قد يكون المقال أقرب إلى تقدير موقف استراتيجي؟
لا يوجد مكان على سطح الأرض بمنأى عن التأثر بالمتغيرات ومفاجئات الأحداث أو تقلب المناخ واضطراب الطبيعة، وذلك ينسحب على المناخ السياسي والحالة الاجتماعية. ولو أخذنا ما يدور على الساحة الليبية حاليا من انفلات أمني وانعدام الاستقرار المجتمعي، فهو أمر طبيعي للحالة التي خلفتها العاصفة الهوجاء من دمار وخراب على جميع البلدان العربية التي عصفت بها رياح التغيير.
وهنا لا بد لنا أن نعرج على اتفاق الصخيرات وهو” الاتفاق الذي شمل جميع أطراف الصراع في ليبيا، وقد تم توقيعه تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات في المغرب بتاريخ 17 ديسمبر عام 2015، وبإشراف المبعوث الأممي (مارتن كوبلر) لإنهاء الحرب الأهلية الليبية المندلعة منذ عام 2014، وقد بدأ العمل به في 6 أبريل 2016″. وقد تمخض عن هذا الاتفاق السياسي أربعة مبادئ رئيسية وهي: ضمان الحقوق الديمقراطية للشعب الليبي، والحاجة إلى حكومة توافقية تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات والرقابة والتوازن فيما بينها، وضرورة تمكين مؤسسات الدولة، كحكومة الوفاق الوطني، لتتمكن من معالجة التحديات الخطيرة في المستقبل، واحترام القضاء الليبي واستقلاله. حيث كان من المفترض أن يكون هذا الاتفاق الخطوة الأولى على طريق طويل نحو تعافي ليبيا وازدهارها.
أما السؤال لماذا انجرفت ليبيا، فالإجابة على السؤال ستفضح ما جرى ويجري معا؟
تطرأ الأحداث عندما تتوفر أسبابها وتجد دوافع مبررة وظروف موضوعية تسمح لظهورها في الواقع، ولعلّ جملة المسببات ما هو مستجد أو متراكم لم تتم إزالة عواقبه أو معالجة مخلفاته وتأثيره على السياسة الليبية داخليّا وإقليميا ودوليا. ومن هذه المسببات:
أولا. فتح أبواب ليبيا للجماعات الأصولية والإرهابية، بإيعاز مباشر من التنظيم الدولي لإخوان المسلمين ولمستوى إنشاء معسكرات تدريب وإيواء لتلك الجماعات، وقد نتج عن ذلك اعتبار ليبيا من الدول الداعمة للإرهاب وتحميل الشعب الليبي أوزار وأعباء أثقلت كاهله بسبب تلك السياسة الخاطئة من قبل حكومة الوفاق. الجدير بالذكر أن نشاط تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا كان قديما، حيث تعتبر ليبيا من أوائل البلدان العربية التي بدأ فيها نشر فكر الجماعة في الاربعينات من القرن العشرين، بيد أن أول عملية اغتيال سياسي في ليبيا وقعت عام 1954، حيث تم اغتيال ناظر الخاصية الملكية المدعو (إبراهيم الشلحي) المقرب من الملك، ومن ثم ليترتب عن هذا الأمر إصدار الملك أمر يمنع بموجبه جماعة الإخوان المسلمين من ممارسة أي نشاط سياسي لاتهام القاتل علاقته بالجماعة.
ثانيا. التدخل التركي في ليبيا، هذا يظهر بوضوح في تصريحات الرئيس التركي أردوغان وتحديدا في أبريل 2019، والذي أكد خلاله” أن بلاده ستُسخر كافة إمكانياتها وستقف بحزم لمنع وبحسب وصفه المؤامرة التي تحاك على ليبيا واستقرارها، وأن تركيا تندد وتستنكر الاعتداء الذي يشن على العاصمة طرابلس؟!، هذا التصريح قد أثار جدلا كبيرا وطرح السؤال الأهم: ما هو الدافع السياسي الذي يدعو رئيس الدولة العضو في حلف الناتو لمثل هذه التصريحات، وما هي العلاقة الجيوسياسة بين طرابلس وأنقرة، وتاريخ التدخل الأردوغاني في ليبيا؟!”
