18 ديسمبر، 2024 6:20 م

التداخل الفكري والسياسي والسلطوية الحاكمة والسبات العقيدي المخدر

التداخل الفكري والسياسي والسلطوية الحاكمة والسبات العقيدي المخدر

المخدرات المعنوية التي يدفن الإنسان نفسه بين جوانحها، ويدمن الإنسان عليها º من عادات وأعراف، وتقاليد وأفكار، وعقائد وطقوس، وشعائر ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تعتمد على أي استدلال عقلي أو نقلي، وليس لها من أثار إلا الضرر والإضرار، ولا تسخر إلا لحجب المعلومات عن الفكر بغية تجفيف منابع المعرفة لديه ليسهل اصطيادهº عبر تنومه مغناطيسياً، أو غسله دماغياًº تماماً كما يفعلوه الصيادون مع الكروان، حيث تقول الأسطورة: أنهم إذا قالوا للكروان: \”أطرق كرى، أطرق كرى، إن النعام في القرى، أغاثكم في أرضنا ما استنثرى، ما استنفرى\” حينئذ ألتصق الطائر بالأرض مصدقاً حتى يتناوله الصيادون بأيدهم.

هذه هي الغاية من المخدرات المعنوية لتنام ويسهل اصطيادك، إنها السموم المتوارثة التي يرثها الجيل اللاحق عن الجيل السابق دون تبصر أو تفحص، ودون تحليل علمي، أو محاكمة عقلية، أو استدلال شرعي، حيث تعطل هذه السموم المتوارثة قوى الإنسان، وتشل تفكيره، وتمنعه من الانتفاع بعقله، وتجعله دمية يتلاعب بها ذوي المصالح، وتحوله إلى كرة يركلها اللاعبون الكبار بأقدامهم في الملاعب الدينية أو الدنيوية على حد سواء، فلا فرق أيها الأخوة بين أن تعطى جرعة من مخدر محسوس من المخدرات أو المسكرات، وبين أن تعطى جرعة من مخدر معنوي من توجه مسموم، أو إرشاد مغلوط، أو تربية مقلوبة، فالنوعان ينومانك، ويمنعانك من أداء واجبك، ويعطلان فكرك، ويستولى بهما على إرادتك، ويفتح بهما المجال لعدوك أياً كان هذا العدو، سواء كان عدو دينك، أو عدو عقيدتك، وسواء كان عدو شعبك أو عدو أرضك وعرضك، عدو وحدتك أو عدو قوتك واقتصادك، عدو ماضيك أو عدو حاضرك ومستقبلك، عدو علمك أو عدو علمك وتبصرك، عدو ثقافتك أو عدو أخلاقك وسلوكك، هذا العدو الذي لا يهمه ألا أن تنام لتخلي له الساحة، وتفرغ له الميدان، العدو الذي يضرب بيده على ظهرك مربتاً ولسان حاله يقول:

نعم إن المخدرات المعنوية، والسموم الفكريةº هي كالسموم المادية والمخدرات المحسوسة في كونهما يعطلان العقل، ويمنعان من التحليل الصحيح وإدراك الأمور، وترجيح الحق والصواب على الخطأ والباطل، بل هذه المعنوية أشد من تلك المحسوسة، لأن من يتعاطى المخدرات المحسوسة يشعر بأنه مريض، وأن عليه أن يتعافى يوماً، ويؤنبه ضميره، ويشعر بين الحين والآخر أنه مجرم مذنب عاص، وأن عليه يوماً أن يتوب ويقلع، وهذا يعني أن أية فرصة في حياته هي مرشحة للإقلاع عن هذه المخدرات المادية والمحسوسة، وهي وإن أثرت فربما تؤثر على شخص أو جيل من المجتمع أو أكثر ولكن في النهاية ستزول أسباب الإدمان، وتخرق صفوف التجار الذين لا يعملون إلا في الظلام، إضافة إلى أن تجار المخدرات المعنوية لا يعملون كتجار المخدرات المادية في الظلام، إنه يعملون جهراً، تجار المخدرات المعنوية يعملون جهراً وعلى مرأى ومسمع من المجتمع والناس، يبيعون بضاعتهم جهاراً، وربما سلطت عليهم الأضواء ليكون هم سادةً في مجتمعاتهم، وقادة في أحيائهم، وليكونوا أسوة لغيرهم، وكذلك فإن المخدرات المعنوية تؤثر على عشرات الأجيال والأمم لأن قوتها في ذاتها، واستمراريتها في داخلها، ودوامها في تركيبتها، حيث لا يرى المدمن عليها نفسه إلا معافى، وفي قمة الاستقامة والشرف والطاعة، وهو على استعداد أن يضحي بكل غال ورخيص من أجل استمرار هذه المخدرات المعنوية لأنه يراها إرث الآباء والأجداد الذي ينبغي له أن يحافظ عليه، ويوصل نفعه إلى أحفاده كما انتفع به أجداده، وانتفع هو بها فيما بعد، ولذلك لو شعر هذا الرجل في يوم ما بضرر هذه المخدرات المعنوية فهو لا يستطيع أن يترفع عن تعاطيها، أو أن يترك الإدمان عليها لأنها تراث الأجداد، لذا تراه كالنعامة يدفن رأسه في الرمال خشية من الحقيقة، لأنه يرى أية محاكمة لهذه المخدرات المعنوية هي محاكمة لآبائه وأجداده الذين ورث عنهم هذا المخدر أو ذاك، وكم من جيل – أيها الأخوة -º وكم من مجتمعات، كم من أمم لا زالت مخدرة بفعل السموم التي زرعت بذرتها الأولى جدهم الأول، ولازالت الأجيال من بعد تسقيها وتتعهدها حتى صار إخطبوط يخنق أنفاس هذا الجيل، أو كابوساً يقبع على صدر ذلك الجيل أو هذا.

وإذا كان البحث في المخدرات المعنوية يحتاج إلى حلقات كثيرة ومتعددة فهذا لا يعفينا من مسؤوليتنا، ولا يمنعنا من البحث في الأهم منها، والأقرب منها إلى واقعنا، فتعالوا لنقف أيها الأخوة مع المخدرات في مجال العقيدة:

