* مدخل
تظل اشكالية الترجمة في عالمنا الثقافي العربي مطروحة على الدوام وتفرض نفسها بشكل اكثر الحاحاً كلما كثر الحديث عن القومية الثقافية والصراع الحضاري والحوار مع الآخر وتآكل الثقافات.
الترجمة، ليست مجرد نقل نص من لغته الاجنبية الى العربية او العكس بل هي حركة ثقافية وسياسية احيانا لها اهداف ودلالات محددة وتأثيرات واعية في اي محيط ثقافي او اجتماعي تقع فيه او تنتقل اليه. فلا احد ينكر ما للترجمة من دور بوصفها ضرورة معرفية على جميع اللغات منذ تاريخ البشرية، ذلك ان اهمية الترجمة في الحضارات الانسانية لها تاريخ تليد ومجد اصيل. وقد كان لهذه الاهمية في الثقافة العربية الاسلامية دور حضاري منذ اول مترجم في بداية مهد الاسلام.
ويولي كثير من الباحثين المحدثين العناية القصوى بأهمية دور الترجمة في الادبيات المتداولة في ساحتنا المعرفية، كما ركزوا في جهودهم على نظرية الترجمة التي جعلوا منها عنصرا فاعلا في تلقي المعرفة وفي تطور مناهج البحث العلمي، وان اي تطور لا يمكن ان يحصل في مجال البحث العلمي أياً كان منشؤه دون اعادة النظر في كيفية التعامل مع هذه المعرفة والاهتمام بها، يعني العناية بوظيفة نقل وترجمة المستجدات وربط صلة المناهج المعرفية الحديثة باللغة المحلية، من شأنه ان يبعد الافكار المجردة، ويقترب من استيعاب واستثمار ما توصل اليه العقل البشري في معارفه المتباينة، وتمكين عملية التواصل والتلاقي مع هذا العقل عن طريق وساطة الترجمة الوظيفية في اجراءاتها العملية المنتجة، وهذا ما ينعش الاهمية البالغة لمسألة التوسع المعرفي وما يترتب عليه من نتاج فكري وتشجيع الطاقات الفاعلة في جميع المجالات الابداعية.
ان بعض المترجمين كثيرا ما يخطئ في حق الترجمة بوصفها اداة لنقل المعاني في النصين المختلفين او من اللغة الاولى الى اللغة الثانية المترجم اليها، مع مراعاة الاحتفاظ بالمعنى الاصلي في النص المصدر. غير ان الحقيقة المعرفية تقتضي التعامل مع الترجمة اثناء نقل المعرفة بما تمليه ضرورة الاهتمام بالوظيفة التواصلية في النص المصدر في سياقه الحضاري. فالترجمة ليست مجرد نقل نص من لغة اولى الى لغة ثانية بل هي نقل حضاري للنص الاول من حضارة الى حضارة اخرى او من نسق ثقافي الى نسق ثقافي اخر. وفي هذه الحال يفترض الا يكون النص المصدر منعزلا عن سياقه الحضاري الاول الذي خرج منه ولا عن سياقه الحضاري الثاني الذي دخل فيه على ان تكون عملية النقل هذه محملة بسياقات حضارية متعددة تجعل الترجمة نقلا حضاريا وليس مجرد استبدال لفظ بلفظ او عبارة بعبارة من اللغة المصدر الى اللغة الهدف، الامر الذي قد يبعدنا عن معرفة حقائق المعارف بين الحضارات المختلفة والامم المتباينة واللغات المتعددة بغرض الافادة والتعايش مع تفاعل الحضارات بمختلف اطوارها وازمنتها وامكنتها.
ان حقيقة الترجمة في منظور تبادل اللغات، تعني اهمية التواصل الحضاري بين الشعوب عبر الازمنة المختلفة، بما قد يعكس صورا مفيدة على وجه الاجمال، يكون لها شأنها في خدمة جوانب معرفية وحضارية، على نحو ما وقع لاسباب النهضة في اوربا الغربية، بفضل عوامل كثيرة، من ضمنها اهمية الترجمة من العربية الى اللاتينية اعتبارا من عام 1453م، وهي الحقيقة الزمنية الفاصلة بين عصر النهضة في اوربا والعصر الذي يطلق عليه الاوربيون اسم العصر الوسيط.
ومن الطبيعي في مثل هذه الحال، ان يكون لدور الترجمة وتعريب المعارف بين بعضها البعض، الدافع الاساس لتحريك العقول وتفعيل العلوم والتطلع الى الافاق لبناء مجتمع مزدهر ثقافياً، حيث ان الوحدة العملية في الترجمة ليست هي الكلمة ولا النص وانما الثقافة، لان العلاقة مع الآخر ثقافياً لا يمكن ان تتم الا عبر جسر الترجمة بوصفها نوعا مضافا الى اكتساب تجربة معرفية جديدة لها رصيدها وواقعها المتميز، ولعل في مثل هذه التجربة ما ينمي من قدرات التحليل والاستبصار لمعطيات تقود الى احداث تغير في البنية الفكرية التي من شأنها ان تغير من نمط تكوين البنية الحضارية تباعاً. لذا اعتبرت الترجمة اداة للتعامل مع جديد العلوم الانسانية والفنون… حيث باتت ضرورة قياساً الى التقدم العلمي المذهل الذي تنعم به البشرية خاصة مع وجود وسائل اتصال قوية وفورية سهلت تقارب الشعوب وتواصلها. وهي بهذا تمثل الرابط بين الثقافات المحلية بتيارات الثقافة العالمية. فلقد لعبت الترجمات دورا مهما في نهوض المجتمعات على مر الحقب التاريخية المختلفة. فالترجمة حركة اخذ وعطاء وحركة تبادل في جميع المجالات تتيح اللقاء بين الثقافات والتفاعل بينها، وينتج عنها ان يشارك بعضها البعض في الاكتشافات العلمية والتكنولوجية والتراث االثقافي الانساني. اي ان الترجمة كنشاط اجتماعي غدت اداة المجتمع للتعامل مع الجديد في العلوم والفنون والانسانيات. وتمثل عاملا اساسيا للتقدم الحضاري. فهي اداة المجتمع على صعيد المنافسة الحضارية لتكون سابقة في العصر وايضا مرجعا للثقافة العالمية منها الامم الآخرى.
