19 ديسمبر، 2024 12:07 ص

التحولات الشرق اوسطية العميقة وأسئلتها الملحة

التحولات الشرق اوسطية العميقة وأسئلتها الملحة

على الرغم من أن السمة العامة لهذه المنطقة المسماة بالشرق الأوسط هي حجم وعمق التحولات والأحداث، وأن مركبا معقدا من أسباب داخلية وخارجية، وفواعل وعوامل متعددة تقف وراء معظم أحداثه، كما أن معظم ما يجري فيه ينعكس جوهريا على كل الخارطة العالمية وخصوصا في أجزائها المهمة إلا الفترة القريبة المنصرمة شهدت وتشهد مجموعة أحداث تؤشر أنها المدخل لوضع ربما يجعل المنطقة مختلفة إلى حد كبير عما كانت عليه.
قائمة المستجدات كثيرة وكبيرة لكن ما نؤشره هنا هو ثلاثة أحداث غير متساوية في نمطها ودرجة تأثيرها لكننا سنحاول الكشف عن الخيوط المختفية في المناطق الرمادية التي تعد بمثابة جسور لتشبيكها، كم أننا نحاول أثارة مجموعة الأسئلة الملحة التي تفرضها تلك الأحداث.
يتمثل الحدث الأول في تصاعد الخلاف بطريقة دراماتيكية عجيبة بين قطر من جهة والسعودية والأمارات والبحرين ومصر من جهة أخرى، فبين ليلة وضحاها أرتاح الجميع من العربية والعربية الحدث ولم يبقى لها سوى الحديث عن فضائح قطر وأمرائها ودورهم في دعم الإرهاب، ومعادة دول الخليج، وخلق البلبلة في المنطقة واحتضان الاخوان، وتبع ذلك إجراءات لم تسبق في تأريخ مجلس التعاون من قبل تمثلت في سحب السفارات وغلق الحدود ومنع السفر وحصار كامل على قطر.
الحدث الثاني هو قصف القوة الصاروخية الإيرانية لأهداف في العمق السوري في منطقة الميادين ودير الزور وكانت ستة صواريخ بالستية متوسطة المدى من نوع ذو الفقار استهدفت تجمعات لداعش واجتماع لـ (90) شخصية من قياداته، فضلا عن ضرب مجمع للسلاح والعتاد وكذلك ضرب غرفة القيادة التي تدير من خلالها داعش عمليات مطار دير الزور، وكانت الضربة الأولى توجهها إيران لبلد خارج حدودها منذ تأسيس الجمهورية في 1979 إذا ما تجاوزنا الحرب العراقية- الإيرانية.
أما الحدث الثالث وهو الأكثر أهمية، إذ استفاق السعوديون على انقلاب سلس تم في عمق الليل حيث تمت الإطاحة بولي العهد محمد بن نايف ليتم اعلان محمد بن سلمان الشاب ذي الواحد والثلاثين سنة وليا للعهد مع احتفاظه بمنصبي نيابته لرئيس الوزراء ووزارة الدفاع، وهي الخطوة التي لا يشك فيها أحد أنها القدم الأقرب لإعلان محمد ملكا للسعودية بأقرب وقت ممكن حتى وأن تطلب الأمر أن يموت الملك سلمان بجنود من عسل.
قال الحرس الثوري في إيران أن الضربة جاءت ردا على الأعمال الإرهابية التي أرتكبها داعش مؤخرا في طهران وأن الصواريخ تم أطلاقها من محافظتين ذات وجود سني هما كرمنشاه وكردستان ،وتقول القراءة الأعمق أن الرسالة أكبر وأبلغ ،وهي تخاطب الأمريكان أولا والإسرائيليين ثانيا ،أن اليد الإيرانية قادرة على أن تطول أي هدف يزاحمها في منطقة صراع النفوذ والقوة ،وأن أي ترتيبات مفروضة على حلفاء إيران أو عليها من خلالهم سوف تواجه ردا مباشرا بنفس الطريقة والقوة ،كما أنها تخاطب كل العرابين الذين يحملون مشاريع مختلفة للمنطقة جوهرها محورة العداء حول إيران واستقطاب كل القوى في مركز هذا العداء ،وأقصائها كلاعب فاعل بعيدا عن أي ترتيبات تجري معها أنها قادرة على فرض وجودها الحسي بأدوات تناظر أو تفوق أدوات الآخرين ،وأن ثقافة المغامرة قد تكون مطلوبة في منطقة يلعب بخيوطها المغامرون والمقامرون ،وأن ما تم فعله في سوريا قابل للتكرار وبنسخة أكثر وضوحا في أماكن مختلفة إذا ما تطلب الأمر ذلك.
كانت السمة الغالبة لدول مجلس التعاون هي الوفاق على الخير والشر، ومع وجود الاختلافات على ملفات الحدود ووجهات النظر حول قضايا معينة إلا أن الأمر لا يصل إلى هذه الدرجة من التقاطع مثل ما نشهده من الحالة القطرية والآخرين.
