22 ديسمبر، 2024 11:58 م

التديّن والعفة والعقيدة النقية السمحاء

التديّن والعفة والعقيدة النقية السمحاء

في نصوص للشاعر المصري د./ محمود حسن

دراسة نقدية براغماتية لديوان ( سفر التوسّل )

أولا- المقدمة :

لأشدّ ما تمنيت أن ألتقي يوماً بشاعر تكون المرأة عنده حِمىً وحرماً لا يجوز المساس به, وأصغي السمع استغراقاً، وأسبل الجوارح بسكون، في حضرة بهاء القصيدة.. ولأن الله ذو الجود والكرم، ولأنني سعيدة الحظ، جاء تدبير الله المانح أن أعرف الشاعرالمصري الفذ الدكتور محمود الحسن، لألتقي فيه ذاك الشاعر الحلم، أكثر ما لفت انتباهي أنه – كشخص – كان يقطر شعراً…! كان يمشي معنا بعد انتهاء أمسية، نذهب لنحتفل احتفالاً صغيراً، فإذا بالقصيدة تنطلق من فمه صدّاحة، تعانقها أسماعنا بكل شغف وحيطة، مخافة أن تأخذ نسمة عابرة بعض حروفها وتهرب بالغنيمة، وكيف نساومها على ما اقتنصت…؟!

• السيرة الذاتية

محمود حسن عبد التواب

رئيس مجلس أمناء مؤسسة الكرمة للتنمية الثقافية والاجتماعية.

عضو اتحاد كتاب مصر

صاحب فكرة اتحاد صالونات مصر والعرب

معد سابق بإذاعة الشمس التى تبث من باريس فرنسا

عضو جمعية الأدباء

عضو أتليه القاهرة

عضو فى العديد من المؤسسات والجمعيات الأهلية والثقافية

………………..

• مساميره على حائط المعرفة الإنسانية

1. ديوان شعر سِفرُ التَّوسل

2. فضيلة أبي مائة عام من العطاء ( سيرة ذاتية ) .

تحت الطبع:

1. ديوان شعر ( جَنائزُ الوقت )

2. ديوان شعر ( ثمرٌ على شجر اليتامى )

يجهز للنشر:

❖ الموت رقصاً مسرحية شعرية

❖ عبثاً حاول غاندي مسرحية شعرية

❖ مؤمنون وكافرون ( دراسة بحث عن الوسطية ) .

حائز على مجموعة من الجوائز.

نشرت له أعمال فى كثير من الصحف المصرية والعربية.

شارك فى مهرجانات وفعاليات فى عدة دول منها في

فرنسا – السعودية – الأردن – المغرب – تونس – الإمارات

وجميع محافظات ومدن جمهورية مصر العربية .

دُرست بعض من أعماله بكلية التربية جامعة دمياط .

تناول مجموعة من الكتاب الكبار أعماله بالنقد والتحليل أمثال :

الدكتور / شريف الجيار

الدكتور / عبد الحكم العلامى

الدكتور / السيد العيسوى

الشاعر والناقد والإذاعى / السيد حسن

الشاعر والناقد / أحمد إسماعيل

الكاتب والناقد المغربى / محمد محقق

الشاعر والناقد / أحمد الخويلدى

وغيرهم .

– توطئة :

لقد تم اعتمادي كناقدة براغماتية وباحثة أدبية في اتحاد النقاد العرب، كوني أتّبع النظرية الذرائعية ( البراغماتية)، الموضوعة من قبل المنظّر الأدبي العراقي الأستاذ عبد الرزاق عوده الغالبي، وبناءً على ذلك سأنقد الديوان براغماتياً، وأبدأ من:

ثانياُ – البؤرة الأساسية الثابتة Static Core :

من صفات النص الرصين احتوائه على استاتيكية وديناميكية التنصيص (texualization motion) في الأفكار والأيديولوجيات الإنسانية، وحتى في الشكل البصري، والبؤرة الثابتة هذه، نلمس بها أيديولوجية الكاتب الأدبية والفكرية، ونظرته نحو مجتمعه، وهي الرسالة الإنسانية التي يتميز بها الكتاب، وخصوصاً الأدباء والشعراء الكبار، وهي بؤرة لا يمكن التلاعب فيها نقدياً أبداً، لأنها هوية الكاتب أو الشاعر التي لا يمكن بحال من الأحوال أن ننقدها، فهي ملتصقة به كبصمته، فهناك من يكتب للفقراء، وهناك من يلاحق الظلم, … وهكذا …إن البؤرة الثابتة عند الشاعر الفذ محمود حسن هي رسالة استاتيكية مجتمعية تنبذ الإرهاب والطائفية، وتدعو إلى الانتفاض على الجهل و التخلف، ونشر الوعي والمؤاخاة بين كل الطوائف والملل بهدف النهوض بالوطن بنهضة تجديدية حضارية في كل المجالات …