ولقد اخذت الترجمة تلعب دورا مهما وحيويا في رسم العلاقة مع الآخر والوعي به. لقد اصبحنا نعيش عصرا بات فيه تمثل الآخر او الاعتراف به يشكل جانبا مهما في ظل الحضور الكثيف والفاعل للرأي والرأي الآخر، وفي لحظة زمنية واحدة على مسرح الحياة اليومية في عالم باتت تحكمه نظرية العولمة. فلم يعد تمثل الآخراو الاعتراف به ترفا فكريا، بل اصبح لازمة من لوازم الفكر الانساني. فنجاح اي حوار اختياري او اجباري لا يمكن ان يتم من دون احترام الآخر والاقرار له بحق الدفاع عن رأيه وفكرة الاتيان بالحجج والبراهين والادلة بكل حرية. كما ان نظرية قبول الآخر كانت وما زالت جزءاً من ثقافتنا وحضارتنا. كما بات ضروريا تعميم ثقافة الآخر والتعايش معه والدفاع عن حقه في التعبير عن نفسه ما دام هذا الآخر يلتزم بقانون التعايش والحوار على اسس دينية وانسانية واجتماعية.
من هذا المنظور، تمثل الترجمة اداة للانسان وسبيله للتواصل مع الآخر للخروج من قوقعته ومحليته وذاته نحو الآخر المقيم هو ايضا في قوقعته ومحليته وذاته.
هكذا، تمثل الترجمة بشكل عام قناة مهمة من قنوات الاتصال مع الآخر وفعلا ثقافيا متقدما يستهدف محاورته وتنمية الوعي به. اي انها تمثل تواصلا معه ومجالا يمارس تأثيره فيه ووسيلة نستدل بها على توجيهاته.
والترجمة على هذا النحو ليست مجرد نقل من لغة الى لغة اخرى، بل حوار يقوم على وجود اعتراف متبادل بين قطبي الحوار. وعلى هذا النحو فهي تشكل اداة معرفية مهمة للوعي بالآخر والتعرف على فكره وثقافته وامكاناته… اضف الى ذلك، ان الترجمة فعل ثقافي لا يظهر الا في اللحظة التي تدرك فيها الجماعة لدى احتياجها لثقافة الآخر.
وهنا يأتي دور المترجم الذي يجب ان يكون حساسا لما يقوم بترجمته من لغة الى اخرى، فهو يختار من اللغة الآخرى ما يساهم في تطوير رؤية الآخر والتحاور معه.
* خطاب التواصل والتثاقف
ان خطاب الترجمة يجد مبرراته وشرعيته في الوقت نفسه في نسق من العوامل هي جملة اسباب ودوافع موضوعية وذاتية وغايات واهداف، وبين هذه وتلك خيارات وضغوطات تتموقع في الزمان وفي المكان حسب سياقات اجتماعية ثقافية خاصة.
وتتمظهر خصوصية هذه السياقات لدى كل امة او في كل ثقافة في المستويين الخاص والعام عند الحاجة الى معرفة جانب من جوانب (آخر) تعلقت مصلحة تلك الامة ماديا او علميا به وتقاطعت مصالحه في فترة ما، الامر الذي يجعل استكشاف ذلك الجانب من الآخر في تلك الفترة بالذات ضرورة تتوقف عليها في اغلب الاحيان امور كثيرة في الصعيدين العام والخاص.
خطاب الترجمة اذن- باعتباره نقلا لمعنى من لغة الى اخرى- اعادة انتاج لخطاب اخر خارج الحدود الثقافية او الحضارية للمصدر. لكن اعادة الانتاج هذه لا تمس الجوهر او المضمون بل تمس الشكل فقط. اي انها تعيد انتاج الخطاب نفسه لكن بآليات خطابية اخرى تنتمي الى نظام لغوي مختلف فتكسبه ثوبا جديدا مختلفا عن ثوبه الاول كي يتناسب مع امكانات اللغة المستقبلة. اي مع امكانات التلقي عند الملتقي المفارق للغة او الثقافة او الحضارة الاصل.
لذا يهتم العالم المتطور بالترجمة اهتماما كبيرا فينشئ لها المراكز ويرصد لها الميزانيات ويضع الخطط، لان النتيجة ستكون في كل الحالات تراكمات هائلة من المعلومات والمعارف المستقاة من الآخر وعنه في كل المجالات.
تنتظم دوافع الترجمة واهدافها في تراتبية تحكمها اهمية ما يراد ترجمته ومدى الحاجة اليه وتعدد اصناف هذا الـ(آخر) الذي تختلف درجاته باختلاف الحضارات وباختلاف اللغات والثقافات داخل الحضارة الواحدة. وقد يحدث ان تختلف لغة التعبير لدى البعض داخل الدائرة الثقافية الضيقة الواحدة عن اللغة السائدة لظروف استثنائية ما يستدعي ترجمة هذا الاستثناء.