أيها الأخوة: نحن نرى أن الله – عز وجل – أعطى الإنسان العقل والإدراك والتميز، ومكنه عبر حواسه الخمسة من المقارنة بين الأشياء، وتلقي المعلوماتº ليتمكن من الخروج بنتيجة صحيحة في علاقته مع الله والآخرة، عبر محاكمة عقلية صحيحة سليمة صافية بعيدة كل البعد عن كل مؤثر أو تراث للأباء والأجداد، ولا شك أن هذه الفرصة الذهبية لو منحت وهيأت لأي إنسان فإنه سيهتدي إلى العقيدة الصحيحة التي تنجيه في الدنيا والآخرة، لأنه سيعلم بالتأكيد وفطرته السليمة ستملي عليه أن الله – سبحانه وتعالى – هو خالق كل شيء، وعلى كل شيء قدير، وأن الله هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وسيعلم أيضاً أن الله وحده هو وحده الذي يرفع إليه الحوائج، وهو وحده الذي يدعى ويستغاث به ويستعان، وهو الذي يعبد وينسك له، وأن الذين من دون الله لا يملكون من قطمير، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا حياة ولا نشوراً، وأن مقاليد الأمور بيد الله لم يوكلها إلى غيره، لا إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، ولا إلى ولي صالح، وليس بالإمكان إلا ما قدر الله له أن يكون، ولو أن الإنس والجن على رجل واحد لينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وعلى العكس فلو اجتمعوا على رجل واحد ليضروه لم ضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت الأقلام، وجفت الصحف، ولكن مع هذا آلا ترون أن ثمة عباداً لله مخدرين – وسبحان الله عما يشركون – لازالوا يرون ويعتقدون أن الله ثالث ثلاثة، أو أن لله زوجة، أو أن لله ولداً، أو أن الله حل في أحد، أو تجسد في أحد، أو اتحد بأحد، آلا تجدون ثمة عباداً لله مخدرين حتى من بين الذين يدعون الإسلام، وحتى في مجتمعاتكم، آلا تجدون أن هناك مخدرين لازالوا يرون ويعتقدون أن غير الله يعطي ويمنع، أو يوصل ويقطع، أو يفرق ويجمع، أو يضر وينفع – سبحان ربي عما يشركون وتعالى، وعما يقوله المخدرون -.

وأكثر من هذا نحن نجد في هذا العصر عصر العلم والتكنولوجيا والوعي العلمي لازلنا نجد أناساً يعكفون على أصنام من حجر، أو شجر، أو بشر، ولازلنا نرى آخرين يعبدون ويقدسون النار أو البقر، أو يسجدون للشمس أو القمرº مع أن الكثير منهم علماء في مجالات محددة من مجالات الحياة وعلوم العصر، ومع ذلك تجدون أن أذان قلوبهم مغلقة، وأعين بصائرهم مطموسة، وساحة أفقهم مقفلة، صم بكم عمي فهم لا يبصرون، ولا يعقلون، ولا يرجعون، بل ربما تجدوا أن كل واحد من هؤلاء المخدرين يستغل العلم – وأقصد بالعلم معلوماته هو لا العلم المجرد الذي لا يؤدي إلا للحق – من أجل إقرار عقيدته الباطلة التي ورثها عن أبويه، ذلك لأنه مازال متأثراً بالتربية الأولى التي تلقاها على يد أبويه، ولازال مخدراً بالجرعة الأولى التي حقن بها من قبل مربيه أو مجتمعه أو كهان دينه الذين على أعتابهم تتكسر أمواج كل الحقائق مرتدة من حيث أتت، وصدق رسول الله – صلوات الله عليه وسلامه -: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، ولهذا فإن الشريحة المخدرة من البشر حين لا تتمكن من التلاعب بالمفاهيم العلمية، ولا تسعفها حيلها لتتلاعب بأذهان الناسº لا ترى بداً من الالتجاء إلى الآباء والأجداد، لتنام مخدرة في أحضانهم، باحثة عن السلامة في ظلهم، معتصمة بعظام أجدادهم التي رمت، قائلين: (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإن على آثارهم مهتدون ))، (( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا آو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون))، ((وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون))، الله أكبر إنه السكر والخدر، يأتيهم الحق فيدعونه لا لشيء سوى أنه مخالف لما كان عليه آباءهم وأجدادهم (( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ( لا كل شيء إلا الاستغناء عن تراث الآباء والأجداد ولذلك قالوا ) إنا بما أرسلتم به كافرون ))، ألم أقل لكم أنه السكر والخدر يأتيهم الحق فيدعونه ويرفضونه لا لشيء سوى أنه مخالف لما كان عليه آباءهم وأجدادهم، أولو كان آباؤهم لا يعقلون، فبالله عليك أليس هؤلاء مخدرين، معطلة عقولهم، على قلوبهم أقفالها، بلى والله، ولذلك تعال معي لتتأكد أن هؤلاء ذوي قلوب مخدرة، فهم يوم جاءهم الحق وجاءهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدعوة التوحيد، ونهاهم عن عبادة الأصنام الذين كانوا عليها عاكفين تقليداً لآبائهم وأجدادهم قالوا: ((اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم))، أليس هؤلاء أقواماً مخدرين، يقولون: إن كانت دعوة محمد حقاً فأمطر علينا حجارة, لمَ لم يقولوا: إن كانت دعوة محمد حقاً فاهدنا إليها، اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لكن يوم تكون مخدراً ترفض كل ما لم يكن عليه أبوك أو جدك، ستقول أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، وهكذا لما جاء الإسلام ووجد القوم نائمين في ظلال قبور أجدادهم، يفعلون ما يفعلونº دون تبصر أو روية، أو استعمال عقل أو إشغال فكرº اعتبرهم الإسلام مرضى، فلم يعنفهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولم يعاملهم بالكره والقسوة، بل حاول إيقاظهم من سباتهم برفق، وتنبيههم من غفلتهم بلين، وتخليص عقولهم من جرعات المخدر التي حقنها الأجداد في رؤوسهم، وغسلوا بها أدمغتهم، فدعاهم الإسلام ليتفكروا ويتأملوا، ويتدبروا ويسألوا أنفسهم، ويراجعوا حساباتهمº هل ما اعتبروه عقيدة لهم هل تصلح حقاً أن تكون عقيدة، وهل ما اعتبروه عادات أو تقاليد أو خطوط حمراء لا يمكن مجاوزتها هي حقاً كذلك، وهل عبادتهم للحجر، وتقديسهم للشجر، وتألههم للبشرº يرضى عنه العقل السليم، والفكر السديد، لقد حث الإسلام على أن يجيب المشركون المخدرون على هذه الأسئلة بروية، ومن خلال إعمال الفكر والحجة، والمنطق والتأمل، والتدبر والإدراك الحسيº بعيداً عن تجربة الآباء ومؤثراتهم، وتراث الأجداد وعاداتهم، وتعال أخي المؤمن لتسمع معي وترى هذا المشهد الذي اعتبره الإسلام نموذجاً حث المسلمين على أن يقتدوا به، إنها صورة إبراهيم: ((قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه )) الآيات التي تصور المشهد تقول: (( واتلُ عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ))، وقد دعانا ربنا لأن نجعله أسوة لنا إلا استغفاره لأبيه يوم بيّن عذره فقال: ((ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم)) ماذا فعل إبراهيم – عليه السلام – قال لأبيه وقومه وخاطبهم بالحكمة، ووضعهم أمام محاكمات عقلية، قال وهو يعلم لكنه يريد الجواب منهم، يريد أن يلزمهم الحجة: ما تعبدون؟ قالوا: نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين!! حينئذ سألهم وهو يتضمن مبرر عبادتهم: هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون؟ ما هي مبررات عبادتكم لهذه الأصنام وهي حجارة أو أخشاب لا تسمعكم يوم تدعونها، ولا تضركم أو تنفعكم، بل هي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، ويوم لم يملكوا جواباً لإبراهيم على وفق هذه المحاكمة العقلية التي جعلتهم في موقف حرج لم يجدوا لهم مجالاً إلا أن يعتصموا ويتمسكوا – كما يفعله اليوم بعض من المسلمين – لم يجدوا لهم مجالاً إلا أن يتمسكوا بعظام أجدادهم التي رمت فقالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون!! فهل تظن أن آباءنا مخطئين، أليس هم أعلم منا، وكأن الآباء والأجداد معصومين، قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، وبعد أن ناقشهم وجادلهم إبراهيم بالتي هي أحسن وهم لا يزدادون إلا تمسكاً بأصنامهم وعظام أجدادهم حينئذ لم يجد سيدنا إبراهيم مجالاً إلا أن يظهر موقفه فقال: (( أفرأيتم ما تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ))، ثم بين لهم لما استثنى رب العالمين من معبوداتهم لأنه هو الذي خلقني فهو يهدين، والذي يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، ثم بدأ يدعو: رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لأبي إنه كان من الضالين، ولم يقف سيدنا إبراهيم موقفهم فقال: أنا أيضاً سأتبع أبي، إنما دعا لأبيه حتى يهديه الله (( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم )).