من هذه البؤرة العنوان أنطلق إلى كشف مخبوءات النصوص، من خلال الدلالات السيميائية والبراغماتية الرمزية، وتفصيلات أخرى مؤجلة، وهي المتاحة لي كناقدة أن أناقش فيها، وأتفق أو أختلف فيها مع الشاعر ومع غيره من النقاد، وهي المحطة التالية ونسميها :

ثالثاً – الاحتمالات المتحركة في النصوص شكلاُ ومضموناً Dynamic Possibilities, :

بالمختصر هي ملاحقة مجريات النص الداخلية والخارجية بالتحليل، ملاحقة حلقات الأفكار المتصلة فيما بينها شكلاً ومضموناً، ومحاولة الجري خلف الدلالات والرموز والمدلولات والمفاهيم سيمانتيكياُ وبراغماتيكياً، حد الغوص في أعماق النصوص لإخراج الدرر المخبوءة في محارات وصناديق الكنوز المستقرة في قيعان عميقة، وهي عملية ليست سهلة، وتستدعي من الناقد امتلاك أدوات صيد متطورة، ودراية وحرفنة في حسن استخدامها، لكن سعادة الناقد بالحصيلة الوافرة لا توصف، تجعله ينسى المشقة والتعب…

وقد وجدت في أعماق عاطفة وفكر الشاعر الفذ محمود حسن الكثير الكثير، ويحق لي – كناقدة- أن أكشفها كما اصطدتها.. هو شاعر تسامى بعاطفته, عشق المرأة بتكوينها العاطفي أكثر مما عشقها بتكوينها الجسدي المحسوس، ارتقى بها كشاعر حتى جعل القصيدة سيدة، وعندما عشقها واصطفاها لنفسه، جعلها مقاربة بل – مساوية – وأحياناً –متجاوزة- لكل معايير الطهر والعفة والجمال، وكأن الله لم يخلق لها شبيهاً أبداً، أسبغ عليها كل معاني البهاء والتكامل والخفر، وأجرى على ذكرها المعجزات, شبيهة كل سيدات الجنة هي…!!

سأستشهد من قصيدة سفر التوسّل ببعض الأبيات:

إني امتلكتك روحاً لا أجسّدها

مهما يتوق عناق الورد لم تزلي

ويقول

يا أنتِ يا امرأةً لا شيء يشبهها

آلله ..أودعك ِ الأسماءَ في الأزلِ

أقسمتُ ما عبرت أنثى بذاكرتي

وأنتِ وحدكِ حرف الله في الأجل

إلى قوله :

حتى توضّأتُ من عينيكِ مسبغةً

علَّمتِني لغةَ الأشواق بالخجل

وأيضا يقول :

حتى إذا ظهرت رؤياكِ في خَلَدي

تفجّر الماء مكّيّاً من الجبلِ

هو شاعر متديّن عفيف في عشقه، وهنا اختلف مع نزار قباني الذي تناصّ معه في الكثير من القصائد، اتفق معه في عظيم عشقه للمرأة، وخالفه بأن سترها وعفّ عن الوصف الحسي المجسّد …

وعلى الطرف المقابل، عندما وقفت على القصائد التي يتكلّم فيها فكره الوقّاد, وجدته متديّن معتدل، يكره التطرّف، ويزعجه الخطاب الديني الذي يزكّي التعصب ويثير الفتن، إن من يراه هنا قد يظنه يدعو لمجتمع مدني مشاع، لكنه ليس كذلك أبداً .. بل يدعو إلى اتباع السماحة والشمولية في الدين الإسلامي الحنيف، الذي عاش في كنفه المجتمعي كل أتباع الديانات الأخرى، بمؤاخاة ومؤازرة، كان فيه المسيحي أخاً وجاراً، له كل حقوق الأخوة والجيرة…

إن الشاعر الفذ محمود حسن يتكئ على جدار أدبي وثقافي وديني قوي البنية، مقامٍ على أساس متين من الألفاظ والمفردات القوية، والتراكيب الجزلة، التي قام الشاعر بتنضيدها بذكاء وفطنة، أشار فقط ولم يصرّح بتسميات، بل ترك للمتلقي أن يلتقط إشاراته، فإن فعل أدرك المقصود، وإن كان هدف الشاعر بالأساس التنديد بتجاوزات، لا بعقيدة، التناص القرآني والاقتباس اللفظي والمعنوي من القرآن والسنة يعكس ذلك …

