22 نوفمبر، 2024 6:55 م
Search
Close this search box.

التخطيط لإزاحة ” عبد الرحمن عارف “

التخطيط لإزاحة ” عبد الرحمن عارف “

كلمة لا بد منها
لستُ أزاعم ولا أدعي ولا أتبجح في كوني أعرف الكثير، ولا أنا بعالم عن مجريات الأمور في الخفاء ووراء الكواليس، ولم أكن بعثياً مشتركاً بأي كبيرة أو صغيرة فيها، فصانعو الأحداث تحدثوا في القنوات الفضائية وكتبوا مذكراتهم وفرشوا ذكرياتهم عن وقائع ما قبل حركة (17/تموز/1968) وخلال تنفيذها وما بعدها وأسمعوها للعالم ونشروها، ومنهم من شارك بالتخطيط للحركة أو تواجد في أوساطها وقريباً من قادتها ومنفذيها.
ولكن ليس مبتغاي سوى سرد ما عرفته من أمور وسمعته من حقائق على ألسنة أصدقاء موثوقين وزملاء عزيزين قد تكون صحيحة أو مشكوكاً بها، لذا فكرتُ أن واجب التأريخ يحتّم عليّ قذفها وسط هذه السطور، بعد أن تجاوزتُ السبعين من عمري فتمنّيتُ الكشف عنها خدمة لتأريخ العراق المعاصر عوضاً عن بقائها طيّ النسيان في أوراقي الخاصة.
وقد يلومني البعض في تأخري بهذا الشأن وقد إنقضى عهد البعث إثر الغزو الأمريكي للعراق وإحتلاله وتبدّل كل شيء في ربوعه وإنقلبت موازينه، ولربما ينتقدني آخرون في الجهر بها بعد عقود من وقائعها، وربما يتأثر البعض لإستجلاب أسمائهم وهم ما زالوا على قيد الحياة، أو إيرادي لمسمّيات ذويهم وأقاربهم الصريحة وقد إنتقلوا إلى جوار ربّهم، أو سردي أسراراً ينبغي عدم البوح بها في هذه الظروف الهشّة التي تعبث بوطني الحبيب… ولكني مُصِرٌّ على ما عزمتُ عليه، والله شهيد على كل كلمة أُسطّرها.
ووددتُ التوضيح بأني إحترتُ في تسمية وقائع (17/تموز/1968) بـ”إنقلاب” أو “حركة” أو “ثورة” كما الحال في الأدبيات المتضادّة والمتعاكسة، لذلك إستخدمتُ التسميتين الأولَيين دون الثالثة لعدم إنطباقها على الأحداث بشكل مطلق في نظري المتواضع.

عهد الرئيس” عبدالرحمن محمد عارف”
لقد أَسْهَبْتُ كثيراً في صفحات كتابي الموسوم “عبدالسلام محمد عارف… كما رأيتهُ” بمسيرة هذا الرجل -المثير للجدل والنقاش- خلال فترة ترؤّسه الدولة العراقية بصلاحيات واسعة في غضون عملي ضابطاً برتبة “ملازم” بالحرس الجمهـوري خلال سنتي (1964-1966)، والذي كان- بطبائعه الذاتية وطموحاته الواسعة وشخصيته الصارمة وخبراته المُكْتَسَبة من تجاربه السابقة والدروس التي أفاد منها ووضعها نصب عينيه جراء أخطائه المشهودة والمتكررة بُعَيدَ إنقلاب (14/تموز/1958) خلال النصف الثاني لعام (1958)، والرجال الأقوياء/الأوفياء من كبار المسؤولين الذين أحاطوه- ماسكاً الحكم بقوة من معظم جوانبه.
لكنه لم يلبث بمنصبه هذا سوى (3) سنوات وشهرين، حتى ووري الثرى إثر سقوط طائرة مروحية/هليكوبتر بحياته مساء يوم (الأربعاء-13/نيسان-أبريل/1966) خلال جولته الثالثة لمحافظة “البصرة” في أقصى جنوبيّ العراق، ليخلفه حسب الدستور القائم آنذاك- شقيقـه “اللواء عبدالرحمن عارف”، والذي كان مُقْتنعاً بمواصلة ما بدأ سلفه بإنتهاجه مؤخّراً من خطوات قد تؤول إلى تخطّي العراق للحكم المُسَيْطَر عليه عسكرياً نحو البعض من الحياة الديمقراطية، ولكن من دون أن يتعمّق الرئيس الجديد بالظروف القائمة في بلـد تحكّمت في ربوعه نُظُم قاسية وأمسى العديد من أموره وكأنها تغـلي بباطن قِـدْر بخاريّ لا يجوز إزاحة غطائه قبل أن يتـمّ تبريده على مهل، فما كان منه إلاّ أن أصـدر عـفـواً عامّاً وبأثـر رجعيّ -وبنصيحة من رئيس وزرائه المثقف ورجل الحكم المقتدر “الأستاذ عبدالرحمن البزاز”- بحقّ جميع السياسيين الذين ناوَءوا عهد أخيه والحكومات السابقة، سواءً أكانوا معتقلين أو مسجونين داخل العراق أو مسافرين أو هاربين إلى خارجه، مصحوباً بإعادة حقوقهم المدنية وردّ إعتبارهم ورفع الرقابة الأمنية عنهم وإعادتهم لوظائفهم ودراساتهم، داعياً في الربع الأخير من عام (1966) زعماء الأحزاب السياسية والشخوص الذين تبـوّأُوا مناصب رفيعـة في الحكومات السابقة للإنخراط في هذه المسيرة خدمةً للوطن ومستقبله بعد طول معاناة العراقيين خلال السنوات الثمان المنصرمة… كما قرّر إعادة معظم الضباط البعثيّين المُبعَديـن مـن وحدات الدبابات وطياري القوة الجوية إلى مواقعهم الأصل، ولم يَسْـتثنِ منهم إلاّ بعض الناشطين الذين سيشتملهم القـرار نفسه قٌبَيلَ إندلاع حرب (5/حزيران/1967).