أخي يا من طالبك الله بأن تتخذ من إبراهيم أسوة، هل تستطيع أن تقول لأمتك أو لمجتمعك أو لحيك أو لأسرتك أو لقومك أو لأبويك هل بإمكانك أن تقول مثل ما قال إبراهيم بعد أن جادلهم، وبعدما ألزمهم الحجة فاستمروا على عنادهم، وتمسكوا بعظمائهم وآبائهم وأجدادهم وساداتهم وكبرائهم، هل تستطيع أن تقول: (( أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ))، إن كنت تستطيع أن تمارس هذا الدور فأنت عاقل صاح مدرك، واشكر الله على أنك على قدم الموحدين من الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين، وأرجو الله أن تكون معهم يوم الدين، وإن لم تستطع أن تقول كما قال إبراهيم فأنت مخدر كقومك، وأنت مأخوذ، والعرب يقولون: [المأخوذ ما يسمع صياح ]، إنه مثل عربي يوم كانت القبائل تغزو بعضها بعضاً، ويأتي النذير ليخبر القوم بأن العدو مصبحهم فمن صدق النذير رحل في الليل، ومن يقول: أن النذير يكذب يمكث في مكانه، فلا تشرق الشمس إلا والقوم فوقهم غازين، ولذلك تقول العرب: إن من كتب الله له أن يأخذ، ويتلف ماله، وتنهب ثروتهº لا يسمع الصياح، إنه يسمع لكنه لا يدرك، مخدر لا يستوعب، ولذلك لا يستجيب النداء.

أن المخدرات المقصودة في مقالنا هي ليست التركيبة المادية الطبيعية او الصناعية او الزراعية المتداولة عند المدمنين بل هي التركيبة الفكرية العقائدية او الدينية التي يؤدي الادمان عليها ترك آثار سيئة على نفسية وعقلية الإنسان بشكل مدمر حتى لو كانت عادات أجتماعية جميلة طالما تلتقي في مستوى أضرارها مع المخدرات الزراعية او الصناعية حتى لو كان دين او معتقد يسلب عقل الإنسان ويحوله الى دابة تمشي على الارض بهيئة إنسان ، المخدرات بشكل عام تسلب إرادة الإنسان وتسلب تفكيره وتحطم كيانه والمجتمعات قاطبة تشعر بالقرف من نتائجه السلبية على الإنسان ، لذلك تسعى الأمم الى محاربته ومنعه وتشكيل حملات توعية لتجنب تداوله وتبيان الاضرار التي تسببها هذه المواد السامة ولكن عندما يتحول الدين او المعتقد او السلوك المجتمعي الى شيء سيء سلبي في تأثيره بشكل أسوأ من المخدرات فهنا الطامة الكبرى وهنا نرى للأسف الحكومات المنحرفة المسلوبة الارادة تسارع الى تشريع القوانين لحمايته وتقديسه وإعطائه الف تبرير إيجابي لوجوده وفتح عشرات القنوات التلفزيونية في خدمة هذا المخدر والتشجيع عليه ورفده بكل المكملات الحسنى لدعم هذا المصنع الذي يودي بالنهاية بحياة وعقلية الفرد والمجتمع سوية الى الهلاك بشكل يفوق المخدرات الطبيعية بمليون مرة ، ماهذا التناقض في عقول الناس ماهذه الازدواجية في المعايير ، ماهذا الانبطاح امام أسوأ آفة تغزو العقول . لسنا ممن يتهم الاديان بالسوء وتشبيهها بالمخدرات ولكن المروجين المتخفين وراء الدين والمستفيدين من قشور الدين هؤلاء استطاعوا بحرفية عالية من تحويل الدين الى مخدرات في عقول الناس وسموم مبيدة لجمالية الحياة و مورد يدر عليهم الأموال وهؤلاء بالأساس عديمي الاخلاق فعملوا على استخدام الدين أسوأ استخدام فحصدوا ثمار جهدهم ولكن على حساب تدمير عقول الناس وإدمانهم على الخزعبلات ، وكذلك بعض العادات الاجتماعية السيئة والموروثات العقيمة لا يستطيع الناس التخلص منها لأن الكبار والمسنين والشيوخ الممسوخة عقولهم يعتبرونها من القيم الاجتماعية المعتبرة فيزقونها عنوة في عقول الصغار الابرار لكي يتربوا عليها وما أكثر هذه المخدرات في مجتمعاتنا ، وأي تفكير في التمرد عليها يعني وضع النفس في خطر يعني التمرد على المجتمع نفسه يعني انك رضيت لنفسك ان تكون منبوذاً ، فأنا لا أستغرب عندما أجد في مثل هذه المجتمعات المثقف والواعي هو أسوأ الناس حظاً وأقلهم قيمة و انعزالا بسبب إدراكهم لهذه الحقائق . هذه المخدرات الفكرية العقائدية استطاعت الدخول الى البيوت الآمنة وحولته الى مستنقعات للتخلف فنادراً ما تجد بيتاً نجا من هذا الوباء القاتل ، والمبتلي بهذا الوباء يصبح هو بدوره مبشراً له و مستميت في الدفاع عنه ومروجاً له بقوة . هذه الحقيقة جعلت المثقفين في وادي الضياع والعجز التام لفعل اي شيء فعال لمواجهة دعاة هذا الوباء . إنها أكبر مشكلة في العصر الحديث عصر العلم والتكنلوجيا ان ترى الخرافة لها اليد الطولى في مجتمع مثل مجتمعنا . تراها اي الخرافة تسرح وتمرح في عقول الناس دون رقيب او مصد ، وكأن الثقافة والعلم أصبحت هي العلة وهي المشكلة وهي التي يجب التوعية ضدها وهي التي يجب استئصالها من عقول الناس ، أصوات العقلاء بحت واقلامهم جفت ولا من تغيير .