وعليه ، فالترجمة تخضع دائماً لمجموعة من الاجراءات ذات المضمون الايديولوجي. هناك سياسات كثيرة يضعها الغربيون… مثلاً ماذاً نستفيد من ترجمة هذا النص؟ هل سيقبل القارئ عليه، وما التصورات المضمرة في النص؟ كيف ستتصادم مع تصورات اساسية في هذه الثقافة او تتواءم معها او تثبتها؟. فاذاً كان مطلوبا التكريس في ذهن القارئ الغربي، ان الشرق متخلف فلا بد من ترجمة النصوص التي تؤكد هذا. مثل المعاملة السيئة للمرأة، او وصف المجتمع بالاستبداد وما الى ذلك من سلبيات.
القارئ الغربي يريد ان يقرأ نصوصاً تؤكد عادة تصوراته المسبقة او تضيف اليها او تحورها تحويرات بسيطة. فاختيارات النصوص تخضع دائما لمجموعة من المعايير ولا تنتهي المسألة عند الترجمة بل تتعلق ايضا بأسئلة اخرى.. مثل: هل سينشر النص في دار هامشية ام سيطرح على نطاق واسع؟ وهل ستدار حوله الحوارات ام سيتم تجاهله، وهذه اسئلة مهمة لا بد من الاجابة عنها لانها تكمل المفهوم والهدف من الترجمة.
* الترجمة والهوية الثقافية
الترجمة، في معناها البسيط نقل من ثقافة الى ثقافة اخرى، من هوية ثقافية بعينها الى هوية ثقافية مختلفة. ومن ناحية اخرى، فان الهوية الثقافية في معناها البسيط عبارة عن كيان معنوي متجانس ومترابط في بنائه الداخلي وتجلياته الخارجية.
يبد ان النظرة المتأتية تكشف عن اتساق جوهري في هذه العبارة، لان الترجمة قد تكون في بعض الاحيان من مكونات الهوية الثقافية لدى بعض الامم او الجماعات البشرية. وقد تتراوح اهمية الترجمة هنا بين ثقافة واخرى بحسب درجة انفتاحها على العالم.
من المهم هنا، ان نضع في اعتبارنا ان الهوية الثقافية لجماعة ما او امة ما، تصنعها عوامل ومكونات عديدة بعضها موروث عن الماضي والبعض الآخر من نتاج الحاضر وبعضها ناتج عن الاحتكاك بالامم والجماعات البشرية الآخرى.
ويمكن ان نضع تقسيما اخر لمكونات الهوية الثقافية، فهناك المكونات المادية للهوية الثقافية، وهناك المكونات اللامادية للهوية الثقافية تتمثل فيما اصطلح المتخصصون على تسميته الثقافة المادية التي تشمل جميع انماط النتاج المادي الذي يعبر عن الهوية الثقافية في جوانبها المادية المتمثلة في الفنون التشكيلية والحرف والصناعات اليدوية والملابس وادوات الزينة وسائر ما يستخدمه الناس في حياتهم اليومية وما الى ذلك… والجوانب اللامادية في تكوين الهوية الثقافية، وهي تتضمن كل ما هو غير مادي من صنوف الابداع الادبي والفكري والفلسفة التي تقوم عليها حياة الجماعة ورؤية الجماعة لذاتها وللآخر، والعادات والتقاليد وحكمة الماضي الموروثة، فضلا عن النظام القيمي والاخلاقي… وما الى ذلك.
وعلى الرغم من ان الهوية الثقافية تتألف من مجموع المورثات الثقافية والفكرية والعادات والتقاليد والنظام القيمي والاخلاقي ونتاج الحاضر العلمي والفكري والفني… فضلا عن الروافد والمؤثرات الناجمة عن التفاعل المتبادل مع الامم والجماعات الآخرى، فان الهوية الثقافية لكل امة من الامم او جماعة من البشر تتخذ سمات عامة وملامح كلية مختلفة عن السمات والملامح التي تتسم بها الهويات الثقافية الآخرى، وهو ما يجعلنا نفرق بسهولة بين الهوية الثقافية للامة والهويات الثقافية للامم الآخرى. ومن ناحية اخرى فانه على الرغم من الوحدة الظاهرية للهوية الثقافية لامة من الامم، فان هذه الهوية الثقافية التي تبدو واحدة تنطوي على عدد من الهويات الثقافية الفرعية التي تصب في المجرى العام للهوية الثقافية الكلية وتتوازى هذه الثقافة، الثقافات الفرعية مع الخصائص السكانية والاجتماعية لكل بلد من البلاد، فضلا عن الروافد والمؤثرات الناتجة عن التقاعل المتبادل مع الجماعات والامم الآخرى.
كما ان هناك نمطا اخر من الروافد والمؤثرات الخارجية التي تسهم في بناء الهوية الثقافية يتمثل في التفاعل العلمي والادبي والفكري مع الآخر من خلال عملية نقل بعض النتاج العلمي والادبي والفكري… من لغة ما الى لغة اخرى عن طريق الترجمة لمصلحة جماعة ثقافية اخرى.
من هنا يمكن القول، ان الترجمة عن اللغات الآخرى تثري الهوية الثقافية وتقويها ولا تضعفها او تشوش خصائصها ولا تشدها الى اغلال التبعية الثقافية، كما قد يتوهم البعض. كما انها لا تدخل ابدا تحت مصطلح الغزو الثقافي بكل ما يحمله هذا المصطلح السخيف من سذاجة وسطحية وما يكشف عنه من التربص والشك غير المنطقي. اذ ان الترجمة عامل فاعل بناء، في اثراء الهوية الثقافية حقاًً، ولكن نتائج عملية الترجمة تمر بعمليات تنقية وتصفية متعددة بدءاً من مرحلة فعل الترجمة الفردي ووصولا الى وصول نتائجها غير المباشرة لتصب في المجرى الثقافي العام الذي يشكل الهوية الثقافية.