الرئيس “عبدالرحمن محمد عارف” بعد ترفعه إلى رتبة “فريق” يوم (14/تموز/1966)

حياكة البعثيين لإسترجاع السلطة
لم يكن قادة حزب البعث بمنأى عن دعوات رئيس العراق الجديد، فمن دون تردّد كان “أحمد حسن البكر”- أمين سر قيادة قطر العراق لحزب البعث ورئيس الوزراء الأسبق (1963)- من أوائل المُستجيبين لتلك ((الدعوات الكريمة))، وبات يُدعى -أسوةً بزملائه الآخرين من الوزراء البعثيين وسواهم- للحضور في القصر الجمهوري بكل مناسبة وطنية ودينية، ليجلس-بصحبة عدد من أصدقائه وخصومه- في أماكن لائقة خصّصت لذواتـهم، وتُعرض عليهم قضايا حساسة تهمّ مستقبل العراق وشعبه ودول الجوار والإقليم والعلاقات مع دول العالم وتُطلَب مشورتهم ورؤاهم حيالها.
وبعد إنقضاء بضعة أشهر، وحالما إستشعر أولئك بمصداقية عرض قيادة الدولة وصفاء النيّـات، فقد تشجّع السياسيّون المستقرّون خارج العراق على العـودة للوطن، وكان الشاب الطموح “صدّام حسين” من بين أولئك، بعد أن إجتاز المرحلة الثانية في كلية القانون بـ”القاهرة” في صيف عام (1967)، فسجّـل نفسه طالباً بالمرحلة الثالثة في القسم المسائي لـ”كـلية الحقـوق-جامعة بغـداد”.

وبينما كان الرئيس “عـبد الرحمن عارف”، المعروف بطيبة قلبه وسموّ أخلاقه وورديّة أحلامه وعمق إيمانـه وإتزان رؤاه نحو المستقبل، وإلى جانبه رئيس وزرائه “عبدالرحمن البزّاز”، على يقين مُطلق بأن لا مجال أمام النهج المُسالم والتعامل مع الكيانات المُتنفّذة في الساحة السياسية إلاّ النجاح المضطرد، والذي سيُصعِّـد العراق من دون أي شكّ إلى مصافّ دول تنتهج التعدّدية والحرّية والديموقراطية،،، فكان مـن ضمـن الخطوات الأولى التي إتخذاها هي تلك الإتفاقية التي أعلنها “البزّاز” بشخصه مساء (الأربعاء-29/حزيران-يونيو/1966) عـن إيقاف القتال المتقطّع الجاري منذ(5) سنوات حيال المسلحين الأكراد بالمناطق الشمالية من العراق، في حين لم يتّخذ الرئيس”عارف” إجراءً حاسماً يُذكر حتى بحقّ أولئك الذين تسلّلوا من “مصر” إلى “سوريا والكويت”، ومنهما إلى أرض الوطن خِلْسةً وقاموا بمحاولة إنقلابية مسلّحة فاشلة أقدم عليها ضباط “الكتلة القومية” بزعامة “العميد الطيار الركن -المطرود من الخدمة- عارف عبدالرزاق” بعد ظهر يوم (الخميس-30/حزيران-يونيو/1966) وأُستُخدِمَتْ فيها الطائرات والدبابات والمدرعات، سوى توقيفهم والتحقـيـق معهم بكل إحترام ومن دون أن يُقـدّمهم أمام القضاء، ولربما لم يَدُرْ بباله أن ذلك يحدّ كثيراً من سطوة الدولة ويُدنّي هيبتها بشكل مشهود بإنقضاء الأيام.
اللعاب يسيل مدراراً نحو القصر الجمهوري
إستشعر العديد من قادة الأحزاب السياسية وهوّاة السلطة وكراسي الحكم في تلك الظروف السائدة ونظروا إليها بمثابة فرصةً سانحةً للإنقضاض على شخص الرئيس “عبدالرحمن محمد عارف” وإزاحة نظام حكمه، ووجدوها ساحة مُؤاتية ليتسابقوا سراً كي يقفز أحدهم قبـل الآخـر نحو القصر الجمهوريّ.
أما المحيطون بالرئيس “عارف” نفسه والماسكون الأقربون لشآبيب أمن دولته مُنيطاً إليهم أعظم المسؤوليات الأمنية والإستخبارية، بعد أن قضى أولئك الذين أحاطوا شقيقه الراحل “عبدالسلام” نحبهم معه في حادث الهليكوبتر مساء (الأربعاء-13/4/1966)، فكانوا -في أغلبيّتهم- إمّا ضعفاء نسبياً لا يتمتّعون بمؤهلات الإدراة والقـيادة وقوة الشخصية وعدم النكث بالعهد، أو كانوا من أولئك الذين إستثمروا هدوء رئيسهم وسموّ طبائعه ليعيثوا في البلاد فساداً بتصرفاتهم غير المُستساغة التي أثّرت سلباً على هيبة الدولة وسلطاتها القانونية في الشارع العراقيّ، أو كانوا ذوو أطماع بسلطات أعظم ونفوذ أرقى مما هم متمتعون به من رتب ومناصب.

إستغلال البعث لنكبة حزيران (1967)
لم أستشعر في كياني بأية راحة خلال السنتين المُنصرمتين من عملي الحثيث بالحرس الجمهوريّ رغم أن العديد من أصدقائي وزملائي كان يحلمون بالخدمة في لواء الحرس والقصر الجمهوري، وخصوصاً لعدم إتاحة أية فرصة لجميع ضباط وحدات اللواء للتمتّع بأية إجازة إعتيادية أو سواها على العكس من أقرانهم في وحدات الجيش الأخرى… لذلك -ولأسباب غيرها في أعماقي- فقد قدّمتُ عريضة رجوتُ فيها نقـلي إلى إحدى وحدات الجيش العاملة في قاطع مدينتي “كركوك” بالتبادل مع “الملازم رافع فرحان الدليمي” بحجّة أن أكون قريباً بعض الشيء من والدي الذي كان في حقيقته يُعاني من مرض مستديم،،،، فلم يتأخّر صدور الأمر كثيراً، فإلتحقتُ في أواخر (تموز-يوليو/1966) إلى”فوج المشاة الآلي/1-اللواء المدرّع/6-الفرقة المدرعة/3″ المُنتشر في النواحي التابعة لقضاء “جمجمال” القريبة من “كركوك”.
لم تَنْقضِ على إحساسي ببعض القرب من عائلتي في مدينة “كركوك” سوى بضعة أشهر، حتى تصاعدت المواقف السياسية بين “سوريا ومصر” أزاء “إسـرائيل”، فتسارعت الأحـداث السياسية والميدانية حتى بدت خلال النصف الثاني من (أيار-مايو/1967) أن الحرب قادمة لا محالة… وحالمـا إتّخذ “العراق” قرار مشاركته عسكريّـاً على الجبهة الأردنية، حتى تحشّدت كتائب دبابات جحفل لوائنا المدرع/6 ومعها فـوجنا الآلي ضمن الفرقة المدرعة/3 -بقيادة العميد الركن محمود عُرَيْم- على عُجالة في منطقة “الورّار” إلى الغرب من مدينة “الرمادي”، وتحرّكنا سراعاً نحو “الأردن” فـور إندلاع الحرب صبيحة يوم (الإثنين-5/حزيران/1967)، ولكن لم يلحق من فرقتنا سوى “لواء المشاة الآلي/8” بقيادة “العقيد الركن حسن مصطفى النقيب” من إجتياز “نهر الأردن” ليخوض قتالاً غير متكافئ من ناحية التفوق الجوي حيال “إسرائيل”… أما نحن فقد إنتشرنا باليوم الرابع من الصراع وليومين فقط في أكثر من بقعة دفاعاً عن أرض المملكة الأردنية وتهيّؤاً لمعركة قادمة قد تنشب مع القوات الإسرائيلية التي كانت تتقدم على “هضبة الجولان” وبقاع مدينة “القنيطرة” نحو الأرض السورية حيال مقاومات هزيلة ومُخجلة، حتى سمعنا بقبول جميع القيادات العربية ((عدا العراق)) لقرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار في اليوم السادس من الحرب.
كانت أعظم نكبات العرب الكبرى في القرن/20 إثـر ذلك النصر العسكري والسياسيّ الإسرائيليّ الحاسم، وقتما إهتزّ بسببها البعض من كراسي الحكم وأُحبِطَتْ النفوس وهُيِّجَتْ مشاعر العرب والمسلمين في جميع أوطانهم… وبينما إتّبع بعض الحكام ما أشبه بسيناريوهات لتغطية أخطائهم السياسية والعسكرية الجسيمة التي تمخَّضت عنها تلك الهزيمة المُرَوِّعة، فقد سارت الجماهير العربية وسط مظاهرات حاشدة -ولكنها يائسة- مُطالبين مُواصلة الصراع حيال اليهود، فيما إبتغى العديد من الساسة المناوِئين للزعماء العرب إستغلال ذلك الحدث الجَلَل للإساءة إلى سمعة الحكّام القائمين على أمور الدول العربية التي خسرت الحرب.

