ذلك ضمناً  ، على رغم انهما يتشابهان جوهرياً بافتراضهما المسبق ان الآخر ارتكب ذنباً ، أي انه خرج عن قاعدة اعتباره متطابقاً أصلاً، لذا تسامحنا باختلافه أو إعتبرنا ذلك الإختلاف أعوجاجاً في الأصل يستوجب التقويم ، وان إرتضينا وجوده وقبلنا الإعتراف باختلافه ، فذلك نابع لعجزنا عن قهره أو للتكلفة الباهظة ثمناً لقهره ، لذا ينشأ التسامح إجمالاً ، مع عدو زال خطره أو خصم أمكن حياده – أو ترجى صداقته أو فائدته .
كان التسامح  والحالة هذه ، دعوة إصلاحية ملتصقة بأحلام الفلاسفة وأخلاقيات الأتقياء ، ومادامت تقوم في الجوهر على قاعدة التماثل المفترض والإختلاف المفروض ،فإنها ستبقى عرضة للتهشّم والإنهيار ،حال الإختلال في موجباتها، أو فقد التوازن بين أطرافها ، انها أقرب الى معاهدات تمليها الظروف والمتغيرات ، منها الى ثقافة تأصيل يترسخ في حياة البشر – مجتمعات وأفراداً – لذا وعلى رغم شفافية مفردة التسامح وإيحاءاتها النبيلة ، الا انها تبطن متجهاً آخر يدين الإختلاف ضمناً باعتباره لايستقيم مع التماثل ، وهي مفارقة ربما تلقي الضوء على إشكالية ماتواجهه ثقافة التسامح ، إذ ان الآخر ليس مخطئاً في اختلافه معنا  ،ولا نحن مخطئون كي نتسامح ، فالأصل القبول والإقتناع المطلق بأن الإختلاف – في معنى التنوع – هو التعاون والتكامل الإنسانيين، أي جوهر الحياة وغنى الحضارة ، وليس غصناً أعوج ينبغي تقويمه .