23 ديسمبر، 2024 5:31 م

الترجمة القائمة على المعنى

الترجمة القائمة على المعنى

ظهرت أبان السنوات الثلاثين الأخيرة العديد من الكتابات المعنية بنظرية الترجمة والمتأثرة بالغ التأثر بعلم اللغة الحديث لتدعم المهنة الجديدة ، مهنة المترجم اللا أدبي ، وتضفي الأحترام النظري عليها . وبلغ بعض هذة الكتابات ، سيما كتب الالمان ، شأوا “من التفلسف والتجريد لم تعد معه قريبة من مشكلات المترجم الحياتية ، وأتجه بعض تلك الكتابات صوب علم اللغة المقارن ، فيما يمم بعضها الآخر شطر أحكام وثاق الترجمة بهذه أو تلك من نظريات اللغة .
بيد أن الجيد من هذه الكتب والمفيد الحافل بالجديد ، بله المتميز الفريد ، قليل شحيح ، ولعله نادر أحيانا” . وبين الكتب التي تزدحم بها واجهات المكتبات ، كم لابأس به ونسبة معقولة من الكتب الأجنبية بشتى اللغات … وإذا كانت كثرة الكتب حق واقع ، واذا كانت نسبة المترجم الى لغتنا بالقياس الى الموضوع بها والمصنف فيها أصلا ” نسبة معقولة في المجمل ، ضمن الصحيح أيضا ” فأن الكتب المعنية بالفعاليات الترجمية – الموضوع فيها بالعربية أصلا ” أم المترجم إليها – جدا ” قليلة . والنزر اليسير الموجود منها – ما خلا بعض الأستثناءات بطبيعة الحال ، لاهو بالجيد المفيد الحافل بالجديد ، ولاهو ، من باب أولى ، ممتاز فريد . وما موجود بعض الأستثناءات التي ألمحنا اليها الا توكيد على شحة الكتب ذات المستوى العلمي الرصين التي تتناول الفعالية الترجمية بوصفها نشاطا ” أنسانيا ” مميزا ” تناولا ” شاملا ”  يغطي معظم ان لم يكن كل أوجه هذه العملية على المستويين النظري والعملي ، وعلى مستوى المبادىء العامة في الترجمة التي يمكن تطبيقها عند الترجمة من أي لغة مصدر الى أي لغة هدف ، وعلى مستوى القواعد الخاصة التي لايمكن الركون اليها والعمل بها الا عند الترجمة من لغة مصدر معينة الى لغة مصدر هدف محدودة ، فتكشف تلك الكتب عن اسرار وتفاصيل العملية الترجمية ، موضحة دقائقها والعوامل المؤثرة فيها ، ثم تنتهي الى خلاصة علمية مكينة الأسس تقوم دعائمها على التحليل الحصيف والأستنتاج المنطقي ، ثم تقدم هذه الخلاصة للمترجم ولمدرس مادة الترجمة ومتعلمها عسى أن يفيد منها فيراعي قواعدها وأصولها وتعينه على أكتشاف نقاط وهنه تمهيدا لاصلاح مايعتورها من خلل ونقص وعيب ، فيرتقي بمقبل ترجماته الى ماهو أفضل وأسمى .
من هنا يكتسب كتاب د.لارسن الذي نحن بصدد مراجعته . أهميته ووزنه بين المؤلفات والتصانيف المعنية بالترجمة ومكانته بينها . ولعل من أسباب هذه الأهمية واقع ممارسة المؤلفة العمل الترجمي – سيما ترجمة الكتاب المقدس – لمدة تناهز العشرين عاما قبل وضع هذا الكتاب وأصداره . ولاشك في أن خبرة عشرين عاما” كفيلة بأثراء خلفية المؤلفة النظرية والمعرفية في مجال الترجمة .
لقد أخذت العديد من جامعات العالم اليوم تضيف حصص الترجمة الى مناهجها شيئا” فشيئا” . بيد أن الكتب المدرسية المتيسرة لمثل هذه الحصص شحيحة ، وقد وضعت مؤلفة هذا الكتاب ودروس الترجمة ماثلة في ذهنها ، وغايتها تيسير مباديء الترجمة التي تعلمتها عبر تجربتها الشخصية في الترجمة والأستشارة والتفاعل البيني مع زملائها المعنيين بمشاريع الترجمة في شتى أرجاء العالم ، وتقديم ذلك لطلاب الترجمة.
