وقعت مجزرة أربيل أثناء مداهمات القوات المسلحة العراقية لمقر الجبهة التركمانية العراقية في أربيل يوم السبت الموافق 31 اب 1996، ما أسفر عن مقتل 48 مواطناً تركمانياً واعتقال 38 آخرين.
اجتاحت القوات العراقية الكويت في 2 اب 1990 حيث انفلت الامور خاصة بعد التدخل الدولي لإخراج القوات العراقية من الكويت.
في اعقاب حرب الخليج واجتياح العراق للكويت، قامت ثورة شعبية عارمة في شمال وجنوب العراق. الامر الذي ادى الى ضعف الدولة آنذاك في تلك المواقع بل وانجلاء سلطتها منها. على اثر ذلك انسحبت القوات العراقية من شمال العراق بعد انتصار الانتفاضة الشعبية خلال الانتفاضة الشعبانية في عام 1991.
بعد حرب الخليج وفي عام 1991 شهد شمال العراق تحوّلات سياسية جذرية أفرزت واقعاً جديداً للعديد من مكوناته، أبرزها التركمان. ففي أعقاب الانتفاضة الشعبانية وانسحاب القوات العراقية، تحوّلت المنطقة إلى ملاذ آمن تحت حماية دولية، مما فتح الباب أمام حركات المعارضة لتنظيم صفوفها.
كان للتركمان دور فعال في هذه الانتفاضة وسرعان ما استغلوا هذا الفراغ السياسي لتأسيس مقراتهم. من مدينة أربيل، التي أصبحت نقطة انطلاقهم السياسية، بدأت الحركة السياسية التركمانية في بناء نفسها. لم يكن هذا النشاط مقتصراً على السياسة فحسب، بل امتد ليشمل المجتمع المدني كذلك، حيث تم افتتاح المدارس التركمانية وتأسيس الجمعيات الخيرية لتقديم الدعم للعائلات المحتاجة، مستفيدين من الحماية الدولية التي وفرتها المنطقة.
في خضم هذا النشاط، تأسست الجبهة التركمانية العراقية، التي سرعان ما بسطت نفوذها وأصبحت لاعباً رئيسياً في المشهد السياسي المعارض في المنطقة. كانت الأجواء في أربيل مواتية لنمو هذه الحركة، مما سمح لها بالعمل بحرية كاملة، وتزايدت نشاطاتها ونفوذها بشكل ملحوظ.
صراع الحلفاء ونكبة التركمان
لم يدم الهدوء السياسي طويلًا في المنطقة. سرعان ما بدأت الخلافات تظهر على السطح بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. تصاعدت هذه الخلافات بسرعة لتتحول إلى اشتباكات مسلحة دامية، أوقعت خسائر بشرية كبيرة من كلا الجانبين.
في لحظة محتدمة من هذا الصراع، وفي هذه الاثناء زعمت القوات العراقية النظامية انها تتدخل لفض النزاعات وتهدئة الامور، في خطوة كانت لها عواقب وخيمة على الجميع وفي صدارتها التركمان. حيث دخلت القوات العراقية إلى شمال العراق، بحجة فض النزاع بشكل حيادي وليس للنيل من طرف على حساب طرف اخر. هنا، كان الحظ السيئ من نصيب التركمان.
فمع دخول القوات العراقية، كانت المقرات الحزبية التركمانية في أربيل هي الهدف الأول للمخابرات العراقية، في إشارة واضحة إلى أن المكاسب السياسية التي حققها التركمان في المنطقة الآمنة كانت قد وخزت كالشوك عيون النظام القمعي في بغداد. من جهة اخرى استهداف التركمان دل على أن وضع التركمان السياسي كان لا يزال عرضة للتقلبات الإقليمية والصراعات الداخلية. هذه الحادثة مثلت نكسة قاسية للتركمان، أعادتهم إلى نقطة الصفر بعد سنوات من النشاط السياسي والاجتماعي.
أربيل عشية النكبة
في صبيحة يوم السبت الحادي والثلاثين من آب عام 1996 ، كانت أربيل تستفيق على وقعٍ ثقيل لم يأتِ من ريحٍ عابرة. 45 ألف جندي، بأسلحتهم وعتادهم، زحفوا على المدينة التي طالما كانت ملاذاً آمناً للهاربين من لهيب القمع. لم تكن تلك القوات قادمة لفرض السلام، بل لمعاقبة من تجرأوا على الحلم بحريةٍ وكرامة.
كان التركمان، الذين وجدوا في هذا الملاذ فرصةً لتنظيم صفوفهم وإحياء هويتهم، الهدف الأول لهذا الزحف. استغل النظام البعثي الفرصة الذهبية، فكانت تلك اللحظة هي لحظة تصفية الحسابات مع كل من عارض حكمه من التركمان تحديداً.
توغلت القوات في قلب المدينة واقتحمت أكثر من 30 مقراً للجبهة التركمانية العراقية، تلك الجبهة التي حملت آمال أمة باكملها وولدت من رحمها. لم تنجُ حتى منابع العلم والثقافة؛ فمُزّقت صفحات 38 مدرسة ومركزاً ثقافياً وكأنهم أرادوا محو الذاكرة قبل أن يمحوا الجسد.
اعتقلت أيادي الظلم 38 شخصا من التركمان واقتادت 48 آخرين إلى مصير مجهول، لم يعد منهم سوى الصمت. انتهت رحلتهم في حفرٍ مجهولة ومقبرة جماعية، حُفرت على عجل لتطمس آثار جريمة ارتكبت بحق الإنسانية. كان ذلك اليوم هو يوم النكبة، الذي تبددت فيه الأحلام على صخور الواقع المرير وتركت ندبةً في قلب التركمان، تروي قصة خريفٍ قارسٍ حلّ عليهم في مدينة أربيل.
29 عاماً والذكرى لا تموت في وجدان التركمان
يمر اليوم 29 عاماً على فاجعة أربيل، لكن ذكرى ذلك اليوم الأسود لا تزال حية في وجدان التركمان. ففي الحادي والثلاثين من أغسطس عام 1996، لم تكن أربيل مجرد مدينة سقطت في قبضة القوات المسلحة العراقية، بل كانت مسرحاً لمأساة إنسانية كبرى طالت التركمان بشكل خاص وحاولت محو آمالهم في بناء كيان سياسي مستقل.
كانت “المنطقة الآمنة”، التي نشأت في شمال العراق بعد حرب الخليج، بمثابة فرصة تاريخية للتركمان لترتيب صفوفهم وتنظيم حركتهم السياسية. فمن مدينة أربيل، انطلقت الجبهة التركمانية العراقية، لتصبح قوة فاعلة في المشهد السياسي المعارض. نمت الحركة، وتأسست المدارس والجمعيات الخيرية، وبدأ حلم النهضة التركمانية يلوح في الأفق.
اليوم وفي الذكرى التاسعة والعشرين لهذه المأساة، يستذكر التركمان، وفي مقدمتهم قيادتهم السياسة المتمثلة بالجبهة التركمانية العراقية، تلك الأحداث الأليمة. إنها ليست مجرد ذكرى عابرة، بل هي دعوة لتجديد العهد على المضي قدماً في تحقيق تطلعاتهم السياسية والعمل على حماية حقوقهم وضمان ألا تتكرر هذه النكبة مرة أخرى.
إن ذكرى فاجعة أربيل هي تذكير دائم بأن طريق النضال محفوف بالمخاطر ولكنها أيضًا مصدر إلهام للصمود والإصرار على تحقيق الأهداف، مهما كانت الصعاب.