وبقدر ما تكون درجة انفتاح الامة او الجماعة البشرية على الثقافات الآخرى على اساس من الاعتماد المتبادل والمصالح المشتركة بقدر ما تتحدد وتيرة حركة الترجمة من اللغات الآخرى وسرعة ايقاعها، وهو ما يحدد بدوره درجة الاندماج مع العالم والتواصل مع الامم والشعوب الآخرى والاسهام في صنع هذا العالم. وعلى العكس من ذلك كلما لجأ الى قوقعة الذات وانكفأ في داخله، خرج من العالم الذي يحيط به، فتضعف هويته الثقافية نتيجة الانغلاق والانسحاب.
اننا نرى ان الترجمة عامل ايجابي من عوامل بناء الهوية الثقافية في كل الاحوال، واذاً كان هناك قدر من الشك لدى البعض في ان الترجمة يمكن ان تكون عوامل التأثير السلبي على الهوية الثقافية، فان التجارب التاريخية المعروفة عن تاريخ الترجمة وتأثيراتها في التراث الانساني بشكل عام تؤكد ان الهوية الثقافية للحضارات التي مرت بتجارب واسعة النطاق في مجال الترجمة تبلورت بشكل اقوى واكثر وضوحاً عن ذي قبل.
* الترجمة والوعي بذات الآخر المختلف
ان كل ترجمة تتجاهل خصوصية الآخر بكل مقوماتها المعرفية والثقافية لن تجدي نفعاً، واهمال هذا البعد هو اهمال للحقيقة المطلقة لبناء الذات على اعتبار ان مقومات الذات مرهونة بمعرفة الآخر، ومهما زعم المرء لنفسه انه متكامل معرفيا وحضاريا فانه لا بد ان يجد نفسه مظطراً الى الآخر في مكوناته الحضارية بوصفها حلقة اتصال وتبادل وتفاعل في الثقافات ولن يكون ذلك كذلك الا بواقع الاحتكاك بالآخر عبر آلية الترجمة، لان الانسان بالضرورة موجود متفاعل. ومعنى ذلك، ان وجود المرء هو ذلك الوعي الذي يدعمه ونُطَعمَهُ بوعي آخر، من خلال مكوناته اللغوية والثقافية ولن يأتي ذلك الا في ظل امكانية تحقيق غاية الترجمة. لذلك حالما تقوم الحاجة الى الترجمة، نجد ان اللغات تسعى الى الاستمداد من اسرتها وممن يتنسب اليها عرقياً. وليس مستغرباً ان يجمع منظروا الترجمة على ان اللغات كلما اقتربت من بعضها نسبيا في ابنيتها وتراكيبها، كانت الترجمة اكثر يسرا وكمالا. وليس في وسع اي لغة ان تؤكد وجودها الا اذاً عرضت على تفاعلها مع لغة اخرى، الامر الذي يؤدي ضمنيا الى تعزيز هويتنا الثقافية بالافادة من ايجابيات ثقافة الآخر، ومعنى ذلك، اننا كثيراً ما نجد لدى الآخر مؤثرات تدفع بنا الى التطور.
صحيح، ان كل امة مقوماتها الثقافية وان تطورها مرهون بمفاهيمها الخاصة، لكن الاصح من ذلك هو ان هناك عوامل مشتركة بين الامم والحضارات يحاول العلماء والمفكرون اقامتها على اعتبار ان وجه الحاجة الى تعاضد العلاقة بين هذه الحضارات هو الوعي بما في اللغة بمكوناتها الثقافية، لان العالم لا ينكشف الا عن طريق اللغة بوصفها عملية تبادلية تتحقق عبر التواصل المستمر بين الذات والآخر…
ولعل هذا هو السبب في تطور الامم في ثقافاتها ومعارفها من خلال توسيع نشاطات العلوم والمعارف، لانه مهما اخذنا على عاتقنا استخدام مكوناتها من اجل العمل على تحقيق ذواتنا وتطوير ثقافتنا، الا ان ذلك لا يخلو من بعض القصور الناتج من العزلة التامة، في حين ان عمليتي التأثر/ التأثير والاحتكاك المستمر هما حليف الوعي والابتكار، لان مبادئ الانسان قائمة على التجديد، وهذا ما نعتقده جازمين من ان عوامل ازدهار اية حضارة لا تتم بالصورة المرجوة الا بمدى احتكاكها بالعالم الآخر والافادة من الحضارات الآخرى عبر الية الترجمة التي من شأنها ان تفعّل بين الشعوب والامم، لانه ما من شك في ان الانغلاق على الذات لا يسهم في تقارب الحضارات. ولهذا السبب اصبحت الحاجة ماسة الى ما توصلت اليه معارف هذه الشعوب او تلك ومقارنتها بمدى ما توصلت اليه المعارف الآخرى من الضفة الآخرى في كثير من مجالات المعرفة.
وليس الارتباط بالآخر سوى الفرصة المناسبة التي تستثمرها الذات لتجاوز القديم والمألوف من منظور ان الحياة البشرية قائمة على العمل المشترك، اذ لا ترقى الامم الا بفضل التبادل والتآزر والتعدد، ومن ثم فان تحقيق الذات مرتبطة بالآخر في سبيل تحقيق النشاط الانتاجي الذي يراد من ورائه تجديد الخبرة الانسانية سواء فيما يتعلق بخبرات الذات العقلية او الوجدانية او الاجتماعية او الثقافية بوجه عام. ومعنى هذا ان التطور المعرفي هو محصلة قدرة الانسان على استعمال كل ما يملك من قوى بما فيها القوى الخارجية في اتجاهها الايجابي او السلبي، وحين يدرك الانسان حقيقة ذلك، فانه بالضرورة يتخطى كل الصعاب التي من شأنها ان تعرقل مسيرته الحضارية، وهنا يأتي دور الاهتمام الاعظم بتطور الامم والمجتمعات.