ما هو المنهج القطري الذي أوصل الآخرين ليجن جنونهم بهذه الطريقة؟ ببساطة قطر الدولة الصغيرة مساحة وسكانا والمقتدرة اقتصاديا والنافذة علائقيا ،ومنذ سنوات أراد ت ومن خلالها الأمير حمد ومن بعده تميم وبمؤازرة محرك منجم القوة الناعمة القطرية الأميرة موزة أن يتم تعويض الجغرافية الضيقة وعدد السكان المحدودين بجيبولتك واسع الطيف يمتد لمعظم مساحة الخليج ويتعداها من خلال توظيف أدوات القوة الناعمة التي تملكها بغزارة ،وهو ما ينتج رمزية عالية في الفعل والتأثير لهذه العائلة ،وتصبح قطر هي مركز قيادة الخليج والمنطقة والبوابة الرئيسية التي تجري أمريكا والغرب ترتيباتها من خلالها ،كما أنها حلقة ربط التوازنات المعقدة التي تستطيع تشبيك الأخوانجية والإسرائيليين والإيرانيين والأمريكان والأتراك وربما الروس في شبكة واحدة.
المنافس المحوري لقطر على مستوى القوة الصلبة يتمثل في السعودية المتعكزة على ثنائية عصبة القبيلة والدين المتماهي حد الاندماج مع السلطة والمتمثل بالنسخة الوهابية، كما أن حزمة علاقات السعودية وتحالفاتها الاستراتيجية مع الغرب هي الأخرى الذراع الثاني لهيكل قوتها ،فضلا عن الموقع والسكان والقدرات الاقتصادية الهائلة ،كما ينافس قطر النسخة الإمارتية في بعدها الحداثوي والاقتصادي ،وبناء على هذه المعطيات تبنت قطر دعم النسخة المخالفة للأسلام السعودي والمتمثلة بأخوان مصر وشجعت على أنتشار هذه النسخة بقوة من خلال ما يسمى بالربيع العربي في مصر وليبيا وسوريا وحاولت في العراق وكل ذلك بمباركة تركية أوردغانية ،كما أنها اختصرت الطريق لتشد حبلها في أوثق عروة مع أمريكا والغرب من خلال الحلقة الإسرائيلية وهي تقود عملية إدامة علاقات على قدم وساق ،وفي ذات الوقت أبقت على خيوط الاتصال مع إيران لأنها تدخل في معادلة إضعاف الدور السعودي والإماراتي ،وتحولت بعد فشل مشروع الأخوان إلى محور صدام مع ظاهرة (مصر/السيسي) مع الاحتفاظ بخيوط الربط مع النسق الأخواني الضارب في جذوره في عمق المجتمع المصري وإن غاب عن المشهد السياسي.
الشاب الصاعد الذي يمتلك زخما كبيرا يأتي من موقعه القرابي ونفوذه في كل الحلقات المهمة لإدارة المملكة وتسلطه على كل الملفات الحساسة وخصوصا المتعلق بالترتيبات الاستراتيجية للأمن ،ويوآزر ذلك شبكة خاصة من علاقات نوعية ذات مستوى عال مع القيادة الأمريكية الجديدة وطاقمها المهم فضلا عن أهم القيادات في العالم بما في ذلك القيادة الإسرائيلية ،ينبغي عليه أن يقوم بجردة عالية الكلفة ليتم إمضاء تسلمه للعرش وفرضه كقائد وأمير لكل المنطقة ومحور ترتيباتها الأساسي ،ويتم أسكات كل الأصوات التي تقف في طريقه سواء في داخل المملكة أو خارجها.
إدارة ترامب ذات الأهداف العالية والمؤمنة بالانخراط العميق لأمريكا في المنطقة والتي تعمل على خلق فاصل مميز في التاريخ الأمريكي بقيادتها في تكتيك وأستراتيج تتوحد فيه مصلحة ترامب التاجر مع مصلحة ترامب الرئيس، وتصير مصالح ترامب الشخصية نفسها مصالح الأمريكيين ودافعي الضرائب، وجدت في محمد بن سلمان الشخص الأوفر حظا للقيام بكل تلك المهام والتي يتفرع منها وعليها الكثير، وعرفت فيه خصلتان هما الطموح والمغامرة واللتان تمثلان المادة الأساس لشخصية يمكن أن تضطلع بدور مهم مثل ما ينبغي له القيام به.
محمد بن زايد ولي عهد إمارة أبو ظبي وقائد الحملة المنظمة على الأسلام السياسي في المنطقة والنظم الديمقراطية أيضا هو المرشد الحالي لزميله الشاب محمد بن سلمان والذي أبلغه أن طريقه للعرش يحتاج منه القيام بخطوتين:
الأولى: فتح قناة تواصل مع إسرائيل، وقد فعل ذلك، فتحت قيادته تبدو المملكة اليوم أقرب من أي وقت مضي للبدء في ارتباطات تجارية مع تل ابيب. ويقرأ كل من وزير الخارجية السعودي عادل الجبير وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، من نفس النص في المحاولة لأدراج حماس ضمن القائمة السوداء.