لم يكن قادة حزب البعـث في العراق إلاّ من ضمن أولئك وقتما تقـدّم “أحمد حسن البكر” الصفوف، مُحاطاً بالعديد من زملائه، ليقود آلافاً من الشباب وسواهم مُجتازين عدداً من شوارع “بغداد” قبل أن يتوجّهوا إلى القصر الجمهوري رافعين لافتات عريضة تحمل عبارات مُثيرة للمشاعر والأحاسيس تُصِـرّ -من خلال العبارات المُدرَجة فيها- على ضرورة توجّههم إلى الجبهات لخوض القتال حتى آخـر قطرة من دمائهم والإطلاقة الأخيرة من سلاحهم!!! وفي يقيني الشخصيّ -وعلى سبيل الإفتراض- أن السلطات العراقية لو كانت قد هيّأت حافلات وشاحنات تكـفي لحملهم جميعاً إلى جبهات الحرب، لَتَسَرّب معظمهم في الطريق ليختبِئوا مع قياديّيهم في البراري وبين القرى والأرياف، مثلما سيحدث في موقف مشابه يوم (21 آذار-مارس/1968) حين وقعت “معركة الكرامة” المُشرِّفة على الجبهة الأردنية.
الضباط البعثيون ما زالوا في الخدمة
ممّا فاتني ذكره أنني تعرّفتُ بعد إنقضاء بضعة أيام فقط على إلتحاقي للـفوج في ضواحي مدينة “جَمْجَمال” بأكثر من ضابط بعثيّ حاقد على النظام القائم بزعامة الرئيس “عبدالرحمن محمد عارف”، ولكن أيّاً منهم لم يشأ أن يبوح لي أنه على إرتباط بأحد كبار القادة البعثيين إلاّ بعد أن توثّـقت علاقتي ضمن ملجأ واحد على الجبهة الأردنية بأحد أعزّ أصدقاء عمري “الملازم أول عبدالجليل محسن محي”، حيث سَيَسِرّ لي قبل بضعة أسابيع مـن حـركـة (17/تموز-يوليو/1968) بأنه وثيق الصلة بـشخص “أحمد حسن البكر، ورفيقه “طــه ياسين رمضان الجزراوي”، يلتقي بهما وبصحبته في بعض المرات “الملازم أول باسل أحمد طاقة” و”النقيب الإحتياط سامي أحمد نوري” من فوجنا خلال كـل إجازة دورية يتمتعون بها في “بغـداد”، وذلك في وقت أصبحنا- نحن ضباط الفوج- نشاهد أمام أنظارنا مجاميع من الضباط البعثيين المعروفين وهم يعقدون إجتماعاتهم برئاسة “النقيب نُصَيِّف جاسم الرُبَيعي” أو “النقيب سعدي طُعْمَة عبّاس الجُبُوري” بأحدى الخيم الكبيرة في قاطع فوجنا وبمعدلات أسبوعية، ومن دون أن يخـشوا أحداً من إنكشاف تصرفهم الخطير هذا!!!.
تخطيط “البكر” بكامل راحته
لم يكن” أحمد حسن البكر” لوحده قد شدّ حزامين -عوضاً عن حزام واحد- تهيّؤاً للقفز على السلطة في بغداد، ولكنه كان من أوائل الذين سارعوا لإستثمار الأوضاع الهشة السائدة في البلاد وإستطاعوا تشخيصها ووجدوها فرصة سانحة ينبغي عدم الإفراط بها، حين بادر إلى إجراء لقاءات متواصلة في مسكنه -الذي تحوّل إلى ديوان ضيافة يومية ومكتبا سياسي لقيادة حزبه في “بغداد” وعموم البلاد- مستدعـياً كبار القـادة البعثيين، ومعـظمهم من أصدقائه العساكر الأقدمين المتقاعدين، وفي مقدمتهم “الفريق الركن صالح مهدي عَمّاش” وزير الدفاع البعثيّ الأسبق (1963) والذي كان الأعظم نشاطاً وإندفاعاً، مُضيفاً إليهـم ضباطاً آخرين ذوي رتب متوسطة وصغيرة من المستمرين بالخدمة في وحدات الجيش والقوات المسلحة المختلفة، وبالأخص منهـم ضباط الدبابات والمدرعات والطيارين وكذلك المشاة الآلي والمُخابرة/الإتصالات، بمن فيهم البعض من ضباط فوج الحرس الجمهوريّ الأوّل المُحيط بالقصر الجمهوري والمسؤول الأساس عن حماية رأس الدولة، وذلك بعد أن أيقَنَ بما لا يقبل الشك أن لا أحد يُراقبه أو يُعاتبه أو يحاسبه على إجتماعاته وما يطرحه من أحاديث في لقاءاته المتواصلة، والتي لو كان قد تـهامس بعبارة واحدة منها حتى بمجالسه الخاصة في عهـد الرئيس الراحل “عبدالسلام محمد عارف” لَقَذَف به، ومن مَعَه، في غياهب المَحاجِر.

