بقيت العمارة الإسلامية محافظة على عناصرها الأساسية المميزة لها عن بقيّة العمارات الإنسانية الأخرى ، فالعمارة والفنون والآداب الإسلامية جاءت أصلا لتخدم أهدافا دينية ، وهي كانت منسجمة مع العقيدة الإسلامية إلى درجة كبيرة ، فغايات الفن الإسلامي وأدواته ومفرداته الجمالية ليست منفصلة عن الجوانب الروحية والدينية للفرد المسلم ، والوحدة الفنية الجمالية فيه تتسم بالتجريد والابتعاد عن القيم المادية ، وهي تستهدف تحويل القيم الروحية إلى خطوط وألوان مسطحة ومجردة من أية دلالة في العالم المنظور لتقود إلى نزعة صوفية منفتحة على عالم أكثر صفاء وإشراقا من عالم المادة . والجمال في الفن الإسلامي موّجه لإيقاظ الروح قبل إغراء العين وهو مرتبط بمبدأ التوحيد الجوهري الذي فرض أسلوبا معينا على أدوات الفنان ورؤيته ، وفي الفن الإسلامي تغيب ذات الفنان تماما وتضمحل أمام عظمة الخالق لنجد بالتالي فنا يصح نسبته للأمة لا لشخص بعينة ( فالفن الإسلامي كالعلم الإسلامي والحياة الاجتماعية الإسلامية والفلسفة الإسلامية لا يمكن فهمها إلا من خلال مبدئها الأساسي وهو العقيدة الإسلامية ) كما قال المفكر الفرنسي روجيه غارودي . وبقي هذا الجانب الحضاري من حياة الأمة الإسلامية بعيدا عن التأثيرات التقنية المتطورة عبر الزمن وحذرا في التعامل معها ، فالمعمار المسلم كان ذكيا في استعمال التقنيات الحديثة بصورة مراوغة وخلاقة جعلت تلك التقنيات غير طاغية وغير مؤثرة في الصورة الكلية وعناصرها الأولى في العمارة الإسلامية ، لكن الذي حدث في السنوات العشر الأخيرة إن إعمارا غوغائيا مخلا وخطيرا قد طال أماكن وعمارات إسلامية مهمة وهو ينذر لا بتشويه صورتها التقليدية في الخارج فحسب بل بتغيير صورتها الذهنية المخزونة في عقل ووجدان الفرد المسلم وربما تجاوز ذلك إلى تغيير في هويتها ووظيفتها الإسلامية بصورة أساسية !!
إن العنصر الأساسي في العمارة الإسلامية سواء في الدور أو المساجد أو الأسواق يقوم على وحدة الفضاء المفتوح والفناء المتصل ، ليحقق بذلك علاقتين آنيتين ؛ الأولى مع البيئة المحلية للمنشأة المعمارية من خلال التداخل اللوني الناتج من امتزاج أشعة الشمس مع الجدران والنوافذ الملونة مع تطعيم ذلك بظلال ليست وارفة لشجيرات منفردة من النخيل والسدر وغيرها ، والعلاقة الثانية مع
السماء غير المحجوبة وما وراءها من الكون الأرحب الذي يجذب النهايات المقوّسة والمدببة للقباب والمنائر في شبه إنحناء لا في المكان وحده وإنما في زمان وكيان الزائر المتطلع إلى إدامة الوصل.
إن الذرائع التي يقدمها المسئولون عن هذه التغييرات الكبرى في بنية العمارة الإسلامية مثل دواعي توفير الراحة أو استيعاب الأعداد المتزايدة من الزائرين أو مواكبة التطوّر هي ذرائع متهافتة كان يمكن الظفر بمطالبها مع المحافظة على روح العمارة وجوهرها وعناصرها الأساسية ، مع لحاظ إن المباني الدينية ليست مرافق ترفيهية أو سياحية ، كما إن المشاغل الخدمية للمريدين يمكن أن تعالج بعيدا عن البنية الأساسية لهذه العمائر .
إن نظرة خاطفة إلى الحرم المكي اليوم وما سيكون عليه بعد بضع سنين تؤكد إن البيت العتيق سيتحول في ظرف بضع سنين إلى ما يشبه الملعب الرياضي الضخم بمضاميره المدرّجة وطوابقه المتراكبة بحيث ستُطمر الكعبة نفسها داخل بلايين الأطنان من الكونكريت المسلح والفولاذ المقوى وسيتعذر الوصول إليها إلا عبر شبكة واسعة ومعقدة من الجسور والسلالم والمصاعد الكهربائية !! ستتحول الكعبة وحرمها إلى منشأة مدنية باذخة ومعقدة وفاقدة لسحرها العتيق بعد أن كانت مثابة دينية بسيطة وخلابة للمسلمين . كعبة المسلمين الأولى سوف لن تختلف عن أي برج من أبراج أمراء البترول في المنطقة إلا بعنوانها القديم ، المشاعر الأخرى في المزدلفة ومنى ستشهد المصير ذاته !!
عمائر الشيعة ومراقدهم المقدسة لن تكون بعيدة عن هذه الموجة التي بدأت فعلا في كربلاء حيث يقع مرقد الإمام الحسين – عليه السلام – فبعد أن تمّ تسقيف الصحن الحسيني بصورة كلية تحول ذلك الصحن المفتوح إلى ( خان ) مظلم توجّب إنارته بآلاف المصابيح والثريات !! وجد المعمار الذي اقترح هذا السقف ونفذّه نفسه في قبوٍّ مسطّح وجامد لا ينم عن أي ذكاء في الهندسة أو جمال في الريازة فأراد تلافي تلك الطامة وتحريك هذا السقف الجاثم على صدر وجسد المرقد ببعض القباب الصورية والزخارف الكثيفة ، ومع ذلك التسقيف فقدت القبة والمنارات أي معنى لوجودها ، والأهم من ذلك كلّه أن الصحن الحسيني فقد ما تحدثنا عنه من اندماج مفترض في العمارة والفن
الإسلامي بين المنشأ الديني وبيئته وأفقه الأعلى ومريده الزائر وما يستذوقه أو يستشعره من ارتباط تلقائي توّفره هذه العلاقات المكانية والزمانية والروحية ، وقد تعزز شعور الزائر بالانعزال الذي تفرضه الأماكن المغلقة مع ما رافق ذلك التسقيف والحجب الصناعي من إضافات مفرطة وعشوائية لأبنية جديدة لا علاقة لها بالأصل الديني لوجود المرقد ، والواقع إن هدفها الأول هو أن تكون منشئات خدمية ( لحفظ الأحذية وأجهزة الموبايل ) أو إدارات ومقرات للمسئولين الذين فاقت أعدادهم كل تصوّر وحساب ..
يستطيع اليابانيون والصينيون والأوربيون أن يطوّروا معابدهم ومراقدهم وكنائسهم وفق آخر التقنيات في الصناعة والبناء والهندسة والطاقة ، وهم يستطيعون أن يجعلوها معلّقة أو طائرة في الهواء لكنهم لم يفعلوا بسبب ترقي أذواقهم وبسبب احترامهم للقيمة الدينية لتلك الأبنية المادية مع حرصهم على القيمة الآركيولوجية و التاريخية لتلك المنشآت ما جعلهم يتوقفون كثيرا بل يحجمون عن إحداث أي تغيير شكلي أو جذري فيها ..