سأكتفي بعرض صيدي هذا، و أترك الباقي لغيري أن يحاول إخراج المزيد، ولغيري أن يتفق معي أو يختلف، لا فرق المهم أنني استخرجت الاحتمالات الرسالية التي كانت كافية لي لأن أضع الديوان نقدياً في قائمة الفائدة الإنسانية… وسأمرّ على محطات هذا التحرك العفيف البديع محطة بعد أخرى :

أ – المدخل البصري :

وهو تجاذب وانجذاب سحري يحمله النص بجنسه الأدبي الظاهر، وشكله الأنيق فالجنس الأدبي في النص العربي مختلف تماماً عن الجنس في اللغات الأخرى، شكلاً وصورة، وله صور مختلفة عن جميع نصوص اللغات الأخرىSpecial graph، فلو أخذنا شكلاً بصرياً من كل جنس، من النصوص العربية لوجدنا أنه يلبس أردية مختلفة عن الجنس الآخر يتميز به، فالمقامة مسجوعة، والقريض معمّد بعمود أو عمودين، شطر وعجز، يشكل بمستطيل منتظم في الأبعاد أو مستطيلين، وتقف عند كل نهاية لشطر، حرف واحد يقر القافية للنص، أما الحر، فهو عمود يضيق ويتسع، وتخلله جمل بانتظام توافقي لا كسر فيه، تحكمه انسيابية موسيقية ممكن مشاهدتها بصرياً، من خلال توافق المفردات، التي اختيرت بشكل دقيق محترف، أما الشكل البصري في القصة القصيرة أو الرواية يظهر جلياً بتنظيم الأسطر في الصفحة الواحدة بشكل فقرات، تحكم بأدوات تنقيط ( )[1]من فوارز ونقاط وعلامات استفهام وتعجب ونقاط وأدوات حصر و فوارز، ومسافات متساوية بين الأسطر وفراغ معقول بين فقرة وأخرى، أما الخاطرة فتكون شبيهة للشعر الحر بصرياً، مع اختلاف في التوافق الموسيقي بين الكلمات، فهي لا تحوي على توافق موسيقي في جملها، ولا تحتوي على حبكة هيكلية فيها، حتى لا تختلط مع القص القصير وتبتعد عن النص النثري، فهي جنس بيني …

إذاً، يمتلك الجنس الأدبي العربي، أهمية كبيرة في الرصد الحسي أو البصري وهو عامل مهم للناقد والأديب والمتلقي البسيط على حد سواء، فإذا أهمل شكل النص البصري، خلع أردية الأناقة البصرية وصار شكلاً عادياً لا ينتمي لجنس، أي فقد هويته الأدبية وصار هجيناً، وفقد انسيابيته ودخل حيز الإهمال في القراءة، حين يختلط عند القارئ، التسلسل في البناء الفني للمعنى والأفكار، وتضيع لديه مطاردة الإخبار الأدبي والفكري و الجمالي في النص، وخصوصاً في الشعر الحر والقص، حين يُكتب النوعان بشكل واحد، تختلط فيه عملية التمييز والصفة الأدبية للنص على المتلقي ….وشاعرنا الدكتور محمود حسن التزم بالشكل التجنيسي الأدبي بشكل راق ومثير للاعجاب، واهتم بشكل القصيدة العام، وبأصغر تفاصيلها من نقطة وفارزة وعلامة تعجب واستفهام…..

– البناء الفني والجمالي

امتاز هذا الشاعر الإنساني بكتابة السيناريو والحبك الشعري في قصيدته، وقد شدني هذا النوع من الشعر، فحين تقرأ أية قصيدة للدكتور محمود حسن، تشعر أنها نص شعرى محبوكٌ كتب بطريق القص الأدبي بعنوان وإخبار تقريري، من مكان وزمان وحبكة، وصراع درامي وذروة أو عقدة ثم انفراجاً ونهاية، وقد تناول بقصائده السردية تلك، قصص وحكايات ….