“أحمد حسن البكر” المخطط الرئيس لحركة (17/تموز/1968)

“الفريق الركن صالح مهدي عماش” الساعد الأيمن لـ”أحمد حسن البكر” في التخطيط لحركة (17/تموز/1968)

صورة ثانية للفريق الركن “صالح مهدي عماش”

“صدام حسين” يتواجه مع “أحمد حسن البَكْر”
كل ذلك جرى -وإستناداً إلى أقوال بعض الضباط من أصدقائي- قبل أن يُفاجأ “أحمد البكر” بحضور شاب يُدعى “صدام حسين التكريتي” بمنزله في حي”الداوودي-كرخ بغداد”، ليس لمجرد السلام عليه بمناسبة عودته ((الميمونة)) للوطن فحسب، بل ليُسْمِعَهُ أفكاراً جـدّية تؤول إلى عودة حزب البعث للسلطة.
ولكنه لمّـا إستشفّ في عَـينَيّ “البكر” شيئاً من الإبتسامة والإستهزاء والمزيد من عدم الإكتراث واللامبالاة، فـقـد أمعن بالحديث وبعبارات مُحْكَمَة أطلقها بكل تلك الثقة التي يمتلكها في قرارة نفسه، ليُذكّره بأنه:-
((يا رفيق “أبو هيثم”:- قبل كل شيء يجب أن تدرك أنني ما زلتُ ذلك الإقتحاميّ الذي حمل رشاشة وضرب “عـبدالكريم قـاسم” قبل ثمانية أعـوام، وأنا الذي ترأّستُ مجاميع الإغتيالات قـبـل (4) سنوات فقط وما زلتُ، وقد أناط لي الرفيق “ميشيل عفلق” أمين سر القيادة القومية منذ عام (1965) وقتما هربتُ من “السجن رقم/1” إلى “سوريا” منصب” أمين سر قيادة قطر العراق” لحزبنا، حينما وعدتُه بإعادة الحزب إلى السلطة، بينما كنتم أنتم جميعاً جالسين مع نسائكم وأولادكم قابعين في بيوتكم آمنين مطمئنين بعد ردّة ( 18/تشرين/1963)… أما الذين يدّعون أنفسهم -وأنت منهم- كونهم يقودون حزب البعث في العراق ليسوا إلا ّضباطاً متقاعدين لاحول لهم الآن ولاقوة ولا قاعدة شعبية يمكنهم الإستناد عليها في حالة نجاح أية حركة تقودونها… وعليك أن تعلم أني أنا الذي أُمسك بنهايات خيوط التنظيمات المدنية العليا والعسكرية الصغرى المُقتدرة على قلب موازينكم حيال أيّ نجاح يمكن أن تحرزوه أنتم العسكريون))!!!

الشاب الطموح “صدام حسين”

وبينما كانت العبارات -وحسب أقوال أصدقائي أنفسهم- قوية الوقع للغاية على شخص “أحمد البكر” بحيث أصابته في صميم أعماقه وأخذت منه في قلبه وعقله مأخذ الجدّ أياماً عديدة مع لياليها، مُعتبراً إياها نوعاً من التهديد الواضح الذي ربّما يؤثّر سلباً على مسيرة ما يُخطّط له مع أقرانه من القياديين، إلاّ أنه لم يَـبُحْ تفاصيل لقائه مع “صدام” سوى لعدد ضئيل من أصدقائه المقرّبين وبعد معاناة طالت ليالٍ عصيبة، إذْ إتفقوا على مسايرة هذا الشاب الإقتحامي المتهوّر والإفادة المرحلية من إندفاعه ريثما يتم التخلّص منه بين عشية وضحاها بُعَيدَ نجاح الإنقلاب المزمع.
“صدام” يستثمر… و”البكر” يساير
أما “صدام حسين”، فإنه في حقيقته لم يكن يمتلك مـن تنظيمات حزب البعث سوى بضع عشرات من الأشخاص يمكن الإعتماد على إندفاعاتهم الفردية وتطرّفهم وإجادتهم إستخدام السلاح، فضلاً عن أولئك الذين سبق وأن عملوا تحت إمرته ضمن مجاميع الإغتيالات وسط “منظمة حنين”، ولا يُضاف إليهم سوى البعض من الرفاق الذين إرتبطوا بشخصه ضمن مسؤوليته التنظيمية الحزبية وآخرين من أقربائه وأصدقائه الذين قـد يتمكّن من إستمالة بعضهم.
ولكـنه إستـطاع، بإستثمار صـيته الذائع في صفوف الحزب والمُرتَكِِز على مشاركته في محاولة إغتيال “الزعيم قاسم”، أن يُسارع لإعادة علاقاته مع البعض وتجديدها مع آخرين وتوسيع إتصالاته مع سواهم من الميّالين لأفكار البعث أو من هوّاة الإقتحامات والمغامرات السياسية ومُحبّي السلطة -وما أكثرهم- وتوفّق كذلك في إعادة البعض من التنظيمات الحزبية التي تهرّأت تحت ضغوط حكومة “عبدالسلام محمد عارف” منذ أواخر عام (1963)، دافعاً معنويات القائمين عليها بأن حزب البعث يجب أن يعود إلى السلطة بأقرب فرصة سانحة، قاطعاً لهم عهوداً بتعيينهم في مناصب رفيعة تليق بهم لدى تنفيذهم للأدوار التي ستُناط إليهم، حتى إستطاع إعداد قوائم طويلة بأسماء مئات الأشخاص واضعاً إياها أمام ناظِرَيّ “البكر” الذي أخذه العجب وبعض الرهبة، فزادت ثقته بهذا الشاب الذي بلغ من العمر (30) عاماً في حينه.
ويبدو في كل الأحوال أن “البكر” إمّا قد رضخ للأمر الواقع، أو أنه قد أيقن أن “صدام” مُقْتَدِرٌ حقّاً، سواء بشخصه أو بقدراته القيادية والتنظيمية على معاونته في هذا الشأن الخطير، وأن تمتّعه من حيث طبيعة خَلقِه ونشأته بروح إقتحامية يفيد كثيراً في مثل هذه المواقف… لذلك -وحسب شهادة صديقي “خالد بربوتي”- فإن “البكر” لمّـا عَرَضَ عليه “صدام” أن يتولّى هو منصب الرجل الأول في الدولة والحزب ولغاية إنقضاء (10) سنوات على تسنّم البعثيين السلطة، فإن “البكر” رأى تلك المدة مقبولة في نظره بل وطويلة، فلم يعترض على عرض “صدام” السخي، لا سيّما وأنه كان قد إجتاز الـ(54) سنة من عمره، وإتفقا على أن يظل “البكر” مسؤولاً عن الجناح العسكري بينما يُناط لـ”صدام” الجناح المدني،،، ولكن إتّفاقهما هذا سيظلّ سرّاً بين الرجلين للحيلولة دون إثارة مشاعر القادة العسكريين.