وقد ألتزمت المؤلفة نمطا” تربويا” في التقديم ، وغالبا” ما عمدت الى التكرار، كما ساقت الأمثلة على مضطرد الأستعمال ، وأختتمت كل فصل بتمارين على الطالب الأجابة عليها .
وعلى أساس من أفترض ، ان الكثير من الطلاب هم من الناطقين بلغات ثانوية ، فأن العديد من هذه التمارين تتناول الترجمة من والى لغاتهم الأم .كما قدمت المؤلفة المواد العلمية في كتابها بطريقة تتيح الأفادة منها في التعليم الذاتي أو في الصف المدرسي على السواء .
 وحاولت المؤلفة الا تستخدم المصطلح الفني الا في أضيق الحدود . وقد بذلت قصارى جهدها في سبيل ايضاح معاني تلك المصطلحات عند أستخدامها .وقد فعلت المؤلفة ذلك ليتسنى لكل مترجم استخدام الكتاب ، وان كانت معرفته بنظرية اللغة وبالترجمة في حدودها الدنيا . بيد أن بعض جوانب النظرية معقد ولم يسع للمؤلفة الى تبسيطه ، غير أنها التمست استخدام نمط مباشر وغير معقد لتتيح للمستخدم ادراك المباديء التي قدمتها بسهولة ويسر .
ان الغرض الأول للكتاب هو التعريف بمباديء علم اللغة والترجمة وتقديم كتاب مدرسي مفيد عموما” في فصول دراسة الترجمة في الكليات المعنية بدراسة الترجمة دراسة أعمق وأشمل في أرجاء العالم كافة ، سيما في بلدان العالم الثالث ، حيث يشتد الطلب على الكتب الدراسية الأنكليزية الجيدة.
كتاب لارسون هذا يقدم رؤية شاملة للمباديء الأساس للترجمة ، اما المتبقي من الكتاب فيتوسع في هذه المباديء ويمثل لها . فالمبدأ المهيمن على الكتاب هو قيام الترجمة على المعنى لاعلى الصيغة . فما أن يحدد المترجم معنى النص المصدر حتى يغدو هدفه التعبير عن المعنى ذاته في اللغة المستقبلة بصيغ قد تختلف أشد الأختلاف عن صيغ المصدر ، وقد أستخدمت المؤلفة امثلة ايضاحية عدة للتمثيل لهذا المبدأ ، حيث أوردت أمثلة ترجمية لطيف واسع من اللغات ، وبوجه خاص ، من اللغات الآسيوية والأفريقية ولغات الهنود الحمر .
وتتنوع الأمثلة المقدمة مابين دلالات الكلمات والمتلازمات او المتراصفات اللغوية الى القضايا العامة وصولا” الى النصوص ، وينتهي كل فصل بمجموعة مفيدة من التمارين العملية النافعة كذلك في تعليم الأنكليزية .
أما معالجتها للمتلازمات (المتراصفات ) اللغوية ، فهي أشمل وأفضل معالجة عرفتها ، وكما تشغل الاستعارة والتشبيه موقعا” مهما” من الكتاب . كما عالجت المؤلفة تشويه الترجمة الحرفية للمعنى معالجة حسنة . و واظبت المؤلفة على الايضاح وتقديم الامثلة على تداخل النحو وعلم الدلالة والقوة التواصلية من خلال التشديد وضروب ورود الكلمات في أنشاء النص ، وقد أفادت المؤلفة فائدة حسنة من مباديء لغويات النص التي مازالت في بواكر عهدها .
ركز الكتاب في أغلب فصوله على تناول البنية الدلالية مع أنه ليس كتاب دلالة من أصغر عناصرها ، المكون الدلالي meaning component ، الى أكبرها الخطاب Discours ، ثم حصر الوحدات الدلالية في اربعة أصناف :-
Things الماهيات ، وقد ترجمها المترجم بالأشياء التماسا” لسهولة الفهم .
Events   الأحداث .
Attributes  المحمولات ( الصفات والظروف ) .
Relations العلاقات .
وقدم منظومتين هرميتين تقابل مابين البنيتين التحتية والسطحية من اصغر وحدتين بنائيتيـن فيهما :- المكون الدلالي مقابل الجذور Root، والأضافات Affixes، وصولا” الى أكبر وحدتيــــن فيهما : الخطاب مقابل النص Text .
