19 ديسمبر، 2024 4:58 ص

التحولات الستراتيجية الكبرى في عالم الغد في ظل الصعود النفطي الاميركي

التحولات الستراتيجية الكبرى في عالم الغد في ظل الصعود النفطي الاميركي

من ضمن مشاركاتنا في محاضرات عن ” نهضة الطاقة ” الجديدة في اميركا نهضة الطاقة الجديدة في اميركا لها ابعاد جيوبوليتيكية كبرى …فارتفاع انتاج النفط الصخري الاميركي حوّل اميركا من دولة مستوردة للنفط تسعى الى تامين مصادر انتاجه ونقله بأمان الى اميركا وحلفائها الغربيين الى دولة مكتفية ذاتيا وحتى مصدرة للنفط …وازاحة روسيا والسعودية من المشهد العالمي كاول وثاني منتجين على التوالي …وينعكس ذلك على السياسة الكونية الاميركية بكل ابعادها…حيث لم يعد النفط محور السياسة الخارجية الاميركية ….وبالتالي تبدل الاولويات الستراتيجية الاميركية ….وفي رأيي ان ذلك سنعكس على الستراتيجية الاميركية في النواحي الاتية :
– تحول مناطق الاهتمام الستراتيجي من غرب اسيا او الشرق الاوسط حيث كانت ستراتيجية الحفاظ على مناطق الانتاج النفطي وتامين انظمة دولها اولوية في السياسة الاميركية لاكثر من خمسة عقود ..فلم تعد الهذه الدول اهمية ستراتيجية كبرى وان بقي الاهتمام بها كحليفة ..ولم يمنع ذلك بروز اشارات اميركية قوية بان التغيير اصبح ضروريا في بلدان الخليج خاصة التي لم تعد انظمتها الثيوقراطية متناسبة مع ماتدعيه اميركا من ثيم ديمقراطية …واصبحت الاتقادات الدولية لسياسة المعايير المزدوجة الموجهة الى اميركا في تعاملها مع قضايا العالم تثير حساسية جدية في دوائر القرار الاميركية ..
– نقل الثقل الستراتيجي الى منطقتين تمثلان التحديات الجديدة للقدرة الاميركية مستقبلا : بحر الصين وشرق اسيا حيث المارد الصيني الذي استطاع في 3 عقود فقط من تخطي مرحلة كلفت الغرب اكثر من 150 سنة…والناتج القومي الصيني لبلد سكانه مليار وربع مليار نسمة لا يتعدى اليوم نصف ناتج اميركا ذات ال 325 مليون نسمة …لكن ذلك يمثل انتقالة كبرى من دولة نامية لم يكن انتاجها يزيد عن دولة اوريية وسطى قبل عدة عقود …ونزيد الى ذلك تقشف الصين ومواصلة اقتصادها في النمو بنسبة 7 الى 9 بالمئة ( اسرع نمو في العالم ) سيكون المنافس الاول لاميركا على المستوى العالمي في ظل ارتفاع تكاليف الانتاج والانفاق الحكومي الاميركي المترف .
وبالرغم من ان الصين تتبع سياسة حكيمة في عدم المواجهة المباشرة مع اميركا بالرغم من استفزازات الاخيرة لها في بحر الصين وجوار الصين …لانها تعرف ان هذه الاستفزازات هدفها جر الصين الى مواجهة خاسرة قد توقف مسيرة ازدهارها المضطرد ….لذا يغيض الصبر الصيني الثور الاميركي الهائج الذي يحاول استغلال فائض القوة المتوفرة له اليوم قبل ان تصبح الصين ماردا اقتصاديا ثم عسكريا لا يمكن احتوائه …
لحد الان اثبتت الصين انها عصية على الاستفزاز ولن تنجر الى صراع مكشوف لانها تسعى وتركّز اليوم ولخمس او عشر سنوات قادمة على البناء الداخلي فقط وتجنب الصدام المباشر مع اميركا على الساحة الدولية …وتستمر في تمددها الهادئ في افريقيا واسيا وحتى في اوربا مركزة على الاقتصاد والاستثمارات فيه فقط…. …لكنها مع ذلك وتحسبا لتعقيدات مستقبلية …بدات خطة بناء عسكري كبيرة وتحالف عسكري وطاقوي كبير مع روسيا …ترى فيه ضرورة لردع اميركا مستقبلا عن اية محاولة للاضرار بالمصالح الصينية …
