يُعَدُّ عصر الخليفة العباسي السابع ( المأمون ) [786م -833م] العصر الذهبي للترجمة عند العرب والمسلمين ، عبرَ تأسيسه لبيت (الحكمة ) الذي تولى مهمة نقل بعض التراث المعرفي العالمي الى اللغة العربية ، أذ تمَّ تجنيد العديد من المترجمين والعلماء والمتخصصين بشؤون المعرفة المختلفة للقيام بهذة المهمة .
ومنذ ذلك الوقت والى عصرنا الراهن ، كانت الترجمة وسيلة من وسائل التلاقح المعرفي والحضاري بين مختلف أُمم الأرض ، وتطورتْ وسائلها وأدواتها بتطور نظريتها ومهاراتها وقواعدها وأصولها .
ثمةَ صعوبات ، كانت ولا تزال ، تواجه عملية الترجمة ، يمكن ان نصفها بصعوبات ( أسلوبية ولغوية وثقافية ) و (شعريّة ) بشكل خاص : حيث نجد ، غالباً ، (( تضاد بين الكلمة المُتَرجمة وقوة الكلمة الأصلية ، بطء بين تركيب الجملة المُتَرجَمَة وسرعة التركيب اللغوي الأصلي ، تنافر في الأصوات المُتَرجَمَة وموسيقية الأصل )) وغيرها [ المسائل النظرية في الترجمة / جورج مونان / ترجمة لطيف زيتونة ص 247.
ان العقدة الأساسية في عملية الترجمة هي قدرة المترجم على كشف ” المضمون الدلالي ” للنص المُتَرجَم ونقله كاملاً الى اللغة الأخرى، بطريقة مقنعة للقارئ بعيدة عن الاعتباطية او (الوصفية) الزائدة، أو استخدام نظام دلالات غريب عن ذلك المضمون.
أن (معنى) الكلمة مرتبط بشكل عضوي بـ (وحدات الدلالة) في الجملة ، مهما كانت صغيرة او في مراتب دنيا ، لذا فأن الهدف النهائي للمترجم هو الوصول الى (المعنى) والتعبير عنه بطريقة سلسة عبر ضبط حدود التعبير.
أن بنية المعجم لها تأثير واضح في عملية الترجمة، بوصفها إبداع، وبنفس الوقت على المترجم نفسه، باعتباره مدونا وناقلاً للمعنى، عبر رؤية ونظام دلالي يستمده من النص والمعجم، لذا نلمس، (وجود علاقة تواطئ متبادل بين الشيء واللفظ، بين المدلول المنعزل والدال المنعزل، بين المعنى اللغوي والشكل اللغوي) [نفس المصدر/ص 137].
في كتابه المهم (فن الترجمة في ضوء الدراسات المقارنة) حدد المرحوم الدكتور صفاء خلوصي انواعاً من الترجمة قد تسيء الى النص الاصلي سواءا كان نثراً او شعرا ومنها ، : الترجمة التفسيرية Paraphrase Translation وهي ترجمة النص الاصلي بشيء من التوسع لايضاح غوامضه . والترجمة التلخيصية Translation Precis ، اذ يتم اعتماد التلخيص باعطاء زبدة الموضوع وحذف التفاصيل . بينما هناك نوع من الترجمة المختصة بترجمة الشعر (الموزون) تسمى الترجمة الوزنيّة Metrical Translation والتي تعتمد دراسة مقارنة بين العروض العربي والعروض الانكليزي. يبلغ عدد البحور العربية (16 بحرا) تعتمد على (الكم)، بينما البحور الانكليزية الاساسية هي (6 بحور) تعتمد على (الكيف) مع تفريق بين الايقاع Rhythm والوزن Metre ، وهناك دراسات متخصصة صنفت البحور العربية الى مجموعات تتلائم مع مجموعات البحور الانكليزية وعددها خمس مجموعات وهي :
1- المجموعة اللايمبية Lambi وتشمل الرجز ، السريع، الكامل، الوافر.
2- المجموعة الانتيسباتية Antispastic وتشمل بحرا واحدا فقط هو الهزج.
3- المجموعة الامفيبراكية Amphibrachic وهي المتقارب ، الطويل، المضارع.
4- المجموعة الانا بيستية Anapaestic وهي المتدارك، البسيط، المنسرح، المقتضب.
5- المجموعة الآيونية Ionic وتشمل الرمل، المديد، الخفيف، المجتث.
وقد اورد الدكتور خلوصي نماذج متعددة لترجمات موزونة باللغتين العربية والانكليزية يمكن للمتابع ان يرجع اليها في متابعة هذا الموضوع.