ان سعة الكتاب وتعدد ابوابة وفصوله وفقراته وتنوعها هيأ له فرصة ان يغطي الكثير من المجالات والجوانب التي يحتاج المترجم – سيما المستجد- الى قواعد وأسس نظرية فيها تمده بالعون وتنير له السبيل وتزوده بالدليل المرشد الهادي الذي يتيح له تذليل مايكتنف مهمته من مصاعب ومشاق .
والى هذا وذاك فالكتاب مصمم ليفيد كلا” من المترجمين وطلبة الترجمة وتدريسييها والمشتغلين في نظريات الترجمة ، بل والباحثين في نظريات اللغة والمعنى والتراكيب اللغوية وطبيعة العلاقة بين البنى السطحية    ( مفردات قاموسية ، تراكيب قواعدية ) ، والبنى التحتية ( الدلالة ، المعنى) ، وعلاقة هذين المستويين بالترجمة .
بين دفتي هذا الكتاب الكثير مما يعد جديدا” في دراسة الفعالية الترجمية . فالكتب المعنية بنظريات الترجمة تميل في العادة الى استعراض شتى نظريات الترجمة ومدارسها وتياراتها ومذاهبها، وتتناول فيما يتناوله استعراضها ذاك النظرية القائلة بأرجحية المعنى في الترجمة على سواه من الأعتبارات الأخرى كالشكل / الصياغة او التأثير العاطفي مثلا” ، أما هذا الكتاب فيتمركز حول المعنى ، وبعده الاساس الاول والأكثر أهمية لكل ترجمة متميزة وذات قيمة .
المعنى هو ضالة المترجم التي عليها التماسها لافي كلمات وألفاظ وصيغ النص المصدر وتراكيبه القواعدية حسب بل وفيما وراء النص ، في قصد المنشيء وفي قصد النص وفي السياق اللغوي او الموقفي ، فان تواصل المترجم الى المعنى عبر تحليله النص المصدر دلاليا” وقواعديا” ، فأنه يكون قد أنجز نصف مهمته ، اما نصفها الآخر فهي أن يعيد التعبير عن ذلك المعنى كله بمنتهى الدقة والوضوح في اللغة المستقبلة بأستخدام الطبيعي والمألوف من صيغ اللغة والمستقبله( المفردات والتراكيب القواعدية ) بحيث يؤدي ذلك المعنى كاملا” غير منقوص وواضحا” اشد ما يكون الوضوح وطبيعيا” مناسبا” بهدوء وسلامة دونما أنقطاع فيه أو انتقالات حادة ، كما يأتي النص المترجم وكأنه كتب أصلا” باللغة المستقبلة لا مترجما” عن لغة اخرى اليها .
لكن الكتاب لم يقف عند هذه الحدود في تناوله المعنى كما تفعل اكثر الكتب المعنية بالترجمة وبنظريات الترجمة . بل تناول دراسة المعنى بعمق فاق الكثير من المؤلفات المعنية بدراسته ككتب الدلالة ودراسة المعنى ، وقابل دراسة المعنى هذه بدراسة التراكيب السطحية بعمق فاق كثيرا” ماتتناوله كتب النحو والصرف والقواعد . فحقق بذلك أمرين :- دراسة كل من المعنى (البنية التحتية ) ، والمفردات والصيغ القواعدية (البنية السطحية) ، دراسة معمقة ، وقارن بينها ثانيا ” موضحا” تأثير كل منهما في الآخر من جهة ، وتأثيرهما على الترجمة والمترجم والعملية الترجمية من جهة أخرى .
أن قيمة اللغة الأصطلاحية المسبوكة المتماسكة مركز ثقل هذا الكتاب . وقد وصفت المؤلفة الموارد الثرة الممتازة للغة الأنكليزية ، ومثلت لها بحيوية وهمة عاليتين . وخطة الكتاب متميزة من حيث الجودة ، كما أنه يتضمن معجما” تفصيليا” مفهرسا” بالمفردات المهمة ، وبأزائها _ أرقام الصفحات التي وردت فيها ، وثبتا ” شاملا ” بالمراجع . ولا يخامرني ادنى شك في افادة كل استاذ وكل ساع الى تعلم الترجمة ذاتيا” من هذا الكتاب ، وكل من يحاول تعلم الأنكليزية ذاتيا” لوجد فيه مايفيده دون ريب .

الكتاب :-
الترجمة القائمة على المعنى ، دليل التكافؤ عبر اللغات .
تأليف –  د. ملدريد لارسون
ترجمة –  حازم مالك محسن
منشورات بيت الحكمة البغدادي ، طبعة أولى ، بغداد ، 2008 / 1104 صفحة .

   [email protected]