يرتبط النقد والأدب بعلاقة تداخلية عميقة بين الأجناس الأدبية، لا يمكن الفصل بينهما أبداً، فهي علاقة أبوية، النقد فيها هو الأب الروحي للأدب، إن تمّ فرط هذه العلاقة ينفلت الأدب، ويمضي بفوضى عارمة، لن تكون خلّاقة حتماً، فالنقد هو الحاني الذي يضع الأنظمة والقوانين والمصطلحات التي تجعل طريق الأدب منتظماً سالكاً بسهولة ويسر، و الأدب هو فن معقد، يستلزم أدوات يجب أن تتوفر بين أيدي الأدباء من كتاب وشعراء، و الشعر تحديداً أكثر تعقيداً من باقي أجناس الأدب، كون الشعر من أهم الأجناس الأدبية وأكثرها انتشاراً، ولا يقتصر فيها النقد على المبنى والمعنى، وإنما يتعداه إلى دراسة الموسيقا واستنطاق الدلالات والمفاهيم للحصول على المعاني المؤجلة، التي تمتد إلى ما لا نهاية بالعمق الأدبي لهذا الشاعر الفذ، فالتحليل، هو سفر براغماتيكي في سفينة المعاني، مع شاعر ساقها بسوط التمكن الشعري، فجعل من القصيدة سفينة للسفر بالخيال والموعظة، فتفرد الشاعر محمود حسن في هذا المفصل الفني البنائي الأدبي عن باقي الأجناس الأدبية.

وعزفت هنا أن أورد أمثلة، لأن جميع قصائده تعتمد الحبك الفني دون استثناء….

– – الموسيقى الشعرية :

إن أول ما يسترعي الناقد أو المتلقي المهتم، عندما يعرض له ديوان شعر أو قصيدة, هو المشهد الموسيقي للقصيدة ونعني به الوزن و القافية او التفعيلة, والذي تحمله الجمل الشعرية في القصيدة وطريقة انتظامها بأعمدة وتنسيقات بصرية, الألفاظ وملاءمتها للسياقات الشعرية, وعدد القصائد في هذا الديوان ثلاث عشرة قصيدة تقريباً, معظمها قصائد طويلة, وقد انتمت إلى جنس الشعر القريض بالمجمل, خلا بعض القصائد التي انضوت تحت خيمة قصيدة التفعيلة كقصيدة ( أحتاج إلى لغة أخرى ).

بدأ الديوان بصاحبة العنوان ( سفر التوسّل)، التي جاءت شعراً خليلية الوزن، حقّق فيها الشاعر موسيقا خارجية بالقافية :

فيض من النّهر أم ماءٌ على الجبل

لا عاصمَ اليومَ من حرفينِ في الجُملِ

لا زُرقة البحر في عينيكِ تأخُذُني

ولا يداكِ هُمَا أو رَجفَةُ القُبَلِ

قصيدة ( أحتاج إلى لغة أخرى) جاءت قصيدة تفعيلية، وهنا كانت رائحة نزار قباني

عابقة جداً، ربما لأن شاعرنا يجلّ المرأة بنفس طريقة نزار قباني، ترق ألفاظه عندما يتحدّث عنها، وتهدأ موسيقاه، وتأتيه الطبيعة طائعة، لتشارك في رسم لوحته العاشقة، رومانسية آسرة،و يتكرر فيها لفظ ( يا امرأة) كلازمة في أغنية، الموسيقا الداخلية مسموعة لا تخطئها الأذن، حققها اختيار الشاعر لكلماته، تلك الكلمات المتجاذبة الحروف السهلة النطق .. ( لغة، أخرى، شعراً، زهراً، امرأة النهر، فل، عنبر ….) , موسيقاها بكلماتها الرقيقة، وحروفها اللينة الرهيفة … ( اللام , الراء , الهاء , تنوين الفتحة ,والألف المقصورة , ….) وكأن الشاعر هنا درس التوافق الفونولوجي بين الحروف والأصوات، وركب مفرداته بتوافق صوتي موسيقي وتلك صفة لا تتأتّى عند الأديب، إلّا من خبرة ودراسة معمقة في علم الصوت واللغة، جذر كلماته نحو الصوت (sound)، ثم عاد و حولّها من صوت ميت إلى آخر متحرك، وبحيوية فنولوجية عالية (phoneme) لكون علم الصوت لا تجتمع عنده الاصوات، إلا إذا صارت فونيمات(morphemes)، حتى تتبني الكلمات ذات معنى، ومن تلك المورفيمات تولد الكلمات(words)، و تقذف تلك الكلمات في تيار اللغة بشكليها السيمانتيكي البراغماتيكي بمعانيه المؤجلة (prospective meanings) والثابتة، وهكذا أبحر شاعرنا في عالم الفونولوجيا و المفردات، ليبني موسيقياً جملته الشعرية، بخلق التوافق الفونولوجي بين الحرف والصوت و المفردة الشعرية الدافقة….أبحروا معي في سفن سحره الموسيقي :

أحتاجُ إلى لغةٍ أخرى

أحتاج لكي أعبُرَ هذا النهرَ

لمُفرَدَةٍ أخرى

أحتاجُ لكي أكتبَ شعراً

أن أنظرَ في عينيكِ

لا أدري كيف أتيتِ

أو من أي رحيقِ الزهرِ خُلِقتِ

لكني أعلمُ أنّكِ وحدكِ أنتِ

يا امرأةً لا يُمكنُ أن تُخلقَ …

… إلّا مره

لا تتكرّر

يا امرأةً لا يمكن إلّا أن ..