التخطيط النهائي لإزاحة الرئيس “عارف”
بدأ الإثنان بالعمل الدؤوب لوضع خطوط عريضة لعملية العودة إلى السلطة، “البكر” في الجناح العسكري، و”صدام” بالجانب المدني، إذْ لم يأْلُ “صدام” جهداً في إستثمار ساعات دوامه المسائي بكلية الحقوق/جامعة بغداد مع بدء السنة الدراسية في خريف (1967)، تلك الكلّية التي تُعتبر-كأية مؤسسة طلابية وشبابية أخرى- مرتعاً خصباً لممارسة السياسة وإجراء اللقاءات الشخصية والجماعية من دون أن تجلب الأنظار كثيراً، وخصوصاً في دول العالم الثالث، بل وحتى أقطار العالم أجمع، إذا ما تدنّت مستويات الأجهزة الأمنية حِرْصاً وأهملت مهمّات المتابعة.
وفي حينه قال لي أحد أصدقائي الأعزاء “ص.م.ص.ص” إذْ كان طالباً بالكـلية نفسها:-
{ لم يكـن “صدام” طالباً سويّاً، بل بعـثياً قيادياً يعرفه الجميع، يحمل مسدساً تحت سترتـه في حَرَم الكلية، مُحاطاً بأشخاص مسلّحين بالمسدسات على مدار الساعة يحرسونه في رواحه ومجيئه، ويوجّه طلاباً من زملائه البعثيين على التجمهر عند حدوث مشكلات مع الشيوعيين والقوميين وغيرهم، بما فيها العراك بالأيـدي والآلات الجارحة، حتى أنه أطلق داخل الكلية أمام الطلاب طلقات عديدة من دون أن تتّخذ إدارة الكلية بحقه إجراءً مشهوداً في حينه!!!؟؟؟}.
الإنقلاب الأبيض
وضع الرجلان أمام ناظريهما، بحضور قادة الحزب الأقدمين، مبدأً يتناقض مع جميع الإنقلابات السابقة، وكانت في غاية الصعوبة، يقضي بمحاولة عدم إراقة الدماء وإبعاد إحتمالات المواجهات المسلّحة قـدر المستطاع، وبشكل خاص في “بغداد” عن طريق إحاطة القصر الجمهوري بشكل مباشر من دون إستمالة قادة عسكريين أو تحريك وحدات عسكرية والإجهاز على نظام الحكم بأسرع أسلوب ممكن.
ولكن عقبات عديدة فرضت نفسها على طاولة النقاش ينبغي النظر في إيجاد حلول لها، وجاء في صدر القائمة كيفية التعامل مع عدد من القادة العسكريّين والمسؤولين عن أمن القصر الجمهوري ووزارة الدفاع بأسبقيّة أولى، ثم العاصمة “بغداد” بأسبقية ثانية، وجميعهم لا يرتبطون بحزب البعث بأيـة صـلة، بل ومنهم من يحمل ضغينة وعـداءً شديداً حيال البعثيين، ولا يُحتمل إستمالته.
وعند عرض أسماء أصحاب المناصب العليا في الدولة أثناء المناقشات تباعاً -بحضور قـادة بعـثيين آخريـن- توضّحت الصورة بجلاء، فهناك مَنْ هُم مـن الضعف بمكان بحيث يمكن الإمساك بهم في منازلهم فجـراً ببساطة وقبل أن يتمكنوا من مغادرة فـُرُشِهم، وآخرون لا بدّ من مُحاصرة مساكنهم والقبض عليهم عُنوة، وقسم ثالث يتوجّب الإحتراس منهم والتعامل بحذر حيالهم ووضع خطة حاسمة للحيلولة دون إفلاتهم من قبضة القائمين بالحركة مهما بلغ الثمـن.
أخطر القادة
ولكن قادة آخرين ينبغي التعامل معهم بشكل آخر:-
فقائد قوات بغداد ((العميد سعيد صُلَيْبي)) لا يمكن إعتباره إلاّ من أخطر القائمين على أمور الدولة وأصعبهم مراساً، وقد أثبت حرصه ووفاءه بحقّ الرئيس الراحل “عبدالسلام” والحالي “عبدالرحمن عارف”، لذا يجب أن يُحْسب له حساب خاص.
كما لا تدنى خطورة كل من ((العقيد الركن عبدالرزاق النايِف)) مدير الإستخبارات العسكرية، و((العقيد الركن إبراهيم عبدالرحمن الداود)) قائد لواء الحرس الجمهوري، و((المقدم سعدون غَيْدان)) قائد كتيبة دبابات الحرس الجمهوري عن “العميد صليبي”.
ولكن، وبعد دراسة مُستفيضة ومُعمّـقة لتطلّعات هؤلاء الثلاثة حصلت القناعة لدى المخطّطين التماس المباشر معهم لكون الحل والربط بين أيديهم، وذلك ببذل محاولات جادة بغية إستمالتهم عن طريق ((طُعُم)) يُقذَف أمام ناظريهم على شكل رُتَب ومناصب تُصْعِقُهُم صَعْـقاً فلا تغدو بإستطاعتهم مقاومتها، أوانئذ سوف لا يصطفّون برضاهم لصالح الحركة فحسب، بل أنهم سيلهثون لهثاً لضمان نجاحها.

إغواء البعث لكبار مسؤولي أمن النظام
خُوّل ” البكر”-إستناداً لأقوال “المقدّم الركن طارق جلال القاضي” -قائد فوجنا لاحقاً (1970-1971)، والذي عمل بعدئذ برتبة “عميد ركن” سكرتيراً شخصياً للرئيس”البكر” في وزارة الدفاع- بهذه المهمّة التي بدت في أوّلها عسيرة للغاية، ولكنها ستتمّ بسهولة ويُسر غير متوقّع:-
فــ”العقيد الركن عبدالرزاق سعيد النايف” يُمنح رتبة فريق ركن ويصبح رئيساً للوزراء.

 

“عبدالرزاق سعيد النايف” وقتما كان برتبة “رائد ركن”
و”العقيد الركن إبراهيم عبدالرحمن الداود” بالرتبة نفسها ويُعيّـن وزيراً للدفاع.