ان أكبر إبتلاء يعاني منه المثقف الواعي اليوم هو هذا الداء العضال ولابد للعقل ان يقول كلمته مهما ضعف ومهما استكان فهو يبقى الرهان الاول والاخير للإنسان ، هذا العقل الذي حرر الناس من دهاليز الظلام لابد ان يقول كلمته وعليه ان ينطق ويصرخ فالحياة لا تطاق مع إلغاء دور العقل .

من المحزن ان ترى دعاة التخلف يتحدثون عن الجاهلية في التأريخ القديم ، وياليتهم عادوا لتلك الجاهلية لعرفوا معنى الجاهلية .

آثار المخدرات المدمرة على الإنسان والمجتمع

تشغل مشكلة تعاطي المخدرات العالم أجمع لما لها من أثر تدميري على المجتمعات وعاملًا رئيسيًا في الكثير من المشاكل الاجتماعية والأمنية والاقتصادية والصحية، دفعت الدول لبذل الكثير من الجهد والمال لمحاربة انتشارها، تجنبًا لما ينتج عن آثار المخدرات على الفرد والمجتمع.

وتدفع ضغوط الحياة ومشاكلها العديد من الأشخاص للهروب من الواقع الذي يعيشونه بأي شكل ممكن، ومحاولة تجنب الحياة مع تلك الضغوط بتغييب العقل، وربما يكون في المواد المخدرة أو الكحوليات ما يتصوره هؤلاء مخرج لأزمتهم.

وليست ضغوط الحياة فقط هي الدافع وراء تعاطي المخدرات، فأحيانًا يكون البحث عن سعادة مفقودة سببًا رئيسيًا للإدمان، يعتقد الإنسان أنه بتغييب عقله قد يحصل على هذه السعادة.

و يؤدي إدمان تعاطي المخدرات لحدوث أضرار بالغة على الصحة العامة للإنسان وخاصة قواه العقلية، حيث تحول المخدرات المدمن لشخص يصبح عبئاً على نفسه وعلى أسرته وعلى المجتمع ككل، وسوف نتناول في هذا المقال أهم آثار المخدرات على الإنسان، فكلما زاد الوعي بهذه الآثار كلما ساهم ذلك في الابتعاد عن الإدمان.

آثار المخدرات على الإنسان

من أهم آثار المخدرات هو ما ينتج عنها من غياب للعقل واضطراب الإدراك الحسي، وانخفاض المستوى الذهني والكفاءة العقلية، حيث يؤدي إدمان المخدرات إلى :

حدوث التهابات في خلايا المخ وتآكلها، مما يؤدي إلى فقدان الذاكرة، والهلوسة السمعية والبصرية والعقلية في أحيان كثيرة.

حدوث اضطرابات شديدة في القلب ينتج عنها تعرض المدمن لذبحة صدرية وانفجار في شرايين القلب.

يؤدي تعاطي المخدرات أيضًا إلى حدوث اضطرابات في الجهاز الهضمي وتليف في الكبد.

يسبب تعاطي المخدرات حدوث التهاب المعدة المزمن، كما يسبب التهاب في غدة البنكرياس وتوقفها عن عملها.

من آثار المخدرات كذلك أن يتحول المدمن لشخص عدواني لديه رغبة شديدة في الحصول على جرعة المخدر أو المال اللازم لشرائها مهما تكلف الأمر.

بالإضافة إلى ذلك، فإن المخدرات تحول متعاطيها لشخص انطوائي يحب العزلة، ويفضل تجنب الآخرين.

من آثار الإدمان النفسية أن يصاب المدمن بالاكتئاب أو ما يعرف بسوداوية الفكر، كما أنه يكون دائم القلق والتوتر والخوف من أبسط الأشياء.

آثار المخدرات على المجتمع

الإدمان والأسرة

من أخطر آثار المخدرات هو ما تؤدي إليه من تفكك أسري، حيث تكثر الخلافات الأسرية بسبب كثرة المتطلبات المالية للمدمن كي يحصل على كفايته من المواد المخدرة، مما يؤثر على الحالة الاقتصادية للأسرة، وقد رُصد في العديد من الحالات تحول أسر ميسورة الحال إلى أسر فقيرة تطلب العون من الآخرين، بسبب وجود فرد مدمن بداخلها.

بالإضافة إلى ذلك، قد يقوم مدمن المخدرات بالإقدام على أفعال مشينة، كالاعتداءات الجنسية على أفراد أسرته بسبب غياب عقله.

من الآثار المدمرة أسريًا التي تنتج عن الإدمان أيضًا، هو وقوع الطلاق بين الزوجين بسبب إدمان أحدهما للمخدرات، أو بسبب الخلافات التي تحدث بينهما حال اكتشاف وقوع أحد أبنائهما في فخ الإدمان.

الإدمان والمجتمع

كل ما سبق ذكره من آثار المخدرات السلبية في أسرة واحدة، إذا تكرر حدوثه في مجتمع ما، سيكون نتاج ذلك بالطبع مجتمع ضعيف وغير مترابط، قليل الإنتاج، معدوم الأمن، تشاع فيه الجريمة والأفعال الفاحشة.

ونرصد فيما يلي أهم آثار المخدرات مجتمعيًا:

يعتبر إدمان المخدرات أحد أهم العوامل لانتشار البطالة.

تعاطي المخدرات هو أحد عوامل انتشار الجرائم في المجتمعات، حيث بينت دراسة قام بها المعهد الوطني الأمريكي لدراسة الإدمان أن 70% من السجناء بالولايات المتحدة الأمريكية قد قاموا بتعاطي المخدرات بشكل منتظم قبل سجنهم، وأن 1 من أصل 4 سجناء من مرتكبي جرائم عنف ارتكبوا جرائمهم تحت تأثير المخدرات.

كثرة حوادث السرقة والقتل، فقد يلجأ المدمن إلى السرقة وربما القتل أحيانًا حين يفتقر إلى المال اللازم لشراء حاجته من المخدرات.

العقل السلطوي ومحاولات تطويع الدين

ربما كانت إحدى مبررات وضرورات إطلاق حركة الاجتهاد الكلامي هي مساهمة هذه الحركة في فك الاشتباك بين العقيدي والسياسي، هذا التشابك الذي ترك تأثيره وبصماته على علم الكلام، ومع ذلك فلم يتم درسه بشكل وافٍ ـ في حدود إطلاعنا ـ بما يكشف ويفضح دور السياسة في صياغة الكثير من المقولات الكلامية.