والواقع ان تعريب المعارف من لغات مختلفة لعب دورا فعالا عبر الرسالة التاريخية التي قدمها تداخل هذه المعارف وتقارب اللغات وهو ما سهل مهمة القضاء على العزلة المعرفية بآلياتها المادية وادابها الذهنية. ولعل المحصلة من وراء هذا هو ان تكوين الذات ناتج من التفاعل مع الآخر، اي ان كلا من الذات والآخر ليسا مستقلين عن بعضهما وانما هما متآزران ومتعاضدان، وان هذا التكاتف من منظور الاخذ والعطاء هو المعيار الحاسم في الامور المتعلقة بتبادل ادوار العقل وتنوع المعرفة، لذا كانت ظاهرة عمليتي التأثر والتأثير تنبثق من رغبة الانسان في التجديد من خلال مد الجسور مع الآخر عبر وظيفة الترجمة بوصفها تجسيدا لمعارف كل من الذات والآخر، وان معرفة اي منهما في نهاية الامر لا تعدو وان تكون مجموعة من الافكار والمعارف المفترض تبادلها.
ربما كان ارتباط المعارف بعضها ببعض في الحالات المتعلقة بعملية التأثر والتأثير هو تطوير ماكان خفيا وكامنا عند كل من الذات والآخر، فاذاً امكن ذلك اعتبرت الرسالة الانسانية متفاعلة في اتجاهها الصحيح من منظور ان للانسان اياً كان كل الحق في ان ينتظر من تعدد المعارف في لغاتها المختلفة ان تؤثر في مواقفه ازاء موضوعات المعارف المتنوعة.
ويمثل هذا التفاعل بالتحديد المحور الاساس لابراز التقارب والتكامل بين اللغات بما تحتويه من معارف.. ولعل في توطيد صلة هذا التقارب ما يبرز انسجام الشعوب والامم في بناء مكوناتها الحضارية، وان السعي الى تحقيق ذلك هو امر ضروري وصحيح، ليس فقط لانقاذ الفكر البشري من براثن التخصص الشديد والتفرع المستمر والتشرذم بل وايضا وبصورة خاصة لانه يترافق مع نشوء ومسار مشكلات العصر الكبرى ويساعد على تسهيل حلها لكأن ظهور وتأزم مشكلات مركبة يترافق وينسجم مع ظهور وتطور علوم مركبة ومتكاملة، وهذا يعني ان دفع عملية التكامل العلمي الى الامم هو في حقيقته وسيلة لاستيعاب هذه المشكلات بصورة سليمة ايضا.
ولعل في هذا الطرح ما يفيد ضرورة اهمية تكامل المعارف. والحاصل انه حينما تحاول مفاهيم الترجمة في اثناء تناولها معالم الآخر، فانها تجعل فهم التلاقح امرا مستساغا بحيث يكون الاتصال بالعالم الآخر اتصالا حضاريا، وبهذا المعنى ايضا تستطيع الترجمة ان تؤدي دورا فعالا لابراز المشكلات البشرية التي تزداد تأزما وسائر مشكلات العصر، والنظرة الشمولية ضرورية لاستيعاب هذه المشكلات باعتبارها منظومة واحدة متكاملة ومتفاعلة وذات بنية ديناميكية متغيرة مما يساعد على الخروج عن اطار التطورات الكمية الضيقة عنها باتجاه منطلقات وتصورات نوعية متطورة.
ان قراءة فكر الآخر من شأنه ان يخلق مشروعا تنويريا لما يحمله من تصور مغاير للفكر المحلي الذي غالبا ما كان يتعامل مع الذات في رصيدها المعرفي بنوع من القداسة الى ان بدا يتحرر نسبيا بالاحتكاك مع الآخر على نحو ما ظهر في نشر الفكر التنويري الذي تعود مؤشرات بدايته الى منتصف القرن التاسع عشر من خلال ما دعا اليه العديد من المترجمين بالاستفادة من ثقافة الغرب. واستمرت الدعوات في هذا المجال، وعلى الرغم من بعض الهنات مثل عدم تجردها من الميول والاهواء، عدم دقتها كذلك الا انها اسهمت في تفتت الذهن وتفتحه على الكون من خلال الاحتكاك بالمغرب… وما وصلت اليه مسألة التنوير في معرفتنا بالدعوة الى التغريب محاكاة افكار الغرب جملة وتفصيلا… هذه المحاكاة والدعوات… حاولت ان ترسخ فكرة توطين الفكر الغربي في المعرفة العربية.
* الترجمة والتواصل/ الحوار الحضاري
تعد الترجمة احد اهم اركان وسائط التواصل الحضاري، وعلى المتلقي اختيار ما يلائمه من معروض الفكر التواصلي من الحضارات والامم واللغات المختلفة على النحو الذي نهجه مفكرونا القدامى في تأسيس الحضارة الاسلامية التي خضعت لعامل الاختيار المدروس، فمنذ فجر الاسلام وضع المسلمون هذا المنهاج في التواصل الحضاري، حيث اخذوا من تجارب وقواعد وتراتب الحضارات الآخرى، المشترك الانساني العام، واضافوه الى الخصوصيات الاسلامية التي تميز بها منهاج الرسالة الاسلامية الخاتمة، فاختاروا التواصل الحضاري من موقع الراشد المستقل، رافضين التبعية والتشبه والتقليد، وكذلك العزلة والانغلاق. صنعوا ذلك عندما اخذوا عن اليونان تدوين الدواوين ولم يأخذوا القانون اليوناني استغناء بالشريعة الاسلامية المتميزة. وعندما اخذوا عن الهند الفلك والحساب لم يأخذوا فلسفة الهند استغناءً بـ التوحيد فلسفة الاسلام.