“إبراهيم عبدالرحمن الداود” برتبة “فريق ركن” وزيراً للدفاع لـ(13) يوماً فقط

و”المقدم سعدون غيدان” يُرفّع لرتبة “لواء” ويُمْسي في قيادة جديدة تُؤَسّس لأجله تحت مسمّى “قيادة قوات الحرس الجمهوري”.
والجميع يمسون أعضاء في “مجلس قيادة الثورة”.

صورة جمعت الصديقين “الرائد سعدون غيدان” آمر كتيبة دبابات الحرس الجمهوري مع “المقدم الركن عبدالرزاق النايف” معاون مدير الإستخبارات العسكرية عام (1966)

 

“سعدون غيدان” بعد منحه رتبة “فريق”

فما كان من الأصدقاء الثلاثة إلاّ أن ساروا على الخطّ المطلوب حتى تمّ الإتفاق معهم على نقـل عدد من الضباط البعثيين -سراعاً وبالإسم- إلى لواء الحرس الجمهوري، وخصوصاً فوجه الأول، ليحصـل بعض التكافؤ مع نسبة ضباطه الآخرين الذين قد يقْدِمُون، في أسوأ الإحتمالات، على مواجهة الحركة.

معضلة “سعيد صليبي”
أما الإجراء العصيب/اليتيم فسوف لا يُتّخذ سوى أزاء “العميد سعيد صليبي” لوحده… ولكن ضربة حظّ أخرى لم تخطر على بال أحد ستحصل، حين يعزم هذا القـائد المُخلص لرئيس الـدولة -وبتشجيع حثيث من أصدقائه الثلاثة وتطمينه- التمتّع بإجازته الصيفية للراحة والإستجمام -كعادته في كل موسم صيف- ولأكثر من شهر يقضيها في” لندن” إبتداءً من مطلع (تموز/يوليو)!!!

“العميد سعيد صليبي” قائد قوات بغداد وقتما كان برتبة “عقيد”
وقد قيل كذلك بعدئذٍ -حسب رأي السيّد “صبحي عبد الحميد” زعيم كتلة الضباط القوميّين/الناصريّين في عهد الرئيس “عبدالسلام محمد عارف”(1963-1966)- أنّ “العميد سعيد صُلَيبي” قد كان مُتَّفِقاً في الخفاء مع “أحمد حسن البكر” للتمتّع بهذه الإجازة وفي ذلك الشهر تحديداً لينأى بشخصه عن الأحداث تلك، وذلك مُقابل مُغرَيات لم يَفِ بها القادة البعثيّين بعدئذٍ.

صورة تجمع بين وكيل رئيس أركان الجيش “اللواء عبدالرحمن عارف” وإلى جانبه “العقيد سعيد صليبي” قائد قوات بغداد عام (1964)

وجوب إشراك اللواء المدرع العاشر
لـم يَبْقَ أمام المخططين مع هذه التسهيلات التي أتاحها القدر غير تحديد ساعة الصفر، ولم يَعُـد يُشغلهم سوى عدد من الطرق الداخلة إلى “بغداد”، والتي إنْ لم يتم إغلاقها بقطعات عسكرية قوية فإن بإمكان تشكيلات عسكرية عديدة أن تتحرّك نحو العاصمة بغية إجهاض الحركة أثناء تنفيذها… فجاءت ضربة الحظّ الثالثة، فقد كان اللواء المدرع/10 -وهوالتشكيل الوحيد التابع للفرقة المدرعة/3 الذي لم يتحرّك معنا قبل عام واحد للمشاركة في حرب حزيران- قـد تكاملت تجميع كتائب دباباته ووحداته وسط معسكر”الحبّانية” مطلع شهر (تموز-يوليو/1968) لغرض إعادة تنظيمها في غضون أسابيع، وتدريب طوائفها على إحتمالات المواجهة مع جيش نظاميّ وإجراء تمرين بجميع دبابات ومدرعات ومدافع وحداته يُستخدم فيه العتاد الحقيقي تجاه عدوّ مُفتَرَض بعد طول إنتشار وسط جبال المنطقة الشمالية من العراق، والتي توقّفتْ في ربوعها العمليات القتالية بشكل عام، حيث توجّهت أنظار القادة البعثيين إليه، ولاسيّما أن وحدات هذا اللواء تحتضن عدداً غير يسير من ضباط مُرتبطين بالحزب من جهة، وأن لـ”البكر” علاقة شخصية حميمة بقـائـد اللـواء “العميد حمّاد شهاب التكريتي”، ناهيك عن كونهما من مدينة واحدة من جهة أخرى.
بذل “البكر” جُهداً مُضْنِياً في سبيل إقناع “العميد حمّاد” بالمشاركة في هذه الحركة بعد أن وصفها الأخير بـ((الخيانة والغدر وأشبه ما يكون بخنجر في الظهر بحق الرئيس “عبدالرحمن عارف”))، ولم يوافق إلاّ على مضض وبعد أن رَضَخ “البكر” -بحضور آخرين- لشرطين أساسين:-
أولهما عدم المَسّ مطلقاً بشخص الرئيس “عبدالرحمن عارف” وأيّ فرد من عائلته وأن يُعرَض عليه مغادرة العراق إلى حيث يشاء بكل إحترام وتقدير.
وثانيهما أن لا يُشرَكَ لواؤه بأي إقتحام في داخل “بغداد”.

وهـدّد في الختام أنه سينقلب ضـدّ القائمين بالحركة إذا أخلّـوا بأيّ من الشرطين.

“حماد شهاب التكريتي” بعد منحه رتبة “فريق”