أعشقها

يا زهرة أُركيدٍ

يا نسمة فُلٍّ أو عنبر

يا سندسَتي و زبردَجتي

يا كلَّ الشعر العربى وكلَّ الشعرِ المتحورْ

بدا الشاعر وكأنه يقفز قفزات يلاحق بها الصور والمعاني، في محاولة حثيثة لالتقاطها وتوظيفها في معانيه و صوره الشعرية، لذلك لم يكن هادئاً أبداً، ولم يجعلنا نهدأ، وإنما وثبنا معه وهو يلتقط ألفاظه ومفرداته، ويلقيها في القصيدة من وراء جدار النص، كما أنه نزح إلى الخيال، وهنا كان نجاحه في إكساب النص أبعاداً رمزية، تلاعب بالمفردات فأعطاها عمقاً دلالياً رمزياً، استخدم علم البديع في تجميل المعاني كالطباق، كما اعتمد الترادف و الجناس في تأمين نغمة موسيقية جميلة نابعة من التشابه في اللفظ والاختلاف في المعنى، فكان موسيقياً ماهراً جعل القصيدة أقرب ما تكون إلى أغنية عالية النبرات، كما كان رساماً أشبه بمايكل أنجلو وهو يرسم وينحت قصص الغابرين، وقد رسم قصة انفلاق البحر أمام نبي الله موسى، وعدو الله فرعون، ويقول للمعاصرين: انتهى زمان المعجزات، فهذي البحار لا تنفلق …شغّلوا عقولكم ، وكفّوا عن الاستماع لأئمة يؤججون الطائفية …

مرّوا جميعاً أنبياءَ ومؤمنين وكافرين

إلى الغرق

هذي بحارٌ لا يمرُّ بموَجِها

موسى ولا فرعونها

ليست بحاراً تنفلقْ

عبثت أيادٍ في الحشا وتدمّمتْ

أظفارُها والقيحُ يلعنُ كلَّ آنٍ خائنين

ومرتزِقْ

خدعوكَ يا فرعونُ والأفعى عصا

موسى إمامٌ..

ليسَ منهم

والعصا

متفرّجونَ على الصراعِ

مراقبونَ

محرّضون على الدخول

على الخروج

على الصراخ

على الغناء

حتى إذا سقط الملوك ُ…

رأيتهم فوق المنابر

كاشفين

ومعلنين على الهواء

نحن المشايخ

والقيادة

والدعاة

نحن الوصاة على البلاد

برأينا نحن الولاة

وطن تقرره الشّيَع

هتكوا حجابك يا مساجد

يا كنائس

يا بِيَع

– – الصور الشعرية :

وهي الهدف الجمالي الذي يسعى وراءه الناقد المتمكن، يلقاه بعد قراءات عديدة للقصائد، يدركه بنظرة ثاقبة إلى مخبوءات النص، بعد إدراك العلاقات التبادلية بين الألفاظ والبيئة الاجتماعية للشاعر، وقد كانت قصائد هذا الديوان من النوع الذي تطغى فيه الصور الجمالية ذات الإضاءات الجميلة, يميل إلى العاطفة والخيال بدرجة انزياح عالية، كانت تجربة الشاعر الشعورية فيها واضحة، وهذه نراها في القصائد التي يتغزّل فيها الشاعر بمحبوبته، وهنا تندمج الموسيقى مع الرسم، مرة تراه رساماً يمسك فرشاة قلمه ليرسم أجمل الصور بالكلمات، و بأخرى موسيقياً يعزف بأنغام أسطورية أجمل الألحان، وعند شاعرنا امتزج الخيال بالحقيقة، وتنوع الفعل بجمال ورشاقة الفاعل : وها نحن نسمع ونقرأ:

نذكر بعضها : في (سفر التوسل )

إنّي امتلكتُكِ روحاً لا أجسّدها

مهما يتوقُ عناقُ الوردِ لم تزلي

إنّي أسيرُكِ لا فدوٌ ولا بدلٌ

أنا الطليقُ بساحِ الأسرِ فاعتقلي

ننظر إلى عظمة احترامه وحبه، أحب روحها وتاق إليها توقه إلى عناق وردة رقيقة أشفق عليها منه لرقتها…

هذه الصورة الخلابة المحيّرة التي كان فيها الشاعر مالكاً وأسيرا، وكانت فيها الحبيبة مملوكةً و آسرة ..!