ان حسن الاختيار يكون بتنمية الفكر العام وانضاجه وتطوير الحس النقدي عند المتلقي، بعيداً عن اساليب الوصاية والقمع والاجبار. وعندئذ نستطيع حصر المشكلة التي يمكن ان نواجهها في عملية التواصل الحضاري في طريقة هذا التواصل وليست في مبدئه، وبالتالي فان الجهود الاساسية يجب ان تنصب على اختيار الاسلوب الانسب لتحقيق هذا التواصل دون ان نرفضه نهائياً، لان الترجمة وحدها هي التي تمدنا برابط التواصل الحضاري وتميز ثقافة هذه الامة عن تلك وتطور هذه المعرفة عن الآخرى بفضل شيوع الترجمة التواصلية.
لقد حظيت الترجمة في الالفية الثالثة بمكانة متميزة في حقل الدراسات المعرفية في بعدها التواصلي، نظرا الى الرغبة الملحة بين الامم في تقارب الثقافات، ولعل دعامة حوار الحضارات هي احدى الممارسات المهمة لتفعيل اشكال التواصل وليس من الصعب تحقيق ذلك ما دامت الترجمة تقسم في بناء الوعي المعرفي ودلالاته المتنوعة والتداعيات في نفوس المتلقين أيا كان نوعهم.
ان هذا الامر لم يعد فيه اختيار في ثقافة العصر بل من الضرورة المنهجية الداعية الى تناقض الافكار ما دامت هذه الافكار قد خلقت بدافع التواصل وكونها نظاما من العلامات التواصلية.
ولكن كيف يتحدد هذا التواصل بواسطة الترجمة؟ او بالآخرى كيف يمكن للترجمة ان تكون مفتاحا للتواصل؟ ثم كيف تكون بلاغة الالفاظ وسيلة للتواصل؟ وهل ترجمة نص من النصوص يمكنه ان يقوم بفعل التواصل مع الآخر؟ وأي نوع من التواصل تقوم به هذه اللغة او تلك؟ وما نتيجة الدور الذي تؤديه الترجمة رغبة منها في تحقيق التواصل؟… الى غير ذلك من الاسئلة الملحة على اهمية الترجمة في النسق المعرفي والثقافي على السواء.
لقد اخذت عملية الاتصال شكلا مميزا في الالفية الثالثة تقوم بالاساس على العلاقة البناءة والمتميزة في تلاقح الافكار والمعارف والثقافات فيما بين الامم، كل ذلك من اجل اكتساب المعرفة بوصفها معلما انسانيا شاملا ينبغي للبشرية كافة الاحاطة بها وادراك كنهها، انطلاقا من الفكرة الشائعة في الفلسفة من ان المعرفة هي عبارة عن العالم بحقائق الموجودات حسب الطاقة البشرية، ومن ثم فان طاقة اي انسان غير محدودة في تقبل المعرفة والوقوف على حدود وجودها اينما كانت وبأية لغة كانت، ما دامت وسائل الاتصال ميسرة وفي متناول ابسط انسان في هذا العصر، وتتنوع هذه الوسائل عنده بحسب ما اوتي من طاقة وامكانات.
ان من بين العوامل المشجعة على تحقيق هذا التواصل، هي الرغبة في الانتفاع من الاجناس المعرفية أنَّى كانت، ومحاولة تلمس حقيقتها بشتى اللغات، تبعا للاسس التي ترتكز على خاصية تعزيز اي حوار انساني قائم على الوعي الحضاري والمتسم بدعائم مد الجسور من خلال وسائل عديدة لعل من اهمها التواصل التجاري والسياسي والثقافي عبر القارات وما تؤديه من دور في تمكين الترجمة من ربط العلاقات بين الثقافات، لان الترجمة عبور بين الثقافات او تواصل ثقافي ذلك ان اللغة متضامنة مع سياق ثقافي يحتم اضافة الافق الخارج لساني الى نظرية الترجمة، والترجمة اذاً ليست للغة ولكن للكلام.
اننا حين ننظر الى الترجمة بوصفها جسرا مهما في ربط التواصل بين ثقافات الامم، فلأننا نعدها ايضا الوسيلة التي تسهم في تطور المعارف واعادة تأهيلها وتوجهها ضمن اطار تنامي التأثير والاعتراف بالآخر.
ويحاول المنظرون للممارسة الترجمية، الاهتمام بالاتصال الثقافي ضمن اطاره الوظيفي في الحياة المعرفية الناتجة من التجارب الانسانية واشكالها وتطوراتها، الامر الذي يجعل حركة تنامي التطور في الاتجاه السليم من خلال العلاقات المتبادلة بين الثقافات التي تدعم المفاهيم والافكار والتصورات المعرفية في سبيل تنامي الوعي المعرفي. واذاً كنا نعتبر الترجمة شرطا فاعلا في تطور التصور الذهني للبشرية ضمن الحركة الديناميكية المتبادلة بين الثقافات فلا ينبغي ان نقر بالارتباط المفرط بالآخر وانما صفة الليونة مع تطابق مقوماتنا بثقافة الآخر، تعد مرتكزا اساسيا يأخذ في الحسبان الحيطة من التأثير المطلق المتباين مع ثقافة الذات والافادة من الثقافة المنقولة الينا، بخاصة الثقافة ذات الحس السليم التي من شأنها ان تنقل المعرفة الوظيفية ب ( المواضعة )#، اي بالتقبل الوضعي لواقعنا الاجتماعي حتى تكون العلاقة قائمة على التبادل وليس على التبعية والارتباط المغلق.
