23 ديسمبر، 2024 12:42 ص

التخييل الذاتي في “مرايا” لسعيد رضواني

التخييل الذاتي في “مرايا” لسعيد رضواني

إن مساءلة التخييل الذاتي l’autofiction في المجموعة القصصية “مرايا” لسعيد رضواني الصادرة في طبعتها الثانية عن مؤسسة الموجة الثقافية سنة 2019، يعد بحق مغامرة نقدية كبيرة، أولا لحداثة المفهوم الذي نحته الفرنسي سارج دوبروفسكيSerge Doubrovsky سنة 1977 عندما جنّس نصه “ابن” بتوصيف تخييل ذاتي، وثانيا لارتباط هذا المفهوم بالنصوص السردية الطويلة (الرواية).

يحضر التخييل الذاتي باعتباره جنسا أدبيا قائما بذاته، جنسا يقوم على جعل الكاتب هو السارد نفسه أو شخصية من شخصيات النصوص السردية، يكتب لنفسه من خلال استدعاء الذكريات والانطلاق من أحداث واقعية أو معيشة في قالب خيالي تكون فيه الذات محور العملية السردية، وذلك بلغة تحتفي بنفسها ولا تتجه نحو القارئ إلا لماما، ومنه يمكن أن نتساءل، هل تندرج “مرايا” ضمن نصوص التخييل-الذاتي باعتبار هذه النصوص تشكل نصا واحدا؟ وكيف يمتزج الواقع والتخييل في هذا النص السردي/القصصي؟

ينطلق التخييل الذاتي من “إحلال الذات محلا إشكاليا يتذبذب بين الواقع والخيال، الوجود والفناء، الغياب والحضور، الغموض والتجلي في الآن نفسه، مما يجعل العملية السردية برمتها محض بحث أبدي عن الأنا المفقود، عن الذات التي أصبحت فجأة موازيا للعالم، والمعنى الذي أصبح مماثلا للحياة في أعمق صورها غموضا، وتخفيا، واستعصاء عن الفهم والتأويل”، ومن هذا المنطلق سيكون الهدف في هذه القراءة رصد تجليات الأنا المفقود في علاقته بالوقائع الشخصية، وتجليات عنصر الخيال في علاقته باللغة المحتفية بنفسها، ونقصد هنا باللغة المحتفية بنفسها هذه اللغة المجازية التي ترفل في الاستعارة والتشبيه والكناية… إلخ.

هكذا نبدأ بمسلمة من مسلمات التتخييل الذاتي التي ترى بأن الفوارق بين الكاتب والسارد تختفي في بؤة محورية، أو ما يصطلح عليه بذات عليا مركزية أحادية الرؤية، لا سيما في قصة “ذهاب وإياب”، حيث يتخلص السارد من الشعور إلى اللاشعور لينفض عنه الغبار في محاولة منه لتحقيق معرفة حقيقية بذاته، موت الأب والابن (وهي أحداث ربما تكون واقعية) مقابل الغنى الذي أصبح عليه السارد بعد ضنك العيش وشظفه، فها هو يصف هذه اللحظة التي تتناقض فيها أحاسيسه بين الواقعي والمتخيل بغية تحقيق معرفة حقيقية بذاته أو أناه المفقود قائلا: “ابتدأت صفوف المعزيين أو المهنئين حيث انتهت صفوف الأشجار، أسير بين الصفوف كما يليق بأغنى رجل في القرية، رافعا رأسي، دون أدنى تظاهر بالحزن. في عيون الرجال أرى الحسد والاحترام، ومن خلف الصفوف يتصاعد صوت نواح الباكيات المأجورات. عندما اجتزت آخر رجل في الصفوف، سلمني وكيل أعمال والدي الوثائق التي أصبحت بموجبها مالك أملاكه. هجست ‘لنفسي ليحزن كل يتامى العالم أما أنا فلا'”.