“صدّام حسين” يتقابل مع القصرالجمهوري
كان عمل البعثيين، ومن ناصَرَهُم، مع مطلع (تموز-يوليو/1968) أشبه بخلية نحل جبّـارة، وبُلّغ كبار القادة المعنيّين وآخرين من المُشرفين على تنفيذ الحركة، وأُبلغ كلّ بواجبه المحدّد وفقاً لآخر التنقيحات، وتمّ توقيت فجر (الأربعاء-17/تموز/1968) موعداً للتنفيذ، وذلك تَناغُماً مع اليوم الثاني من تطبيق جحفل اللواء المدرع/10 لـتمرينه المُبرمَج الذي كان “العقيد الركن طارق توفيق عبدالرزاق” -مدير البحوث والتمارين بوزارة الدفاع والصديق الشخصي للبكر وحمّاد معاً- قد أعدّه بحكم منصبه، ولكن قبل أن يطَوَّرَه نحو الشرق من براري “بحيرة الثرثار” كي تبلغ الوحدات المنفذة للتمرين ضواحي “معسكر التاجي” تمهيداً لإنجاح الحركة الإنقلابية بإتّفاق شخصيّ مع “العميد حمّاد شهاب التكريتي”ولمجرد الصداقة القائمة بينهما -حسب قوله-.
لم يعترض أحد من القادة البعثيّين على شيء مهم سوى “صدام حسين” الذي أصرّ على أصحاب الخطة بأنه -فضلا ًعن قيادته للجناح المدني- ينبغي أن يُـناط لذاته مهمّة إقتحاميّة ليغدو على مرأىً من القصر الجمهوري، ليس لذلك الطبع المغروس في شخصه فحسب، بل لربّما لأكثر من سبب آخر مهمّ للغاية بنظرته نحو الأمور، وفي مقدمتها:-
ضرورة أن يكون هناك إشراف بعثيّ قياديّ مباشر على التنفيذ وعدم إبقائه حصراً بين يديّ آخرين، فقد يدّعي بعضهم مستقبلاً أنهم هم الذين أكملوا كل شيء وسـلّموا الحكم على طبق من ذهب بين يدي البعثيين.
البرهنة للآخرين بشكل مشهود أن ليس ضباط الجيش لوحدهم هم الوحيدون المقتدرون على المخاطرة بأرواحهم، بل أن هناك مَنْ هو متكافئ معهم.
أن يُـثبت شجاعته الشخصية في أصعب مراحل التنفيذ من دون الآخرين، ولهذا فوائد عظمى سيجنيها في قادم الأيام.

ساعة الصفر حانت
من المنطقيّ أن لا أخوض في مجريات ليلة تنفيذ الحركة ويومه وما وقع من أحداث جِسام داخل القصر الجمهوريّ وفوج الحرس الأوّل وإشترك فيها العديد من زملائي وأصدقائي الأعزّاء، أوعانَوا من أوزارها، والتي يتطلب لها مُجلّد ضخم،،،، فالأهمّ أنه مع فجر يوم (17/تموز/1968)، وبينما كان الرئيس “عارف” غارقـاً بنومه المُعتاد في جناحه الخاص بالقصر، فإن أقرب مقرّبيه -فضلاً عن قادة حزب البعث- كانوا مُتّخذين مواقعهم، كل حسب المهمة المُناط إليه.
وفيما تحرّكت دبابات اللواء المدرع/10 لتغلق أخطر الطرق الخارجية الرئيسة المتوجّهة إلى قلب “بغداد”، فقد أجزم “العميد الطيار الركن حردان عبد الغفّارالتكريتي” -القائد الأسبق للقوة الجوية العراقية- سيطرة طيّاريه البعثيين على عموم القواعد الجوية،،،، وفيما كان قائـد كتيبة دبابات الحرس الجمهوريّ “العقيد سعدون غيدان” -حسب أقوال إبن أخته (الملازم؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟) الضابط في فوجنا قبل أن يعمل فيما بعد مرافقاً عسكرياً لـخاله- قد أكمل إستحضاراته مُستعدّاً لكل ما هو مطلوب منه، فقد دخل “صدام حسين” إلى مكتب “غيدان” مرتدياً بدلة قتال عسكرية من تلك المخصّصة لضباط الـدبابات وقد شـدّ على كتفيه رتبة “ملازم ثانٍ” من دون إتفاق مسبق، ماسكاً بين يديه رشاشة صغيرة (غدارة)،،، وكم إستغرب “غيدان” حين وَجَّهَ إليه “صدام” سؤالاً بنبرة فوقيّة:- ((ها أبو سمرة جاهز لأداء المهمة لو بعدك؟؟؟!!!)) ولكن “صدام” لم ينتظر طـويلاً حتى إمتطى ظهر إحدى الدبابات التي وَجَّهَتْ فوهة مدفعها ورشاشتها الثـقيلة نحو مبنى القصر.

الرئيس “عارف” يستسلم دون مقاومة
وإستناداً للخطة الموضوعة -حسب أقوال أصدقاء عديدين ومنهم “النقيب ماجد محمد توفيق” المُرافق العسكريّ للرئيس “عارف”- وبعد التأكد من الحصار المفروض على جميع أطراف القصر الجمهوري، رنّ الهاتف الخاص بالقرب من سرير الرئيس “عارف” الذي إستيقظ ليرفع السماعة ويُفاجأ من أحدهم بعبارات مسبوكة مفادها ((ضرورة تسليمه السلطة وإستسلامه من دون مقاومة كي لا يُسفك أية دماء!!!!!))، ولما أبدى بالوهلة الأولى عدم رضاه، أطلقت الدبابة التي يقف “صدام” بجانبها قذيفة واحدة نحو السماء أتبعتها بصلية طويلة من رشاشتها “دوشكا”.
وعندها إستشعر الرئيس -حسب قناعته في تلك اللحظة- جدّية الموضوع، وربما إسترخى بعض الشيء لدى سماعه العرض الخاص بتسفيره مع عائلته إلى حيث يشاء خارج العراق، فلم يرغب إطالة النقـاش… إلاّ أنه طـلب من محدّثـه -حسب رواية البعض- شيئاً واحداً ليس إلاّ:- ((أرجوك أن تُراعوا إبراهيم الداود)).
فجاءه الجواب المقابل الصاعق والمُحْبِط لأعظم عزيمة:-
((تبدو، يا أبا قيس أن صوتي إختلط عليك… أنا إبراهيم الداود))!!!؟؟؟.
لهثي وراء مقولة “إبراهيم الداود” الغادرة
والحقيقة أنني، بُعيْدَ إستقرار الأوضاع لصالح البعثيين، لم أستطع قطع دابر الشك بالـيقيـن مـن هـذا الحدث العـميق المُخْجِل لشخص”إبراهيم الداود”، فقد ذكر البعض بأن ذلك المتحدث لم يكن سوى “البكـر” بشخصه، أو ربما “صدام” بذاته، إذْ لا يُعقل أن يسنح هذان الرجلان مثل هذه الفرصة لغيرهما، فيما إدّعى العديد أنه كان “حردان”.
وأدار البعض دائرة الظن نحو “عبدالرزاق النايف” الذي قيل أن الرئيس “عبدالرحمن عارف” ردّ عليه لحظة إخباره بالحركة:- ((إبراهيم الداود كفيل بالقضاء على الإنقلاب في مهده))، قبل أن يردّ عليه “النايف”:- ((سيدي.. إبراهيم هو القائم بالإنقلاب))!!!!.