وجدنا أيضاً النوع التقريري المباشر الذي يميل إلى العقل, خطابي بأفضل صوره السهل الممتنع,

قصيدة( يا أنتَ ):

يا أنتَ لستَ إماماً كي نُقدِّمُهُ

وليسَ إرهاصَ وحيٍ جِنُّكَ التَّعِسُ

اكذبْ كما شئتَ لا حرفٌ نُصدِّقُهُ

واحذر فَكلبٌ كلابِ اللهِ مفتَرسُ

لا بُدَّ يُنشِبُ ناباً في ضغائِنِكُم

يَسعى إليكم فَلا سُورٌ ولا حرَسُ

فيها تحذير ووعيد، وتذكير بأن جنود الله أشد افتراساً وضراوة من وحوشهم ، وانتقامه أشد، ولا عاصم من أمره سبحانه وتعالى ..

بً- البيئة الشعرية في القصائد :

هي المحيط الإنساني الذي يؤثر على ذهن الشاعر وعواطفه، وهي المحفّز الذي يثير عنده الملكة الشعرية، بمعرفتها يمكننا الإلمام بالحالة النفسية للشاعر، هي الرحم الذي تتشكل فيها إبداعات وإرهاصات الشاعر، وما نحن قادمون الآن على تقديمه, هو البيئة الخاصة بالعمل الأدبي والتي لا تنفصل بحال من الأحوال عن البيئة العامة والظروف المحيطة بالشاعر، ويمكننا في هذا المضمار أن نميز بيئتين ترعرعت فيهما إرهاصات الشاعر، الأولى الشارع المصري في ظل ثورة يناير وما رافقها من فوضى وزبد طفا على سطح المجتمع المصري، فساد، خطاب ديني فيه تحريض، وبعيد عن جوهر الدين، كان له أثره في إذكاء الفتن والصراعات، هذه البيئة المضطربة جعلت نبرة الشاعر عالية غاضبة مستنكرة، متأسية وهازئة برموزالفساد، ما جعلتها تقترب من نبرة الخطابة والتقريع، وهنا كانت القصائد انعكاس أفكار الشاعر ورؤيته وموقفه العقلاني الذي كان واضحاً وثابتاً، وعلى الجانب المعاكس تماماً، عند الجانب الحنون، نراه يهدأ حد الذوبان رقةً، عندما يتحدث عن المرأة حتى أخالني أجلس إلى نزار شاعر المرأة والعشق بلا منازع، وهنا ينازعه شاعرنا محمود حسن، حتى أنه يذكره في إحدى القصائد بالاسم، قصيدة ( أحتاج إلى لغة أخرى ) التبست عندي بقصيدة ( أشهد أن لا امرأة أتقنت اللعبة إلا أنت ) لنزار، وهذا تناص رائع، عكس عواطف الشاعر الرقيقة، التي تحترم المرأة وتعشقها عشق صوفي، المرأة عنده رمز قدسي بقدسية الوطن، رمز رقي وفخامة بفخامة القصيدة, فالقصيدة سيدة، والدنيا سيدة.. لا شك أن من يقول هذا عاش في كنف ملكة، لا يُقال في حضرتها سوى كلام يقطر عذوبة ورقة …

ج- درجة العمق والانزياح نحو الخيال :

يكاد العمق والخيال أن يكون كل الشعر، فما فائدة القصيدة المكتملة الأدوات إن لم تكن فيها روح شعرية مبثوثة بشفافية مؤثرة ؟ والحقيقة أن القصائد التي في هذا الديوان هي بالمجمل قصائد لا يملك المرء حين سماعها أو تلقيها إلا أن يقول : الله ! وهنا يكمن الإبداع .. أن يتمكن الشاعر من هز وجدان المتلقي عبر فضاءات أخيلته، و التي هي بحال من الأحوال الصانع الرئيسي للصورة الأدبية، عندما يبدع الشاعر في تصوير مشاهد مألوفة في حياتنا، فيبث فيها الحياة والحركة، حتى نخالها جديدة وطريفة، وباعثة على الإثارة ومبهرة، عندها لا يمكننا إلا أن نطلق صيحات الإعجاب …ولقد نجح الشاعر محمود حسن في انتزاع تلك الصيحات حقاً، ساعده على ذلك حرفية عالية في :

1. المزج بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي في نصوصه، ما أكسب القصائد حيوية ولهجة حميمية منعشة، نرى ذلك واضحاً في قصائده التي يتغنى فيها بالمرأة :

في قصيدة سفر التوسل صورة رائعة ساقها بطريقة مدهشة !