تشابك العقيدي والسياسي:

ونلاحظ أن مسألة الخلافة أو الإمامة لم تكن هي المسألة الوحيدة التي اشتبك فيها السياسي والكلامي وتداخل فيها الديني بالدنيوي ولعبت الأهواء السياسية المختلفة في صياغة نظرياتها الكلامية أو الفقهية، بل إن تأثير السياسية ودورها بادٍ في الكثير من المفاهيم الاعتقادية من قبيل: “عقيدة الجبر”، “إطاعة السلطان ولو كان جائراً”، “عدالة الصحابة”، “فكرة الإرجاء”، “مفهوم الاعتزال” إلى غير ذلك…

وطبيعي أنه لا يمكن التنكر للعلاقة الوطيدة بين السياسي والديني لا سيما عندما نضع في الحسبان ديناً كالإسلام الذي يؤكد على عدم الفصل بين الدين وشؤون الحياة، إلاّ أن الأمر المستغرب هو انقلاب المعادلة التي أرساها رسول الله(ص) في علاقة الدين بالسياسة، فبدل أن يلعب الدين دور الموجه للسياسة والراسم لخطوطها العريضة، إذا به يتحول إلى أداة طيّعة في خدمة السياسية وأهدافها الضيقة.

السلطة وعلماء البلاط:

وإن اتكاء العقل السلطوي على الدين واستغلال مفاهيمه ليس بالأمر المستجد، وإنّما هو أمر عرفته البشرية منذ القديم، منذ أن أدرك السلطان أهمية الدين وموقعه في النفوس وأدرك ـ تالياً ـ أن المعركة المباشرة والمعلنة مع الدين فاشلة أو غير مضمونة النتائج، لذا التجأ إلى أسلوب المراوغة والدهاء فعمل على استمالة علماء الدين وسعى لتجنيدهم وتوظيفهم في بلاطه، في محاولة لاستيعاب الجماهير المتدينة وإضفاء “المشروعية” على ملكه وسلطانه.

وهذا تاريخ الأنبياء ماثل أمامنا، فقد كانت محاولات الإغراء والاستيعاب تسبق قرار المواجهة والصدام بين مشروع النبي الهادف إلى تحرير الإنسان من عبودية غير الله، ومشروع السلطة المستبدة التي كانت على الدوام تعمل على تسخير الناس واستعبادهم على حد تعبير نبي الله موسى(ع)، مخاطباً فرعون {وتلك نعمة تمنّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل}(الشعراء:22) ألم يحاول المشركون إغراء رسول الله(ص) بكافة المغريات بعد عجزهم عن ثنيه في المضي والاستمرار بالدعوة؟ وقد حمل إليه عمه أبو طالب ما عرضوه عليه من مغريات سخية كتزويجه أفضل نسائهم ومنحه المال الوفير والملك الكبير مقابل التخلي عن الدعوة إلى الله الواحد الأحد وكان جوابه الخالد “يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته”(تاريخ الطبري2/67).

ولئن فشلت السلطة في سعيها لاستيعاب الأنبياء فإنها لم تفشل في استيعاب الكثير من تجار الدين ممن عرفوا بـ “وعاظ السلاطين” بل إنها نجحت في توظيفهم في بلاطها ليقوموا بتلميع صورة الحاكم وإضفاء “الشرعية” على حكمه.

السلطة ومواجهة الدين بالدين:

ولعل ما هو أخطر من دور الاستيعاب هذا: ما حاولته السلطة وعملت له بدهاء ومكر من محاولة تزوير المفاهيم الدينية أو تحريفها أو تفسيرها بما يخدم أهدافها، فقد أدرك العقل السلطوي أن مواجهة الدين بالكفر والإلحاد هي معركة خاسرة، كما أن توظيف بعض “رجال الدين” في بلاط السلطان لا يكفي للحد من فاعلية الدين وتأثيره في النفوس فكان الأسلوب الأجدى الذي اهتدت إليه السلطة هو العمل على تفريغ الدين من مضامينه بتأويل نصوصه والتلاعب بمفاهيمه واستغلالها بما يمكن أن نطلق عليه معركة: مواجهة الدين بالدين، أو معركة التأويل، التي يصعب فيها تميز الحق من الباطل، خلافاً لمعركة التنزيل التي يُسْفِر فيها الباطل عن وجهه ويبرز لمواجهة الحق.

في الأهداف:

إن ما ترمي إليه سلطة الاستبداد من وراء محاولاتها الرامية إلى تطويع الدين وتأويل نصوصه واستيعاب رجالاته:

ترويض الأمة:

إن أغلى أماني الحاكم المستبد أن ينجح في تطويع الأمة وترويضها، لتكون رهن إرادته منقادة لمشيئته، وقد كان إعلام السلطة وكهنوتها الديني يُسَوِّق لحالة الترويض هذه من خلال تصوير الحاكم على أنه ظل الله على الأرض يرضى الله لرضاه ويغضب لغضبه، وربما استعيض عن هذا المفهوم في العصر الإسلامي بمفهوم “إطاعة السلطان حتى لو كان جائراً” وقد تمّ تحشيد الكثير من العناصر والمؤيدات لتأكيد مفهوم الطاعة المطلقة للسلطان وعدم جواز الرد عليه، من قبيل توظيف مقولة “الاجماع” و”عدم جواز شق عصا الأمة”، مما تكلمنا عنه في بعض المقالات السابقة تحت عنوان “مقولة الاجماع والتوظيف السياسي”.

التخدير والتبرير:

لعل أكثر ما يقلق ويخيف سلطة الاستبداد في الإنسان هو عنصرا الوعي والإرادة، لأنهما عامل القوة والمدخل لكل تغيير وإصلاح وتحرر، ولذا عملت أنظمة الاستبداد ـ على الدوام ـ على تجهيل الإنسان من جهة وعلى سحق إرادته من جهة أخرى.

أما كيف يتم سحق الإرادة وإضعافها؟

فإلى جانب الوسائل التقليدية من الترغيب وشراء الضمائر أو الترهيب بقطع الأعناق والأرزاق، هناك أسلوب التخدير استناداً إلى جملة من المفاهيم الدينية التي لا نبالغ إن أسميناها بـ”المخدرات الدينية” والتي يفوق تأثيرها تأثير المخدرات المعروفة، والنموذج الأبرز لذلك هو: “عقيدة الجبر” التي تعني سلب إرادة الإنسان وتنفي مسؤوليته عن كل ما اقترفته يداه من ذنوب أو جرائم، وتشير الدلائل إلى أن السلطة الأموية هي من روّج لهذه العقيدة، لدرجة أن المؤلفين فيما يعرف بـ “الأوائل” ذكروا “أنّ معاوية أول من زعم أن الله يريد أفعال العباد كلها”(الأوائل لأبي هلال العسكري2/125)، ولما نصّب ابنه يزيد خليفة على المسلمين واعترض عليه عبد الله بن عمر ـ فيمن اعترض ـ أجابه قائلاً:”… وإن أمر يزيد قد كان قضاءً من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم” (الإمامة والسياسة1/171)، وقد كان أبو علي الجبائي صريحاً في اتهام معاوية بـ”فبركة” مفهوم الجبر حيث قال على ما حكاه عنه القاضي عبد الجبار: “ثم حدث رأي المجبرة من معاوية لما استولى على الأمر وحدث من ملوك بني أمية مثل هذا القول”.