هكذا تعد عملية التواصل/ التلقي جسرا من خلال التفاعل بين لغة النص المنقول منه الى لغة النص المنقول اليه، اي بين النص الاصلي وتعدد قراءاته في لغات مختلفة، لذلك كان التطور المعرفي رهين التواصل الثقافي، نظرا الى طبيعة الاستعمالات المختلفة للغات عبر مسار تطور الحضارات، ولن يكون ذلك كذلك الا بتفعيل الترجمة التي يتم من خلالها نقل تساؤلات النص المصدر في مراسيه واهدافه، الى الافادة من هذه التساؤلات في ثقافة ولغة ونص الهدف.
من هنا تكمن اهمية التفاعل بين اللغتين او الثقافتين…. لان الترجمة في حد ذاتها هي عملية تواصلية بين الذات والآخر، لتمكين مقاربة حوار الحضارات، وكذلك حتى يستفيد متلقي النص الهدف من تجارب روح نص المصدر، وكذا ما وصلت اليه ثقافة النص الاول ومن ثم تكون عملية التواصل هذه بين الثقافتين، هي عملية تفاعلية بين طرفين كل منهما يكمل الآخر.
ان فكرة التواصل هي بالدرجة الاولى وعي بالذات قبل ان تكون وعيا بالآخر، وعي بالاختلاف والمغايرة، وعي بآخريه يستعصي على الذات ان تبلغها دون وساطة، وهذا الوعي بالآخر بدوره الذي ينطوي على وعي مماثل بالذات، يقف عاجزاً عن التعرف على الآخر او التعرف على الذات في الآخر الا عبر تلك الوساطة بين هذين الوعين، وهي وساطة لاتوجد فيما بينهما بل تجعلهما قادرين على الدخول في تجربة مشتركة او الانخراط في ضرب من التفاعل الخلاق دون ان يفقد اي منهما هويته الذاتية.
والاتصال بالآخر، هو اتصال لتعزيز مكانة الذات عبر واسطة الترجمة التواصلية التي من شأنها ان تفطن الى معنى الاختلاف والمغايرة والدخول في تجربة احترام الرأي الآخر، ومنها يشكل التطور المعرفي من حيث ان الاستنتاج من التجربة يتوقف على مدى ارتباطك بالآخر، والى ما وقف عليه من اجراءات واحكام معرفية، وعندئذ تتأسس معالم اليقينات والثقة بالنفس في النص الهدف، وهذا شأن الترابط بين المعارف والتأثير فيما بينها لتحقيق هذا التواصل الذي لم يعد مقتصرا بين مُخاطب ومِخاطب، في حالة عادية بل انتقل الى تواصل بين الثقافات، اي بين منظومة من القيم والعلاقات السلوكية والمكانية والزمانية بمنظومة اخرى تخضع لظروف وملابسات ثقافية اخرى.
* اللغة كأداة للتواصل
ان مهمة النظرية التواصلية، تكمن في تعاملها مع اللغة بوصفها اداة للتوصيل والتبليغ، اي تواصل بين ثقافة مرجعية وثقافة متلقية للموضوع الذي تتمحور حوله الرسالة. والحديث عن ظاهرة التواصل يقودنا بالضرورة الى الحديث عن فعل الترجمة، وكلاهما يؤدي غرض التثاقف من خلال مد الجسور بين ثقافتين مختلفتين. ومن هنا تكمن اهمية المترجم المتشبع بثقافة اللغة المصدر والمراد نقلها والمتمكن من عقلية هذه اللغة، اضافة الى تعاطفه معها وفي هذا ما يعزز مكانة الارتباط الوثيق بين التواصل والتثاقف في فعل الترجمة. فلولا امكان التواصل بين المترجم والكائن لما امكن ان يكون تثاقف بين امتيهما. ولكن مسألة التواصل بطريق الترجمة مسألة معقدة، فهي تفترض دقة اختيار اللفظة من ناحية كما تفترض حسن صياغة الجملة والتوفيق في سلسلة الجمل وفقا للحالة التي عبر عنها الكاتب، وهذا يعني ان اللفظة لا تحدث وحدها تواصلا، وان الجملة تسهم اسهاما جزءيا في احداث التواصل، وان التواصل الحقيقي لا يكون الا بنص كامل. ولكي يحدث فهو يتطلب من المترجم الكثير من المرونة في استخدام لغته القومية ليشيع في ترجمته جواً شبيها بالجو الذي اشاعه الكاتب في النص الاصلي.
ولكن، هل المترجم قادر على توصيل جمالية النص الى متلقي النص الهدف؟ وبأية كيفية؟ وهل هو قادر على ذلك فقط من خلال اعادة تركيب البناء اللغوي للنص الاول من اجل تحقيق غايته؟
ان الاجابة عن مثل هذه الاسئلة يقتضي منا معرفة علاقة اللغة بالتواصل، هذه اللغة المبنية على اساس المواضعة والاتفاق في الانساق، اضف الى ذلك، ان العلاقة التي بينهما هي تعاضدية تضمينية ولا يمكن اعتبارها موضوعين منفصلين، الامر الذي يشكل وجودا علائقيا بين كافة الالفاظ ووسيلة تواصلها.
واذاً كان الامر كذلك، كانت عملية التواصل في النص المنقول متوازية مع لغة النص الهدف وغايته، مما يعزز الجانب الموضوعي للمترجم في نقل الفكرة بالصورة التي ادرك بها النص الاول بعبارات تجعل متلقي النص الهدف في حالة شبيهة بحالة متلقي النص المصدر، وهو ما يحقق غاية التواصل بين الثقافتين. ويقودنا هذا الطرح الى مسألة اصول اللغات ومدى تقارب بعضها ببعض من حيث ان اقتراب لغة من اخرى يؤدي بالضرورة الى تقارب نقل الافكار في الثقافات بين الشعوب، وان دقة النقل تختلف بحسب تقارب اللغة المنقول منها او تباعدهما. فقد تكون اللغتان من اصول لغوية واحدة، وقد تكونان من اصول متقاربة، وقد تكونان من اصول مختلفة كل الاختلاف.