أولا. النقطة الأبرز في التدخل التركي في ليبيا، فهو يمثل أحد صفحات المؤامرة الإخوانية على مصر.
ثانيا. فشل مساعي أردوغان في السيطرة على جزيرة سواكن الواقعة في البحر الأحمر شرقي السودان، التي سعت تركيا للسيطرة عليها لتتولى لإعادة تأهيلها وإدارتها لفترة زمنية غير محددة.
ثالثا. مساعي أردوغان الدائمة وبكل الطرق إجهاض أي مشروع عري توحيدي، ولعل عداءه للمحور العربي (المملكة العربية السعودية ومصر والأمارات) خير دليل على ذلك.
تغيرات الدور التركي:
شهد الدور التركي مؤخرًا تغيرات حادة داخليا وخارجيا، وهو الأمر الذي انعكس على سياسة أردوغان التي تبدو وكأنها محاولة لإنقاذ موقفه، وتتمثل هذه التغيرات في:
1. خسارة حزب (العدالة والتنمية) الحاكم، وفوز المعارضة التركية في الانتخابات المحلية الأخيرة وتحديدا في العاصمة (أنقرة وأزمير)، وهو ما يمثل انعطافه جديدة وقوية في الخارطة السياسية التركية، التي بالتأكيد ستكون لها تداعيات أخرى مستقبلا، لكن من البديهي أن أردوغان سيقضي على كل من يعارضه.
2. التراجع التركي في سوريا وتحديدا في مدينتي (منبج) (وأدلب)
3. من خلال قراءة الواقع السياسي الدولي، يتضح أن أردوغان رصيده الدولي يتضاءل، لأنه غير واضح تجاه المشاريع الأمريكية في المنطقة، وتقتصر شعبيته على جماعة الإخوان المسلمين.
4. مكانة السياسي (جولن) في تركيا، فهو كيان مواز لحكم أردوغان لا يُستهان به ويمتع بنفوذ كبير داخل وخارج تركيا ومدعوم أمريكيا واوربيا.
البُعد التوسعي:
أما فيما يخص التدخل التركي في ليبيا حديثا كان أم قديما، ففي أواخر أكتوبر عام 2014م، التقى مبعوث الرئيس التركي المدعو (أمر الله إيشلر)، علنا بـ (عمر الحاسي)، رئيس حكومة الميليشيات في طرابلس، وقد صرح إيشلر بأن تركيا سوف تستأنف رحلاتها إلى مدينة مصراتة الليبية الخاضعة لسيطرة الميليشيات (فجر ليبيا)، ومن المعروف أن كل من جماعة فجر ليبيا وجماعة أنصار الشريعة هم عبارة عن ميليشيات إرهابية خارجة عن القانون.
وبالتالي فالموضوع أكبر من مجرد تصريحات من هنا وهناك، أو عبارات تنديد أو استنكار، فالقضية في جوهرها مؤامرة كبيرة يقودها التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ومن خلفهم الذين يسعون إلى تدمير الأمة العربية والقضاء على مصالحها العليا، مستخدمين شتى أساليبهم وعقائدهم الإرهابية. بيد أن التحولات التي يشهدها الشرق الأوسط خلال الآونة الأخيرة فرضت سياسات جديدة محكومة بأدوار جديدة، وهو ما رسم خريطة التحركات الجديدة لمواجهة المشروع التخريبي وذلك من خلال التطورات والتداعيات، حيث جاء الدور المصري وبروز القاهرة وإمساكها بخيوط المشهد ليقلب موازين المعادلة السياسية بالمنطقة، واستطاعت مصر أن تسقط المؤامرة الإخوانية والمشروع التوسعي التركي.