ومن الأكيد أن السلطة تهدف من وراء نشر هذه العقيدة إلى:

أولاً: تبرير كافة أفعالها وتصرفاتها التي تتجاوز فيها الحدود الشرعية سواء على المستوى الشخصي أو السياسي، كما برر معاوية نصب يزيد خليفة للمسلمين.

وثانياً: تحذير الأمة وشل إرادتها بالإيحاء للناس أن عليهم الاستكانة للواقع بكل سلبياته ومفاسده، لأنه لا يمكن تغيير ما قضاه الله وقدرّه، ما يعني من الناحية العملية الخضوع التام لإرادة السلطان.

ومن الأمثلة على “العقائد الدينية” ذات الطابع التبريري “عقيدة الإرجاء” التي تقوم على فكرة أنه لا قيمة للعمل ولا أصالة له في الإيمان، وإنما الأصالة للاعتقاد القلبي فهو المقوّم للإيمان وعليه مداره، وعن دور السلطة في تعميم هذا المفهوم وترويجه يتحدث النضر بن شميل أن المأمون العباسي سأله عن الإرجاء ما هو ؟ فأجابه النضر: “دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم…” (البداية والنهاية لابن كثير10/303).

التحييد والإلهاء:

إلى الأهداف الثلاثة المتقدمة أعني التطويع والتبرير والتخدير فإن ثمة هدفين آخرين ترمي إليهما أنظمة الاستبداد في سعيها لتزوير الدين وتطويعه وهما:

أولاً: العمل على تحييد الأمة من ساحة الصراع والمواجهة التي يكون السلطان طرفاً فيها، عن طريق نشر “مفاهيم دينية” ملتبسة من قبيل مفهوم الاعتزال الذي يتذرع به بعض الناس لتبرير تقاعسه عن نصرة الحق وأهله، مع إعطائه مستنداً شرعياً، أو من قبيل مفهوم “الحياد في أجواء الفتن” وهو مفهوم صحيح إلاّ أنه كسابقه لا محل له ولا موضوع عندما يكون الصراع بين الحق والباطل، فإنه لا اعتزال ولا حياد في هذه الحالة. بل لا بدّ من الوقوف إلى جانب الحق وأهله.

ثانياً: تغذية الصراعات الكلامية ذات الطابع الجدلي، في محاولة لإلهاء الأمة وإشغالها بهذه النزاعات، ويُرجَّح أن الكثير من الخلافات الكلامية الجدلية من قبيل الخلاف في قضية خلق القرآن وغيرها كان للسلطة دور في تأجيجها.

 

 

بعكس ما بثته الأيديولوجيات الوضعية والمادية التي سادت منذ القرن التاسع عشر، تظهر أحداث العقود الماضية تجدد الطلب على الدين في الحياة السياسية والمدنية بشكل عام، إذ كان للكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية دور رئيسي في التعبئة التي قادت إلى الإطاحة بالنظم الشيوعية، سواء عن طريق ما قام به البابا السابق جان بول الثاني الذي أظهر نشاطا استثنائيا في الدبلوماسية الدولية، أو عن طريق الكنائس المحلية التي نشطت لدعم قوى المعارضة السياسية وشكلت رافعة لها في بولونيا وروسيا وبلدان أوروبا الشرقية عموما.

بقدر ما يعبر الإيمان عن الولاء والانتماء والتماهي مع الوجود في صوره المادية أو الذهنية، يندفع المؤمن إلى الإخلاص لما يؤمن به، ويؤهله ذلك للارتفاع على شرطه المادي بل والإنساني ليصل إلى مستوى نكران الذات والاستغراق في الفكرة التي يتعلق بها

ويسري الأمر نفسه على ما قام به المجاهدون الإسلاميون في أفغانستان، حين كبدوا النظام السوفياتي هزيمة عسكرية وسياسية لن ينجح في التغلب على آثارها أبدا.

ولعب أنصار لاهوت التحرير دورا أساسيا أيضا في هزيمة الدكتاتورية وتعبئة شعوب أميركا اللاتينية أو بالأحرى طبقاتها الفقيرة لتأكيد حقوقهم الاجتماعية، بعد انحسار العقيدة الماركسية.

وفي منطقتنا ما كان من الممكن تصور نجاح المشروع الصهيوني الرامي إلى بناء دولة يهودية صافية في فلسطين من دون إحياء الذاكرة الدينية والخلط المتعمد بين القومية والدين، وبالمثل ما كان من الممكن الإطاحة بحكم الشاه الإيراني المدعم بقوة من الولايات المتحدة لولا التعبئة الدينية الهائلة التي عملت عليها، خلال عقود، الحوزة الشيعية.

ولا يزال النظام الذي ولد مع الثورة الإيرانية يدين بوجوده واستمراره إلى حد كبير للروح الدينية التي فجرتها هذه الثورة.

وتستند معظم حركات المعارضة العربية والإسلامية وأكبرها اليوم إلى الذاكرة والتعبئة الدينية في نشاطها الرامي إلى تغيير الأوضاع أو مواجهة النظم القمعية والفردية، وقد حلت الحركات التي تستلهم العقائد الدينية محل الحركات القومية واليسارية في تعبئة الجمهور وقيادة الرأي العام في صراعه من أجل تحسين شروط معيشته أو ضمان مشاركته في الحياة العامة أو طرد المحتلين من أراضيه، كما هو الحال في فلسطين ولبنان والعراق وبلدان عديدة أخرى.

وأجبرت الحركات الإسلامية الناشطة في كل بقاع العالم -ممن يتبنون إستراتيجية مواجهة صدامية ومباشرة مع الغرب- العواصم الغربية والأطلسية على إعادة بناء إستراتيجيتها الدفاعية على أساس مواجهة الحرب الإرهابية.

وقد أصبح مقر البابا ممرا إجباريا لجميع أولئك الدبلوماسيين الذين يأملون في إضفاء شرعية دينية على سياساتهم، بما في ذلك قادة الولايات المتحدة الأميركية.

وهذا ما ينطبق بشكل أكبر على المرجعية الشيعية التي تشكل اليوم في العراق وإيران مصدر التوجيه الأول للسياسة وللقادة السياسيين الحاكمين.

ومن آخر تظاهرات هذا النفوذ الديني المستعاد في سياسات عصرنا انتفاضة رجال الدين البوذيين في بورما أو ميانمار.

يصدم هذا الدور المتجدد للدين، أو للأديان، في صنع السياسة وبناء المجتمعات بقوة الأفكار المسبقة التي سودتها حقبة طويلة من التفكير الاجتماعي الوضعي، الذي بدأ مع عصر الأنوار العقلاني في القرن الثامن عشر، وآمن بالعلم مصدرا لخلاص الإنسان، وعارض بينه وبين الدين الذي نظر إليه كنتاج لجهل الإنسان بالطبيعة أو كتعبير عن طفولته الفكرية.

كما تصدم بشكل أقوى أولئك الذين اعتقدوا، على خطى ماركس والفلسفات المادية، بأن الدين أفيون الشعوب، وأنه سينحسر لا محالة مع انهيار نظم السيطرة والاستعباد الطبقية وزوال استغلال الإنسان للإنسان والحاجة إلى عزاء من طبيعة سحرية.