ان تقارب اللغتين وتباعدهما يضعان المترجم امام اوضاع خاصة من السهولة والصعوبة. وهذا وذاك من شأنها ان يؤثرا في قدرة المترجم على التعبير عن النص الاجنبي الذي تمكن من التواصل معه على نحو معين.
تبعا لما تقدم… تكمن اهمية عملية الاتصال/ التلقي في زرع مبادرة توليد الافكار الجديدة في ثقافة الآخر وتشجيعه على الابتكار بحكم تقاسمهما الذات/ الآخر، الوجود والحياة، في زمان معين… تحقيقا للرغبة المشتركة في تطوير المسار المعرفي الذي من شأنه ان يفضي الى التقدم الحضاري من منظور ان الترجمة هي ممارسة تعانق فيها الذات الآخر، وتستشرف محارورته، لان الحياة قائمة اصلا على التلاحم والتواصل سواء ما تعلق منها بالمظاهر المرتبطة بالكون بخاصة المادية منها او ماكان متعلقا بمظاهر الحياة الانسانية التي تتعرض لها الاعراف والعادات وتدرسها المعارف والعلوم في جميع مجالات الوقائع التواصلية النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكل المنظومات المرتبطة بالانسان في علاقته مع الآخر ايا كان نوعه ماديا ومعنويا.
ان وظيفة الترجمة تؤدي دورا اساسا في تفعيل المسار المعرفي الى البحث والتجديد، بوصفها فعل حوار بين الاجناس المعرفية وتجسيد التبادل بين مختلف اللغات وبقدر ما تزدهر الترجمة في لغة ما بقدر ما ينمو انتاج المعرفة في الثقافة المحلية فيتعزز الانفتاح والتواصل، ويكون فيها المجتمع المنفتح على العالم الآخر قادرا على تطوير قواه الفعلية في مجال الطاقة الابداعية وليس ادل على ذلك مما قامت به من دور للاسهام في بلورة صياغة الفكر العربي الحديث وبعثه من جديد في النصف الثاني من القرن العشرين بفضل اللغة المنقول منها وبقية وسائل التطور والنمو.
* الخلاصة…
اذاً كانت نظريتنا تتبنى رؤية عقلانية لغاية الترجمة من خلال ما تتقصاه للمشروع النهضوي، فاننا من جانب اخر نتبنى نتائج ما نتصوره على اعتبار ان الترجمة مفيدة لكل خطاب، لان الاساس المعرفي هو ما تقوم به الترجمة من توجيهات رامية الى اضافة فكر جديد وخلق واقع معرفي جديد. اضف الى ذلك اننا اذاً ما تساءلنا عن اهمية الترجمة وما تشكله من رصيد معرفي مضاف الى اللغة الهدف المنقول اليها فسنجد انفسنا امام فكرة مؤداها، ان اية حضارة لا يمكن لها ان تحقق علاقة تفاعلية مع ذاتها اذاً لم يكن لديها قابلية للتفاعل مع حضارة الآخر، وذلك ضمانا لرؤية مستقبلية لهذه الحضارة او تلك.
وحينما نعتقد ذلك فلأننا ندرك ان الترجمة عنصر حيوي مهم في بناء ذات الامة، رغبة في اعادة تشكيل فكرها على اسس معرفية جديدة ومتطورة، لان التركيز على الذات دون الاهتمام والتطلع الى افكار الآخر من شأنه ان يفضي الى نتائج سلبية تنحسر معها الذات الى التراجع والنغلاق مقابل الانفتاح المتوخي من التعرف الى الآخر من خلال رصيده الثقافي والحضاري بوجه عام.
المراجع….
المراجع التي استعنا بها اعتمدناها للمراجعة والتوكيد والاستقراء لما ورد في دراستنا.
1. ابراهيم صحراوي- مفتاح الولوج الى عوالم الآخر، الترجمة بين الامانة العلمية والعاطفة الادبية والنقل والاقتباس، مجلة النور (لندن)، العدد 147 (ايار/ 2006)
2. احمد النجدي- حركة الترجمة العربية بين الواقع والطموح، مجلة النور (لندن)، العدد 155 (نيسان/ 2004)
3. بشير العبودي- الترجمة الى العربية، قضايا واراء، ط2، دار الفكر العربي، القاهرة 2001
4. ثريا اقبال- الترجمة والثقافة دراسة ضمن كتاب- الترجمة وتفاعل الثقافات، حلقة بحثية، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة، 2004
5. عبد السلام بن عبد العال- في الترجمة، ط1، دار الطليعة، بيروت، 2001
6. قاسم عبده قاسم- الترجمة وسؤال الهوية الثقافية، مجلة العربي (الكويت)، العدد 620 (تموز/ 2010)
7. محمد احمد صالح حسين- اثر الصراع العربي الاسرائيلي في حركة الترجمة من العربية الى العبرية، مجلة عالم الفكر (الكويت)، المجلد 36، العدد 3 (يناير- مارس/ 2008)
8. ياسمين فيدوح- اشكالية الترجمة في الادب المقارن، ط1، دار صفحات للدراسات، دمشق، 2009
9. Jean René Ladmiral- Traduire Théorémes pour La traduction, Payot, Paris, 1979
10. Susan Bassnett- Comparative litteŕature a critical introduction, Oxford, Blackwel, 1993
# المواضعة – هي اتفاق جماعة على تداول شيء ما او لغة ما بوصفها لغة وظيفية ويستنتج دليل اصحاب المواضعة من كون التواضع على لغة ما يحتاج الى الايماءة والاشارة والحواس.
[email protected]