18 ديسمبر، 2024 9:12 م

التربية العدوانية للطفولة العراقية

التربية العدوانية للطفولة العراقية

لا أكتم القارئ سرا”حين أعلن له حقيقة ؛ انه وأنا أكتب هذا الموضوع تملكني شعور بأن هناك من يرمقني بعين الاستخفاف والاستهجان ، وكأن لسان حالة يقول : وكيف تتوقع أن يكون نمط التربية التي يحصل عليها الأطفال في بيئات مدججة بكل عوامل العنف ومعبئة بكل مقومات الكراهية ؟! . وعليه فليس من الحكة ولا المنطق تتوقعك أن تتم تربية الطفل العراقي بغير هذا الأسلوب العنيف وبغير تلك الطريفة العدوانية ، وإلاّ فالويل لهم في مجتمع يأكل فيه القوي الضعيف كما في عالم وحوش الغابة . والواقع إني لا ألوم من يتبنى موقفا”كهذا ويؤيد وجهة نظر كتلك ، طالما إن القيم والأعراف السائدة في المجتمع العراقي لا تشجع فقط على شيوع مثل هذه المظاهر والسلوكيات فحسب ، بل وتلزم كذلك الأهل والأقارب على تربية أطفالهم وتنشئة شبيبتهم على مراعاة جوانب الحيطة والحذر مع أقرانهم المحيطين بهم ، فضلا”عن إظهار علائم السيطرة والخشونة في التعامل مع الآخر ، وإلاّ فانه لا مكان للمترددين وذوي النفوس الضيفة في بيئة اجتماعية أدمنت جماعاتها على العنف الوحشي ، وأصاب أفرادها داء عضال العدوانية الشرسة . بيد إني حين أبرر للمسؤولين عن تربية أطفالهم التشدد في مضمار التأكيد على روح المنافسة اللاانسانية ، وإظهار قيم الرجولة المتبربرة ، ولا بأس من التحلي ببعض القسوة في التعاطي مع رفاق المحلة وزملاء الدراسة أو شركاء اللعبة ، لا يعني هذا بمثابة الاعتراف بواقعية تصوراتهم والموافقة على سلامة إجراءاتهم ، وإلاّ سأضطر لشاطرهم تلك النظرة البدائية الخاطئة إلى أسس التربية الحضارية الصحيحة ، فضلا”عن إن طرحي لهذه المسألة على مستوى الرأي العام سيغدو لا معنى له ولا مسوغ بالمرة . كل ما في الأمر هو إني انظر للحالة من منظور طبيعة القيم ونمط المعايير السائدة في المجتمع العراقي ، مع الأخذ بنظر الاعتبار ماهية الأصول الاجتماعية والخلفيات الثقافية والمنظومات الدينية ، التي تتحكم بنواظم السلوك ونوابض الوعي سواء بالنسبة للأفراد أو الجماعات . والحال كيف نريد لأطفالنا وشبيبتنا أن تنبذ مظاهر العنف وتتخلى عن نوازع العدوانية ، في الوقت الذي تعيش فيه ضمن إطار مجتمع رفع فيه الكبار قبل الصغار تلك المظاهر والنوازع إلى مصاف القيم الكبرى المعتبرة ؟! .
كيف لنا أن نتوقع حصول تغيير نوعي في مزاج الأطفال والشبيبة لصالح قيم المسالمة وأعراف المسامحة ، في الوقت الذي يشاهدون آبائهم يتبجحون بخيلاء رجولتهم القبلية ، عبر فوهات البنادق الرشاشة أو غيرها من الأسلحة النارية ، لاسيما أثناء المناسبات سواء أكانت محزنة أم مفرحة ؟! . كيف يكون بمقدورنا حمل هؤلاء الأطفال وأولئك الشبيبة على هجر ثقافة التفاخر بالقوة الغاشمة والتنابز بالشجاعة المغالبة ، في الوقت الذي لا يحسن آبائهم التعبير عن مشاعر الرضى والامتنان ، حيال تفوق أبنائهم في شتى مجالات العمل أو الدراسة ، سوى تقديم لعب