والثانية تقليص سلطة الدين في السعودية، فأبن زايد ينصح بأن المؤسسة الدينية لا ينبغي أن يكون لها سلطان خارج دائرة الحرم المكي وضمن الترتيبات الدين الشكلية، وأن تتحول المملكة تدريجيا إلى مدن علمانية ليبرالية والأرضية مهيئة لذلك.
وعلى الرغم من أن بن سلمان فعل ذلك لكنه عمل على تسخير السلطة الدينية له وأتخذها غطاء من الدعم والمباركة على الأقل في المرحلة التكتيكية ،وقد شاهد العالم ما يسمى بمفتي المملكة في وضعه الذي يخجل شكلا وحديثا وهو يمضي صفقة ليلة القدر مع جمع من اتباع السلطة من عمال الدين في المملكة ،وهو مشهد يتصل بالصورة المفضوحة التي تسربت من يد الاعلام السعودي الذي حاول ان يخرج مباركة ابن نايف لابن سلمان على انها انتقال سلس للسلطة ،وطريقة التقبيل المنافق الذي يمارسه الشاب الذكي مقابل الوضع المرتبك الذي ظهر به ابن نايف وآثار غزوة الليل على جبينه.
لن يطول انتظار تربع محمد بن سلمان على عرش المملكة طويلا ،فسوف يكون لعزرائيل حضور قريب في المنطقة إذا لم يقرر الملك التنازل الطوعي ،وعندها سيتم الاعلان عن الترتيبات العلنية لمرحلة بن سلمان ،والتي يمثل سمتها البارزة أمران ،الأول يتمثل في علاقات علنية عميقة مع إسرائيل ،والثاني هو أنهاء ما يسمى بالدولة الدينية السعودية والتحول التدريجي لكيان حداثوي ،يخلص السعوديات من البرقع والنقاب ،ويمنح إجازة السوق بشكل جماعي ،ويبشر شواطئ جدة بالمزيد من صور السباحة بالمايو ،وهي صور ستكون محل ترحيب شديد لمعظم السعوديين خصوصا طبقة الشباب الذين يسجلون سبقا على كل العالم في تواجدهم الفعال في المواقع الإباحية وحياة الليل ،وفي ظل هذه الصورة سوف يتم تسريب كل الترتيبات التي تريدها أمريكا والغرب وإسرائيل وعلى رأسها تطويق إيران والقضاء على حزب الله في لبنان ،وإعادة صياغة تشكيل المنطقة بشروط جديدة ،حيث يراد لقطر أن تغيب عن اللعبة.
وفي هذا السياق سوف يتم ترتيب وضع اليمن من خلال الإطاحة بعبد ربه هادي منصور والاتيان بخالد بحاح الموالي لابن زايد وابن سلمان ويتم من خلاله اكمال الترتيبات اليمنية على المقاس السعودي/الامارتي.
ومع أن الأمور مستوسقة بين أبن زايد وأبن سلمان الآن إلا أن هذا لن يكون مستمرا خصوصا بعد أن يتربع الشاب الجديد على عرش المملكة ويصبح من غير المناسب أن يكون تحت تأثيره مرشده، لذلك يلوح فراق في الأفق، كما أن هذه الترتيبات لن يسكت أمامها المتضررون، فتركيا تزحف إلى الدوحة والكويت وعمان وقطر مضطرة للذهاب إلى محور إيران، خصوصا مع ما يمكن أن يمارسه بن سلمان من هيمنة ودكتاتورية على المنطقة.
الطموحات الجامحة واليد الطويلة كلفت العالم في تجارب سابقة الكثير الكثير ،والمنطقة في ظل شاب مازالت كل الملفات التي تسلمها لم تكتمل ،وهو يتعكز على لعبة الأضداد ،وتوظيف المتفرقات والمتضادات من أجل الفوز بعرش مملكة متخمة بالكهول والشيبة الذي أسدل الستار على طموحاتهم للأبد ،يمكن أن تقود الأمور إلى صورة هي الأخطر في المنطقة ،ولكن هذا لا يعني أن سلفه أو الخلف من الكهول والشيوخ هم أفضل سيرة منه إلا أن الفارق يتمثل في قدرته على خلق شرعية واسعة الطيف عبر تحويل إرادته الشخصية وطموحاته التي هي (حاصل جمع رغباته الشخصية مضاف إليها ما تهمسه له الكثير من الأفواه ذات المصلحة في المنطقة) إلى نسق يمثل الطابع الرسمي لسياسة المملكة.

* الخبير في الشؤون الأمنية والاستراتيجية