وبالنسبة للجميع كانت الحداثة تفترض انتصارا مؤكدا لأشكال الوعي الوضعي والعلمي وتراجعا مضطردا للوعي الديني وللأديان بشكل عام.

ليس هناك شك في أن الثورة الصناعية، وما تبعها من انقلاب في أساليب إنتاج المجتمعات وحياتها وتفكيرها معا، قد ترافقت مع تحول كبير في عقائديات الناس وتطلعاتهم وغاياتهم من العمل والحياة أضعف من دور الأديان الكلاسيكية في التأثير على السياسة لصالح عقائديات جديدة آمن الناس بها، ليس بالضرورة بديلا عن الأديان السماوية ولكن إلى جانبها، من بينها القومية والشيوعية والوضعية التي انتشرت بقوة في القرن التاسع عشر، وفاضت عنه إلى القرن العشرين

وارتبط انتشار هذه الأيديولوجيات ذات الطابع الزمني بتطور منظومات من القيم والتطلعات تركز على تحسين شروط حياة الإنسان على الأرض، وتؤكد على سعادته الجسدية والعقلية، مقابل تأكيد العقائد ومنظومات القيم الدينية السماوية على الخلاص الروحي والتطلع إلى حياة الآخرة الأبدية.

لكن الأمر بدأ يتغير منذ السبعينيات. وهناك ثلاثة عناصر تفسر هذه المفاجأة أو ما يمكن أن نسميه مفاجأة تنامي أثر الدين في الحياة السياسية والمدنية عموما:

الأول هو سوء تأويل ظاهرة انحسار الفكر الديني وتوحيدها مع فكرة حتمية زوال الدين أو تلاشيه بوصفه نموذجا عتيقا للتفكير تجاوزه العلم، وهو ما يعكس الطابع التبسيطي والخطي لأطروحات الفلسفات الوضعية والمادية التي بشرت بانحسار الدين لصالح الفكر والوعي العقلاني والعلمي.

الدين كالفن صيغة من الصيغ الذهنية لتمثل العالم بطريقة تجعل من التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت نفسه، ولا يمنع تقدم المعرفة ولا تحرر الفرد من نظم الوصاية والقمع استمرار مثل هذه التجارب الإنسانية الكبرى

فانحسار نمط من التفكير والقيم الدينية لا يعني بالضرورة انحسار الدين، كما أن تطور المعرفة العلمية وسيطرة العلم على الحياة العملية، لا ينفي وجود صيغ أخرى لتمثل الواقع أو الوجود والكون لها أيضا قسطها من العقلانية التي تختلف في معاييرها عن العقلانية التي أطلق عليها أصحاب الفلسفة النقدية اسم العقلانية الأداتية.

فعلاقة الفرد مع الوجود ليست علاقة معرفية موضوعية فحسب، كما يظهر ذلك الفن والأخلاق والعاطفة، وإنما هي علاقة متعددة المستويات والأبعاد.

ومن هذه المستويات علاقة الإيمان الذي يشكل جوهر المنطق الديني أو التجربة الدينية. وبقدر ما يعبر الإيمان عن الولاء والانتماء والتماهي مع الوجود، في صوره المادية أو الذهنية، يدفع المؤمن إلى الإخلاص لما يؤمن به، ويؤهله للارتفاع على شرطه المادي بل والإنساني، ليتحد بالمطلق، أي ليصل إلى مستوى نكران الذات والاستغراق في الفكرة أو القيمة أو الرمز الذي يتعلق به.

والإيمان، أي الانخراط الكلي والتسليم كأسلوب للتعامل مع العالم والتصالح مع الذات، كجزء من الكون، تجربة إنسانية أصيلة ليست مرتبطة بمستوى تطور المعرفة البشرية ولا بالاستلاب الناجم عن السيطرة الخارجية أو الاستغلال الطبقي ولا بالتدين الكلاسيكي فحسب، بل يمكن لكبار العلماء أن يعاينوها.

وقد كان بين الشيوعيين من تمثل الفكرة الشيوعية بطريقة إيمانية، وكان يتصرف تصرف المؤمنين الذين يهبون أنفسهم للفكرة ويموتون في سبيلها. وقد مات منهم الكثير في السجون والمنافي من دون أن يرف لهم جفن.

وبهذا المعنى فإن الدين، كالفن، صيغة من الصيغ الذهنية لتمثل العالم بطريقة تجعل من التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت نفسه.

ولا يمنع تقدم المعرفة ولا تحرر الفرد من نظم الوصاية والقمع استمرار مثل هذه التجارب الإنسانية الكبرى، كما كانت تجسدها بشكل أوضح بعض المذاهب الصوفية الإسلامية.

يشكل التدين بهذا المعنى نمطا من أنماط العلاقة بين الفرد والفكرة التي يتمثلها ويتعامل بها مع غيره من الأفراد، إذ المجتمعات لا تعيش من دون عقائد توجه سيرها وتضمن تفاعل عناصرها فيما بينهم.

وكما أنه من الممكن أن يتعامل الفرد مع عقائده وأفكاره بطريقة استعمالية، أو أداتية، يستخدمها حسب مصالحه وحاجاته الأنانية، حتى لو كانت عقائد دينية سماوية، من الممكن أيضا أن ينظر إليها كوسيلة للسمو بذاته والارتفاع عن شرطه المادي الفاني وفرصه للاتحاد مع المطلق الإلهي أو الاجتماعي، حسب طبيعة العقيدة.

والواقع أن كثيرا من الفلاسفة وعلماء الاجتماع المحدثين كانوا قد رفضوا النظرة التبسيطية التي سيطرت على الفلسفة الوضعية عموما، واعتبروا الدين نظاما رمزيا مرافقا لوجود المجتمع. وكان إليكسي دو توكفيل أول من أشار إلى أهمية الدين في استقرار النظام الديمقراطي الحديث الذي نشأ في أميركا في القرن التاسع عشر لما ينطوي عليه من ذخيرة أخلاقية.

كما أن دوركهايم الذي كان أول من سعى إلى تأسيس علم الاجتماع على أسس علمية يعتبر أن الدين ضروري لتحقيق الاندماج الاجتماعي، بما في ذلك في المجتمعات الحديثة.

أما ماكس فيبر فقد أكد أهمية المنظومات القيمية في قيام النظم الاقتصادية نفسها، كما أبرز ذلك في كتابه عن المناقبية البروتستنتية وروح الرأسمالية، ونظر جورج سيميل إلى الشعور الديني بوصفه معطى أساسيا في حياة المجتمعات.

والعنصر الثاني الذي يفسر هذه العودة ما شهدته الأديان التوحيدية المنحسرة سابقا من تحولات داخلية عميقة، ربما كان من الصعب على المراقب الخارجي وغير المختص أن يتعرف عليها، لأنها تقع في قلب منظومة القيم والتطلعات العميقة للأفراد.