– المنطقة الثانية للاهتمام الاميركي هي شرق اوربا …وذلك بغية ردع واسقاط محاولات البروز الروسي من جديد …فروسيا اليوم دخلها القومي هو سدس الدخل القومي الاميركي لكن بنفوس لا تزيد عن 140 مليون نسمة …وان دائرة النفوذ الروسي تمتد من تركستان الى اوزبكستان وبييلاروسيا واوكراينا ومولدافيا ودول البلطيق ( حدود الاتحاد السوفييتي السابق ) …حيث للروس جاليات روسية كبيرة وتاثير اقتصادي قوي …واقتران ذلك بسياسة روسية قومية قوية بقيادة بوتين وطاقمه المتماسك يمثل تهديدا كبيرا للنفوذ الاميركي في دول شرق اوربا …لذا تم خلق مشكلة اوكراينا التي لا تمثل اية اهمية ستراتيجية للغرب الا من منظور حصار روسيا وتمدد حلف الناتو الى الحدود الروسية ….
الرد الروسي كان قويا …فبعد ان اتبع الرئيس الروسي الراحل يلتسين سياسة مائعة بشطب حلف الناتو كتهديد لروسيا وتغيير العقيدة العسكرية الروسية لتتكيف مع ذلك ….تم باشراف القيصر بوتين تعديل العقيدة الروسية في الشهر الماضي لتركز على ان الناتو ودوله هم اعداء روسيا وتمدد الحلف الى دول البلطيق واوكراينا يمثل تهديدا للامن القومي الروسي ….وبالتالي تغيير نمط التوجه العقائدي والتسليحي للقوات الروسية وانتشارها لمواجهة هذا التهديد …وتم وضع برنامج لزيادة الانفاق العسكري الروسي الى 140 مليار $ من اجل صنع منظومات اسلحة جديدة وتطوير القوات تمكنها من ان تردع اية تهديدات اميركية وغربية لروسيا …
هنا دخلت اميركا مع حلفائها السعودية وبعض دول الخليج الى لعبة انهاك الاقتصاد الروسي في انهيار اسعار النفط الذي يمثل قدرا كبيرا من واردات العملة الصعبة الروسية لاضعاف الدور الروسي في اوكراينا وسوريا وكذلك اضعاف ايران ….على اساس ان انهيار اسعار النفط لسنة واحدة او عدة سنوات امر يصب في مصلحة الغرب …في حين أن الخسارة الناجمة عنه يمكن ان تتحملها اميركا والسعودية بسبب احتياطياتهما الكبيرة من العملة….
وهكذا يجري اعادة رسم الاستراتيجية الاميركية والغربية عامة لتحقيق الانتقال الحذر في الاولويات …حيث سيكون لمنطقتنا العربية والشرق الاوسط اهتماما رئيسيا …لكن ليس بسبب النفط وانما بسبب الارهاب الذي بدأ يدق ابواب الغرب بقوة عنيفة …وفي هذا السياق يتراجع دور اسرائيل كقاعدة متقدمة للغرب في المنطقة وكأداة للسيطرة على ايقاع تطوراتها …وهناك بدائل محتملة لها ( في شمال العراق خاصة )….
فاسرائيل تحولت الى عبء كبير على اميركا والغرب سياسيا واقتصاديا بسبب تطورات المنطقة وتغير موازين القوى والاولويات ….وسياسة اليمين الاسرائيلي الاهوج باتت تضع اميركا والغرب في مواقف حرجة …والسعي المستمر لحماية اسرائيل في مجلس الامن والمنظمات الدولية من الادانة بسبب افعالها الخارجة عن القانون باتت متعبة وجالبة للنقد المحلي والدولي …..
ذلك لا يعني أن الدعم الاميركي لاسرائيل في المستقبل سينتهي …انه سيستمر لكن ليس بسبب اهميتها الستراتيجية او مبررات الامن القومي الاميركي ….وانما بسبب ضغط اللوبيات اليهودية في اميركا واوربا والارتباطات العاطفية التي تجعل من اسرائيل كيانا قريبا من الغرب فكريا وديمقراطيا وتنظيميا …خاصة في ظل ازدهار الايديولوجيات المتطرفة في المنطقة ..
– واخيرا نهضة النفط في اميركا فتحت افاقا واسعة لاميركا لاستعادة هيمنتها الكاملة على اوربا وحلفائها في اسيا ….فبعد أن كانت بعض دول اوربا واسيا الحليفة تحيد عن الهيمنة الاميركية من اجل مصالحها النفطية مع هذه الدولة العربية او تلك ( مثل فرنسا واليابان وكوريا الجنوبية والمانيا وغيرهم ) ….اصبحوا اليوم في حل من ذلك بسبب امكانية الحليف الاميركي تزويدهم باحتياجاتهم من الطاقة مباشرة مما يعني الارتماء اكثر في حضن السياسة الخارجية الاميركية التي سترسم الخطوط الاساسية لتوجهات هذه الدول التي بدات معالمها اليوم وستتعزز في المستقبل ….فدول كبرى مثل المانيا وفرنسا وبريطانيا لم تعد الا مجرد ظلال تكرر قولا وعملا مايقوله حليفها اليانكي ….

أحدث المقالات

أحدث المقالات