وأيّاً كان المتحدث فـقـد إنتهت اللُعبة بيُسر واضح وسرعة لم يتوقعها أحد، جراء الغدر والخيانة التي تمتّع بها الأقربون لأمن الرئيس “عبدالرحمن عارف” والمسؤولون الرئيسون عن حماية نظام حكمه… وأن لا بـدّ لي أن أستغـفـر الله-عـزّ وجـلّ- عند إستذكاري لأولئك لملائكة الأطهار الذين عاتبـوه -سبحانه- في الآية الكريمة:-
بسم الله الرحمن الرحيم
((وإذْ قَـالَ رَبّـُكَ للمَلائِكَـةِ إنّي جَاعِـلٌ في الأرْضِ ِخـَليفَـةً قـَالُـوا أتَجْعَلُ فِيها مَـنْ يُفْسِدُ فِيها وَيسْـفِـكُ الدِمَاءَ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟))!!!!!
-صدق الله العظيم-.

علمنا لحركة (17/تموز/1968)
أما أنا، فقد كنتُ ما زلتُ برتبة “ملازم أول” بمنصب “آمر سرية أسلحة الإسناد” وسط ضباط ضباط فوج المشاة الآلي/1-اللواء المدرع/6 المتمركز منذ أواخر عام (1967) حوالي سياج “قاعدة الحسين الجوية” الأردنية بالقرب من مدينة “المفرق” لحمايتها من أخطار أي إنزال جوي إسرائيلي محتمل.
وقد صادف يوم (الأربعاء-17/تموز/1968) أن كانت سريتي المجهزة بمدافع الهاون ومقاومة الدبابات والرشاشات المتوسطة منذ يومين إنقضيا منتشرين وسط ميادين الرمي للجيش الأردني في صحراء “خَو” غربي مدينة “الزرقاء” لإجراء تمارين بالعتاد الحيّ لجميع الأسلحة.
ومنذ الصباح الباكر كنتُ مُشرفاً على ترمية مدافع الهاون (82 ملم) -التي كنتُ أهواها أكثر من الأخريات- بقصف دقيق على العديد من الأهداف الصورية المثبتة في تلول المنطقة بالعشرات من قنابر الهاون، وبصحبتي عريف الفصيل “العريف حاتم طاهر عبدالحسن الفتلاوي” -وهو من أعزّ ضباط الصف الذين تعاملتُ معهم عن قرب خلال كل حياتي العسكرية- حتى حلّت الساعة (11) ظهراً وقتما شاهدتُ سيارة “جيب-UTILITY” مسرعة نحوي من إتجاه الشرق، فأوقفتُ الرمي بإنتظار وصولها.
ترجّل منها “الملازم أول عبدالجليل محسن محي” مسرعاً نحوي وقد بان فرح غامر على وجهه البشوش قبل أن يحضنني ويقبّلني بحرارة قائلاً:-
((حبيبي صبحي… لقد عاد البعث إلى سدّة الحكم)).
كان الخبر صاعقاً، ولكنه لم يكن مستغرَباً في عراقنا الذي أُبتُلِيَ بالإنقلابات العسكرية منذ (10) أعوام منصرمة، فيما لم أدرِ حتى هذه الساعة لماذا سارع “عبدالجليل” لإعلامي بالإنقلاب دون الآخرين أو قبلهم!!!!!
طلبني آمر فوجنا “العقيد محمود بكر أحمد” على الجهاز اللاسلكي وأمرني بإيقاف ما تبقّى من تفاصيل التمارين والحركة فوراً إلى براري “المفرق” قبل أن يبعث لي برقية فورية بالمنحى ذاته.

الأحداث تتسارع
وطوال الطريق الذي رافقني فيه الملازمان “إبراهيم جهاد عزيز، وطارق محمود معروف” مستغرقين نحو ساعتين، كان جهاز الراديو الصغير قرب أذاننا نستمع إلى إذاعة “بغداد” بصعوبة بالغة وهي تبثّ بيانات صادرة من “مجلس قيادة الثورة” ولكن من دون أن تحتوي على إسم أي شخص… في حين كانت الإذاعات “الأردنية، السورية، المصرية، البريطانية، والإسرائيلية” في غاية الوضوح وقد تصدّرت أخبار “العراق” نشرات أخبارها وتقاريرها وتحليلاتها المتواصلة، حتى وصلنا “المفرق” متوجهين بمُرتَدياتنا الـمُترَبة وأجسادنا الـمُتعرّقة إلى بهو الضباط وسط خيمتين كبيرتين لنجد الجميع ما بين فرِح ومُتجهّم من هول الحدث، كلّ حسب رؤاه ومشاعره وأحاسيسه.

ضباط بعثيون يُنقًلون فوراً إلى الحرس الجمهوري الجديد
كان “الملازم أول عبدالجليل محسن” وصديقنا الآخر “الملازم أول باسل أحمد طاقة” قد رزما حقيبتيهما وتهيّـآ لوداعنا قبل أن يسافرا سراعاً إلى “بغداد”، فقد صدر أمر نقلهما من فوجنا “برقياً” وإلحقهما فوراً إلى “فوج الحرس الجمهوري الأول” المتاخم للقصر الجمهوري الذي خوى فيه عرش الرئيس “الفريق عبدالرحمن عارف” فجر ذلك اليوم وسُفِّرَ بصحبة أولاده إلى “لندن”.
وممّن لا تخونني ذاكرتي على إيراد أسمائهم، فقد نُقِلَ من كتيبتَي دبابات “خالد والمقداد” التابعتَين للوائنا المدرع/6 كل من الرائد “محمد إسماعيل الوَيِّس” والنقيبان “نصيّف جاسم الرُبَيعي، وسعدي طُعمة عباس الجبوري” باليوم نفسه إلى كتيبة دبابات الحرس الجمهوري.
تبدلات فورية في القيادات
ظهر ذلك اليوم علمنا أن قائد فرقتنا المدرعة/3 “العميد الركن محمود عُرَيم” قد أسرع إلى “قصر رغدان” مُلتجئاً إلى شخص جلالة “الملك الحسين الثاني” ليقينه أن البعثيين سوف لا يرحمونه مطلقاً ما دام قد شارك قبل (5) سنوات تحت قيادة “الرئيس المشير الركن عبدالسلام محمد عارف” في الإنقلاب عليهم وإزاحة حكمهم يوم (18/تشرين ثاني/1963)، فإن أمراً صدر من مجلس قيادة الثورة بإعفائه من منصبه وإناطة قيادة الفرقة لـ”العقيد الركن (البعثي) حسن مصطفى النقيب” آمر لواء المشاة الآلي/8 المتمركز بمعسكرات الجيش الأردني قرب مدينة “الزرقاء”، في حين تم تعيين آمر فوجنا “العقيد محمود بكر أحمد” في منصبه، وخلفه “المقدم الركن محمود مصطفى السامرائي”.

أحدث المقالات