من جهة اخرى يؤكد الدكتور محمد عصفور في كتابه (دراسات في الترجمة ونقدها) الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت بأن اللغات لا تختلف في نظمها العروضية فقط ،بل تختلف في نظمها الصوتية ايضا . وان الادب عامة والشعر خاصة وثيق الصلة في الثقافة التي تنتجه وهذا ما يجعل نقله الى ثقافة أخرى دون خسارة عناصر معينة فيه، امراً بالغ الصعوبة ، وان كل ترجمة هي صياغة تقريبية للنص الاصلي وبعض هذه الصياغات فيها من الامانة للنص أكثر مما فيها من الجمال، وبعضها فيها من الجمال أكثر مما فيها من الامانة . ويخلص الى القول ان معظم القصائد المترجمة الى اللغة العربية هي ترجمات نثرية ويورد في هذا الصدد ترجمة الشاعرة نازك الملائكة قصيدة من قصائد توماس كاري . لذا فأن مسالة –المعنى الحقيقي للقصيدة- هي دائما مسالة من مسائل التأويل ، لا بل احد الباحثين يذهب ابعد من ذلك ، فيقول: أن الترجمة هي دائما مسألة تأويل مهما كان جنس الكتابة . ويضيف ، ان عملية التأويل هذه تتطلب تحليلا منظما للنص وفهما منظما له . وفي مسالة الحرية في الترجمة ، يرى الدكتور محمد عصفور ان قدراً من التحرر في الترجمة لا مفر منه حتى عندما يحاول المترجم عامداً أن يلتزم الحرفية بالنص الاصلي ، وهذا الامر لابد وان يصدق بدرجة أكبر على الترجمة الشعرية ، لا سيما اذا اختار المترجم الشاعر نمطاً تقليدياً من الشعر يتطلب بحراً معينا من البحور الشعرية وعدداً محدداً من الوحدات الوزنية وقافية موحدة ومنتظمة.
من جانب اخر أوجد الدكتور عبد الحفيظ محمد حسن في كتابه (قضية ترجمة الشعر) الصادر عن دار الثقافة العربية في القاهرة 1995 مصطلحا في الترجمة سماه (الترجمة الديناميكية) Dynamic Translation ومن شروطها كما يراها المؤلف : ( على المترجم اعادة انتاج النص بحيث تكون للترجمة تأثير على قارئها مشابه للتأثير الذي خلفه النص الاصلي في القارئ باللغة الاصلية). أتفق بالاطار العام مع هذا المصطلح الجديد لكن هناك ملاحظة ينبغي ان تؤخذ بنظر الاعتبار الا وهي اختلاف البيئات الثقافية لكلا القارئين للنص الاصلي والمترجم ، اذ لا يمكن للقارئ الاصلي باللغة الاصلية أن يتطابق في بيئته الثقافية ودلالاتها مع البيئة الثقافية لقارئ النص المترجم ودلالاتها.
نخلص الى القول ان لفن الترجمة أصول نظرية وقواعد عملية حددها علماؤه ومحترفوه ، ليس من السهولة تجاوزها تحت رغبة ومزاج ما ، كي تصبح لعباً بالكلمات وتلويناً لها . اتفق مع قول البعض : لا يترجم الشعر الا شاعر، ولكن ماهي ادواته وخبراته ومهاراته في الترجمة ؟ هذا هو السؤال الاساس.
أن ترجمة الشعر من اصعب انواع الترجمة، ولقد تصدى شعراء عرب وعراقيون الى ترجمة اعمال شعرية مهمة مثل ترجمة (اودونيس) لبعض اعمال الشاعر (سان جون بيرس)، و(سعدي يوسف) لديوان اوراق العشب لـ (وتمان) ، وتوفيق صايغ لرباعيات (اليوت)، وخليل خوري لـ (رامبو)، وسامي مهدي في ترجماته المتعددة ، وغيرهم كثير.
ان التزام المترجم باصول وقواعد الترجمة مع وعي مسؤول لحرية التصرف فيها، يقوده الى قطف (لهيب ) العبارة وترك (رمادها) . اما عكس ذلك ، فسيقوده الى (احتفاظه بالرماد ويفوته اللهب) كما قال احد كبار المترجمين الانكليز في القرن السابع عشر الميلادي.
مخطئ من يظن ان لا (الهام) في الترجمة فالفرق بين ( الترجمة الملهمة والاعتيادية كالفرق بين الشعر والنظم)، كما يؤكد المرحوم الدكتور صفاء خلوصي في كتابه المشار اليه آنفا.
هناك من يترجم الشعر بشكل مباشر من لغته الام (الاصلية) بينما يلجأ البعض الى الاستعانة بلغة ثانية يترجم عنها الشعر الى لغة ثالثة. وهنا المسالة نسبية ، ومن الصعب اعطاء او تحديد مقاسات لنجاح الترجمة، بل الامر يعتمد على مهارة المترجم وتمكنه من ادواته المعرفية واللغوية ، وطريقة فهمه للمادة الشعرية التي تصدى لترجمتها . كل هذه العوامل تعدُّ عناصر اساسية في نجاح الترجمة أو فشلها.
أختمُ بقول للشاعر ادونيس :(ليس كل كلام موزون شعراً بالضرورة، وليس كل نثر خالياً بالضرورة من الشعر )، وهذا الامر ينطبق على ترجمة الشعر وزنا او نثرا.