وقد استعادت هذه الأديان دورها بقدر ما غيرت من دلالاتها وتحولت إلى أطر فكرية للاحتجاج على حداثة إشكالية، مخربة، تمييزية، مفقرة وسالبة، وأحيانا مستحيلة، بالنسبة لجميع أولئك الذين خرجوا من تقاليدهم الفكرية والدينية القديمة، من دون أن يجدوا ما يملأ فراغهم الروحي والفكري والاجتماعي معا.

فليس من المبالغة القول إن تبرير الاحتجاج وتأطيره هو اليوم الوظيفة الرئيسية للأديان التوحيدية المستعادة.

والعنصر الثالث هو أزمة الحداثة أو نمطها الكلاسيكي، وانكشاف عجز هذا النموذج، وريث المرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، في استيعاب الكتل المتزايدة الخارجة من أنماط حياتها التقليدية، وإدماجها في نموذج الحياة الداعية لها، وبالتالي تبين المآزق التي تقود إليها هذه النماذج القائمة على التنافس في رفع معدل الإنتاجية والمزايدة في القيم الاستهلاكية.

الدولة بوصفها دولة مواطنين متساوين يخضعون لقانون واحد، لا تقوم إلا إذا نجحت النخب السياسية في تحييدها عقائديا وإخراجها من دائرة النزاعات السياسية والدينية والارتفاع بها إلى مستوى الدولة المؤسسية غير الأيديولوجية

كما أن التطورات التقنية والعلمية والعولمة التي أفرغت المجتمعات من روابطها الحميمة، وعمقت الشكوك في المستقبل، ربما كانت أحد الدوافع الرئيسية للإحياء الديني الراهن.

وهذا ما يفسر كيف بدأت المعتقدات الزمنية أو الدهرية التي رافقت تقدم الحداثة، كالقومية والشيوعية، تتراجع وتنحسر شيئا فشيئا، ومعها السياسة ذاتها، لصالح العقائد الدينية وروابطها القائمة على الأخوة والقرابة الروحية، التي بدت في الحقبة السابقة وكأنها الضحية الحتمية لعملية التحديث والتنمية الفكرية والتقنية.

هكذا شهدنا منذ السبعينيات تقاربا مطردا بين حركات الاحتجاج والتغيير والإحياء الديني، وربما كانت الثورة الإسلامية الإيرانية هي النموذج الأكثر تعبيرا عن هذا التقارب الذي سيستمر وينتشر ويعبر عن نفسه بصور مختلفة في معظم مناطق العالم النامي، بل في أوساط شعبية متزايدة من العالم الصناعي المتقدم.

لا يختلف الأمر عن ذلك بالنسبة للاهوت التحرير الذي شهدته مجتمعات أميركا اللاتينية، وحركة رجال الدين البوذيين في ميانمار اليوم.

والواقع أن ما يسمى بالصحوة الدينية لا يعبر عن عودة إلى أشكال التدين القديمة ذاتها ولكنه يعيد استثمار جدلية الإيمان أو ما يسميه البعض بالشعور الديني، الذي هو مزيج من نكران الذات والتفاني -الذي يمكن أن يكون منزها لذاته أو للمبادئ التي يتعلق بها، أو لحساب الجماعة القومية أو الطبقية أو الطائفة- في المعارك التي أثارتها وتثيرها عمليات التحديث نفسها.

فهي أقرب إلى أن تكون توظيفا للفكر الديني الكلاسيكي في هذه المعارك الحديثة بالفعل، من أن تكون استعادة للمعارك الدينية والعقائدية التقليدية، وهذا ما يفسر الطابع السياسي لهذا الإحياء في كل مكان.

فالدين يستعاد هنا كمورد أو مصدر لتعزيز موقف فئات اجتماعية معينة في صراعها ضد البؤس أو الفقر أو البطالة أو التهميش أو العدوان الخارجي. ويشكل الدين هنا مصدرا لتأكيد هوية جمعية أو عقيدة كفاحية تشجع على التضحية، أو تفعيلا لقيم التضامن الاجتماعي والإنساني.

ومن هنا يمكن القول إن الدين لم يعد بعد أن انحسر وإنما أعيد تأهيله وتجديد أفكاره وقيمه ليقوم بأدوار جديدة، إذ المادة التي يستخدمها الدين المجدد قديمة، تتعامل بالأفكار والمفاهيم والمصطلحات والطقوس ذاتها، لكنها وضعت في صورة جديدة أوحت بها حاجات المجتمعات وتحديات الحداثة.

من هنا لم يعد هناك معنى لوصف هذه الأديان، كما فعل ماركس، بأنها أفيون الشعوب أو أداة تخديرها، ولا لعزو انتشار الفكر الديني إلى جهل العامة أو غياب المعرفة العقلية.

لا يتناقض هذا الإحياء المتزايد للدين مع الحداثة وقيمها إذن ولكنه يصب فيها، فهو يهدف إلى تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة. بيد أن المشكلة التي يطرحها تظهر بشكل رئيسي على مستوى إعادة بناء المجتمع والدولة.

فالسياسة تعتمد بشكل متزايد في هذه الحالة على تعبئة المشاعر والقيم والموارد الدينية، لكن الدولة بوصفها دولة مواطنين متساوين يخضعون لقانون واحد، لا تقوم إلا إذا نجحت النخب السياسية في تحييدها عقائديا، وإخراجها من دائرة النزاعات السياسية والدينية، أي إلا بالارتفاع بها إلى مستوى الدولة المؤسسية، غير الأيديولوجية.

وربما هنا تكمن مفارقة السياسة المعاصرة في بلداننا، إذ كيف نوفق بين متطلبات ممارسة سياسية تنجذب أكثر فأكثر نحو استلهام العقائدية الدينية، ومتطلبات بناء الدولة كمؤسسة جامعة، يتساوى في ظلها أصحاب العقائد والمؤمنين جميعا من كل المذاهب والأديان، أي تحويلها إلى دولة قانونية لا أيديولوجية؟

ألا يفسر هذا التحدي الانقسامات العميقة التي تسم مجتمعاتنا وتجعلها تتخبط في معارك ونزاعات مستمرة، تدخل السياسة في طرق مسدودة وتفرغ الدولة من مضمونها كمؤسسة قانونية جامعة؟

في نظري، لا يكمن الجواب على هذه المفارقة التاريخية بالدعوة إلى استبعاد الدين من السياسة، وإنما بالسعي إلى تعميق مفهوم الدين بمعنى الإخلاص، بوصفه نكرانا للذات في سبيل المبادئ الإنسانية، التي هي مقاصد إلهية أيضا، على حساب استغلاله لتأكيد نفوذ الطائفة أو القبيلة أو الأمة، مما يشكل مصدر الخطر الرئيسي على أي تجربة سياسية دينية معاصرة.

عندئذ يمكن للدين المساوي للإخلاص القائم على مبادئ الحق والعدالة والمساواة أن يكون عاملا رئيسيا في بناء دولة القانون والديمقراطية العربية أو الإسلامية المنشودة.