وهدايا تحمل طابع العنف وتحضّ على العدوانية ؛ من قبيل أشكال الأسلحة نارية والسيوف والقبضات الفولاذية ، بدلا”من تلك التي تسهم في تطوير مهاراتهم الإبداعية ، وتساعد على شحذ ملكاتهم المعرفية ، وتؤكد على تنمية مشاعرهم الإنسانية ؟! . ونتيجة لذلك فقد اختفت من حياة الأطفال العراقيين مظاهر الفرح والبهجة ، التي كانت مصحوبة بممارسة الألعاب البريئة والفعاليات النافعة ، والتي كانوا يتمتعون بها في الأعياد والمناسبات (الدينية والوطنية) ، فضلا”عن السفرات المدرسية التي كانت تشكل رافدا”من روافد تعزيز الأواصر بين التلاميذ وتنمي لديهم حب الاطلاع وزيادة المعارف . لتحل محلها أشكال أخرى غريبة على بيئتنا ودخيلة على ثقافتنا وطارئة على أخلاقنا ؛ من مثل مشاهد العنف الدموي على أجهزة التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي ، ومقاهي الانترنيت التي تبث شاشاتها العاب العنف والجنس والجريمة .. الخ ، ناهيك عن تجار الموت الذين باتوا يستغلون أي مناسبة لتأمين شتى أنواع المفرقعات النارية ، التي أصبحت الوسيلة المفضلة للأطفال في التعبير عن أفراحهم في المناسبات . والانكى من ذلك كله لجوء البعض من الآباء إلى وسائل التواصل الاجتماعي ، لا لأجل جعل أبنائهم يستثمرون هذه الوسيلة الحضارية لتعزيز روح التآخي وتكريس ثقافة السلام بين مكونات هذه الشريحة الخطيرة ، ومن ثم توجيه اهتماماتهم نحو آفاق العلم ودروب المعرفة وميادين الثقافة ، وإنما لعرض حالات وبث مشاهد تزرع روح العسكرة والافتتان بالقوة في نفوس أطفالهم ، عبر مظاهر ألباسهم الزى العسكري والسماح لهم بحمل بعض أنواع الأسلحة ؛ إما للتباهي الساذج والتفاخر القبلي ، وإما للتنفيس عن مكبوت شخصية أخصيت رجولتها وأهدرت كرامتها . وهكذا فبقدر ما بات الواقع الاجتماعي المتأزم يعكس خلافاته وصراعاته على قيم المجتمع وأعرافه المتخلفة ، بقدر ما أضحت هذه الأخيرة تغذي مكونات ذلك الواقع وتمنحها أسباب البقاء ومبررات الاستمرار . ولهذا فان الأمر يتطلب – إذا ما توخينا التغلب على هذه الإشكالية المدمرة – إحداث تغييرات جذرية وتحولات عميقة ، لا في طبيعة تلك القيم ونمط تلك المعايير فحسب ، بل وفي طبيعة النظرة إلى الأولى والتعاطي مع الثانية بالتزامن والتعاقب على حدّ سواء . بحيث نضع باعتبارنا إن مسؤولية انتشال أطفالنا من فخاخ الموت ومهاوي الضياع ، وبالتالي خراب المجتمع الكلي أكثر مما هو عليه الآن ، لا تقع فقط على عاتق أجهزة الحكومة ومؤسسات الدولة – مثلما يكثر الحديث عن ذلك – وإنما هي بالدرجة الأساس من مسؤولية الآباء والأمهات ، فضلا”عن الدور المساعد للأقرباء والأصدقاء من الذين
يجمعهم الهم الوطني الواحد . ذلك لأن من سمات الشعوب المتحضرة والمجتمعات المتمدنة ، التركيز على رعاية الطفولة والاهتمام بالفئات العمرية اليافعة ، ليس من قبيل اعتبارها دريئة الحاضر وخميرة المستقبل فحسب ، وإنما من منطلق كونها حافظة لوجودها وصائنة لمصالحها وحاضنة لقيمها والباعثة لأمجادها .