إني التجأتُ إليكِ الآن من وجعي

مدّي يديكِ وخِيطي الجرح واندملي

جرحي وإبرتُك الملساءُ معجزةٌ

تَخيطُ لحماً على عظمٍ لمحتملِ

فالحبيبة تخيط جرحاً هي هو ! يقول لها خيطي الجرح و( اندملي), فهي الجرح وهي الإبرة التي تخيطه، والحبيب هو المجروح حتى العظم، يتحمّل ألم الجرح وألم الخياطة ….!

الأفعال كما هو واضح أفعال إخبارية وأمر ( التجأت، تخيط، مدّي، خيطي ) , وسواها إنشائية ( اندملي، جرحي وإبرتك الملساء معجزة).

2. استعان بالصور والأخيلة التي تنقل المتلقي إلى أجواء يسرح فيها الخيال، أحيا فيها الطبيعة، وجسّد المجردات…في قصيدة (أحتاج إلى لغة أخرى )جعل القمر مخلوقاً لعينيها فقط، وجعل الكون إنساناً لا ينظر إلا إليها، يسجد لله على عظيم صنعه لها :

خلق اللهُ القمرَ الفضّيَّ

لعينيها

كي تنظرَ كلَّ مساءٍ فيه..

فيُبصِرَعينَيها الكونُ..

فيسجدَ لله على صُنعته

في قصيدة( اشتهاء ) جعل الشعر إنساناً طاهراً بطهارة نطفة نبي، تُنفخ فيه

الروح، ويُصلب كالمسيح، ليسكن في السماء …! أي خيال هذا…؟!

وعفٌ إن كتبتُ الشعر عفُّ

أطهّرُهُ كنطفةِ أنبياء

وأنفُخُهُ

بروحٍ من سحاب ٍ

وأصلُبُهُ

ليسكُنَ في السماء

3. أبرز الشاعر ذاته في كل القصائد، ونجح في التعبير عن عواطفه وأحاسيسه ورؤاه ونظرته الخاصة إلى القضايا .. في قصيدة ( حروب الردة في كربلاء الثانية ) يصف حال الأمة، مبرزاً رؤيته وموقفه، محاسباً كل من أسهم بانحطاطها :

يا أمّتي ..كيف الحضارةُ تُسْتَبى

من خان عهد أمانة ؟! .. من بدّدا؟

يا معقِلَ العلماء ِ كيف تبعثرتْ

كتب الحضارة في ثراكِ لتُوأَدا

جُثثُ الملوك القاهرين زَمانَهم

صارت دخاناً .. متحفّياً أسودا

موقفه من الجماعات الدينية المتطرّفة الذين ما استقاموا، بان هنا.. فهم أقزام عبيد:

حجّوا بسيّدهم وطافوا حوله

ظنّوا التنطّعَ في الخيامِ تعبّدا

والجامعُ الوسطيُّ يرجِع خطوةٌ

والغرّ إرهابيّ قاد المشهدا

خطباءُ مِنبَرِهِ العظيمُ تقزّموا

لا الجذع ُحنَّ ولا الخطاب تجدّدا

4. أما الموسيقى فقد أتى بها في قصائد القريض بالقافية المنتقاة بعناية فائقة لتلائم الموضوع، وفيما سواها بالموسيقى الداخلية، استخدم حرف القاف في قصيدة ( ليست بحاراً تنفلق )، وهو حرف قوي إن وجد في كلمة فإن هذه الكلمة تعني اسم لشيء مادي أو حسي قوي، فجاءت موسيقا القصيدة عالية النبرة قوية الوقع، أدت المطلوب منها في قصيدة قوية اللهجة غاضبة، فيها تقريع واستنكار .. لم يغفل الموسيقا الداخلية بل أتى بها منسجمة مع مضمون النص بدون كسور، وهذه كفة ثقيلة جداً في ميزان قدرات الشاعر الشعرية…

د – الموضوع أو الثيمة ومقاييس الدقة في الابداع الشعرى Theme and Poetic Creativity:

وهي الرسالة الإنسانية التي يضمّنها الشاعر في قصائده، بين الحروف والكلمات، ومن خلال استعراض الأفكار الجزئية التي تترابط فيما بينها لتكوين الفكرة الكلية، والشعر الذي يخلو من رسالة أو فكرة هو شعر تافه، لا ينظر له النقاد على أنه شعر، لا تقتصر قيمة المعنى على تعليمنا أمرأً من أمور المعرفة، بل تتعداها إلى قوة التأثير في النفس الإنسانية، وتلك غاية الأدب الأولى، أن يكون الأدب مؤثراً بفكرته ومعناه، من أبرز مقاييس نقد المعنى ما يلي:

1-مقياس الصحة والخطأ:

التزام الشاعر بالحقائق سواء أكانت تاريخية، أو لغوية، أو علمية، لأن خطأ الشاعر في حقيقة من هذه الحقائق يفسد شعره، ويخرجه من حيز الثقة و المقبولية عند الناس، وقد توخّى الشاعر الفذ /محمود حسن / الحذر في ذلك، فلم أقع- من خلال متابعتي النقدية للقصائد في هذا الديوان- على خطأ في الحقائق التاريخية واللغوية وحتى العلمية التي أوردها .. وهذا يعود بالطبع إلى ثقافته العالية في هذه المجالات، وحذره الملتزم، و في قصيدة (عشتار) حقيقة تاريخية يوردها الشاعر، نزلت عشتار عند راعٍ كان يذبح لها كل يوم شاةً طمعاً في الزواج منها، حتى إذا ما نفذت شياهه راح يسرق من غيره ليذبح لها، ثم تركته وانصرفت :

عشتار بين فيافي الأرض تنتقلُ

خمسون قرناً ولم يفتِكْ بها المللُ

راحت ْ غُنيماتُهُ الراعي بلا ثمنٍ

لحضنِ عشتارَ خبزُ الأرضِ يرتحلُ

وحقيقة علمية فقهية يذكرها في ( قصيدة محمد ):

إنّ السياقَ للأهل العلم قاعدةٌ

يا ليتهم أكملوا نصاً وما اجتزأوا

أهل العلم والفقه المخلصون يعملون على السياق، ولا يجتزئون من القرآن آيات تخدم أغراضهم فقط…

1. مقياس الجدة والابتكار :

لا يشترط أن يقدِّم الشاعر معانٍ شعرية جديدة، لم يتطرّق لها أحد قبله، فهذا شبه مستحيل، لكن المطلوب لكي يكون للمعاني الشعرية مكانة نقدية متميزة، أن تتصف بالطرافة والابتكار، بمعنى أن يتناول الشاعر معنىً مفيداً من المعاني فيقدّمه بأسلوب يبدو فيه جديداً أو كالجديد. فهل تحقق هذا في قصائد شاعرنا ؟ نعم تحقق ..!….عندما عنوَن قصائده بلفظة ( سفر )، سفر التوسّل وكان هذا الدمج بين قصيدة العشق وكتاب سماوي، وأقام الهيكل الجمالي والبنائي للقصيدة على روح وألفاظ الكتاب السماوي:

هذا نبيٌّ من القلبين أُرسلُه

سفر التوسّلِ في الألواح والنُّزُلِ

هذي نبوءة ُ قلبٍ لا أكذِّبُهُ

هُزّي إليكِ جذوعَ الوَجدِ واكتملي

( سفر قابيل)، حين عرض لقضية غدر الإنسان بأخيه الإنسان، أيضاً من خلال الاستنارة بكتاب سماوي:

قُربانُنا لله بعضُ نُبُوّةٍ

قابيلُ فاضربْ يمَّ حقدِكَ يُفلَقُ

وقوله

كيف انتبهنا والبنادق لعبةٌ

في يد أبناءِ العمومةِ تُطلَقُ

كثير من الشعراء أورَدوا معنى أن تكون القصيدة امرأة أو حبيبة، شاعرنا المبدع

جاء بهذا المعنى، لكن بقالب جداً مبتكر، جعل الكلام جنيناً متعسر الولادة في رحم

قصيدة، ليقرّ حقيقةً أرادها هو : القصيدة سيدة

إنَّ الكلامَ جميعُه متعسِّرٌ

إن تمنحيهِ الطلقَ نثبتُ مولده

فلقد رأيتُكِ

في القصيدة عقدة

ولقد عرفتكِ أمها المتعبِّدة

لغةٌ تغالب قيصراً

في ضعفها

وتشقُّ قلبَ

الشعرِ تفتحُ موصَدَه

يرقى

لينجبَ في السماء

بناتِهِ

وتقيمُ كعبتها

فيعرفُ مسجدَه

نسعى لقافيةٍ

تؤمُّ رجالها

… لا تعجبوا