هكذا يستدعي سعيد رضواني حدث الموت ليعيد تأثيثه من جديد، بل ليحدد شعوره اتجاهه أيضا رغم تراجيديته، فهو لا يعرف هؤلاء الناس في العزاء، هل جاؤوا لتقديم واجب العزاء؟ هل جاؤوا مهنئين لحصوله على الإرث؟ قد تبدو هذه الأحداث لوهلة كوميديا سوداء، لكنها في الحقيقة مأساة تحاول من خلالها الذات الساردة لملمة تشظيها من الانشطار، إنها أحاسيس متناقضة تجمع بين الحزن والفرح، الضعف والقوة، السيطرة والاستسلام. وهكذا يصبح فعل الكتابة هنا استراتيجية للتفكير في الماضي وليس استعادة له فقط، بل استعادة عن وعي عميق بالذات، الذات التي تريد أن تكتشف نفسها بعيدا عن رغبة حقيقية في الوصول إلى القارئ بواسطة لغة شعرية منسابة.

يصبح النص بهذا المعنى في التخييل الذاتي نصا شخصيا إلى أقصى درجة، لأن الكاتب ينطلق من تجربة شخصية واقعية معيشة، أو على الأقل يفترض أنها كذلك (موت الأب والابن) وها هي الذات العليا المركزية تواصل رحلتها في بحث استقصائي للتفاصيل والذكريات والأحاسيس الشاردة التي غيبها تعاقب الأزمات في فترة من فترات حياة السارد، إن الكتابة هنا فعل للتفكير في مصير الذات ومآلها، اكتشاف ودهشة ووعي جديد بذات قلقة مضطربة لا تستطيع تحديد شعورها من موت الأب والابن.

تحضر الذات المحورية في النص/المجموعة القصصية من خلال استدعاء تفاصيل الماضي بكل مآسيه وجراحه، ولكن ليس استدعاء من أجل الاستدعاء فقط، بل من أجل مساءلته والتعليق عليه والقبض على الأحاسيس الشاردة في لحظات الحزن العميق “إذ تتأسس الذات محوريا لتصير القطب والمناط والمبتدى والمنتهى، تبصر العالم، وتستعيد الأحداث السابقة، تحللها وتعلق عليها وتستكنهها وتعيد تأويل تفاصيلها وفق منظورها الراهن بحمولة من خبرات الحياة والتجارب والثقافة” وهذا ما حاولت الذات الساردة أن تقوم به في “البيت المهجور”، حيث يعيد سعيد رضواني تشكيل معالم الماضي بتفاصيله الدقيقة، هذه التفاصيل التي تتضمن رؤيته للعالم وإدراكه لذاته القلقة والمضطربة في خضم تقلبات الحياة، ذات تحن إلى الطفولة والشباب، ليبقى الحنين هو التيمة المهيمنة، وقد جاء في “البيت المهجور: “من بعيد، ألمح بيتي المهجور. يفقدني الحنين تماسكي فينفلت من يدي، ينفلت العكاز الذي عليه يتوكأ الجسد الهرم، فأمد اليد المتغضنة، المرتعشة، لأحمله… فأحملها باليد الغضة، الناعمة، أحمل عصا مستقيمة لا اعوجاج فيها، وكأن الطفولة تمج العصا المعقوفة، وكأن تجارب السنين، والركض اللامجدي وراء الأحلام، والسعي المستميت في الأرض، مجرد اعوجاج على عصا مستقيمة من شجرة الحياة… مجرد اعوجاج أخرق يلزمه البتر”. لا تستعيد الذات العليا الذكريات فقط بهذه اللغة الحافلة بالمجازات “شجرة الحياة”، بل تفكر في مصيرها، هذا المصير الغامض، حيث ينتهي إلى الشيخوخة بكل ما ترمز إليه من وهن وعجز، وهنا يحضر عنصر التخييل في استشراف المستقبل، تخييل يتمحور حول الذات حين يصير السارد شيخا هرما ولا يبقى له إلا الذكرى والحنين إلى الطفولة رمز العطاء والقوة، وهو ما يرمز إليه عنوان النص “البيت المهجور”.

“البيت المهجور” ذلك الحب الذي افتقدته الذات الساردة في معترك الحياة، ليتحول في شموليته إلى رمز للماضي بكل حمولته وما يستدعيه من أحاسيس متناقضة، حيث يتم الوعي بالذات في سيرورتها التاريخية من خلال تفاعلها مع الزمن، أي التفكير في الذات حاضرا وانتهاء بالتفكير فيها في الزمن الماضي، غير أن موت الأب، البؤرة الدلالية المحورية، ليس كما صوره السارد في قصة “ذهاب وإياب”، إنها تراجيدية إنسانية بالنسبة للذات الساردة، نقطة التحول التي تحدث عنها أرسطو في دراسته للمأساة الإغريقية، التحول من الجهل إلى المعرفة عند البطل التراجيدي، ولكن المعرفة التي تحققت للذات الساردة جعلتها تكتشف العالم بنظرة مختلفة ومغايرة، حيث القيم المزيفة والمظاهر التافهة، وحتى المرأة بالنسبة إليه أصبحت وسيلة لا غاية، فها هو في “دمية السيلكون” يقول “أفكر في الأسر، فتدعوني طقوسه المميتة إلي حجرة باردة، إلى حيث أجلس أنا الآن بين جدران يجتاحني فيها على الدوام نباح كلب غريب كأنما هو آت من زمن بعيد، وتؤنسني فيها دمية من الألياف والسليكون، دمية تكاد تسخر من رغباتي المستميتة في التوازن على القائمتين الخلفيتين للكرسي الذي لا ولن يتوازن أبدا”.

ليس الموت وحده معطى للتفكير في الذات الساردة، بل العلاقة مع المرأة، المرأة باعتبارها كائنا بلا روح، دمية سليكون لا حياة فيها يعبث بها كيفما يشاء، هكذا يصور السارد حبيبته، التي تعب في محاولة تشكيل معالمها بالإبر والحقن والمشراط، وربما ينطلق من تجربة واقعية حيث فشل في مد جسر الحب بينه وبين المرأة، هذه المرأة التي ظلت حاضرة في نصوص قصصية أخرى من قبيل “دوكي وروز” و”همس” و”مداعبة” و”المرآة” و”عند الغروب” بنفس الصورة في “دمية السليكون”، وبالتالي مهما اختلفت النصوص تبقى المرأة بالنسبة للذات الساردة على شاكلة واحدة جسد/اللاحب/الجنس/الفراغ/ المتعة…إلخ.

كلها عناوين قصص تحضر فيها الذات الساردة بشكل لافت، غير أنها توظف ضمير المتكلم المفرد تارة وضمير الغائب المفرد تارة أخرى، إن الذات الساردة تتحدث عن نفسها وعن أحداث واقعية متشبثة بتلابيب التخييل الذي تظل فيه الذات الساردة محورا، وحتى عندما يتحدث السارد بضمير الغائب، نجده يتحدث عن نفسه أو يفكر في نفسه، حيث الشخصيات انعكاس لصورته في المراة.

إن تتبع التخييل الذاتي في هذا النص/المجموعة القصصية، ليس بالأمر الهين، فهو مغامرة نقدية كما سبقت الإشارة، لأنه يرتبط بالرواية والسيرة الذاتية، لكن يبدو لنا أن هذه النصوص تتسم بوحدة عضوية من خلال إرجاع الكثرة الدلالية إلى ذات سردية عليا، تنتظم وفقها الأحداث المتناسلة من خلال التداعي الحر واستدعاء الماضي الذي يمتزج فيه الواقعي بالمتخيل، وهو ما يجعلنا نخلص إلى أن إعلان موت المؤلف أو قتله على الأصح كان تجنيا على قراءة النص الأدبي، فبواسطة التخييل الذاتي كان حضور الكاتب والسارد، وهو ما يمنحنا زاوية جديدة لقراءة النصوص (إحياء موت المؤلف)، في انتظار نضج هذا المفهوم وتحديد مميزاته وخصائصه، سواء باعتباره مفهوما نقديا أو جنسا أدبيا.

أما بالنسبة لـ”مرايا” فهي تشكل بحق تراجيديا يوربيدية، حيث البطل التراجيدي ليس إلها أو نصف إله، بل من عموم الناس، تراجيديا تمتح من علاقة الذات الساردة بالواقعي التي تكون محور التخييل، إن سعيد رضواني يكتشف ذاته بالكتابة في عالم متحول باستمرار، عالم بئيس وحزين، بلغة تحتفي بنفسها وترفل في أزياء البلاغة بأسلوب شعري ينقل القارئ إلى عوالم موازية من التشويق والغرابة.