يلعب التحكيم التجاري الدولي دوراً هاماً في تسوية المنازعات العقدية وبالأخص التجارية وان اللجوء إلى شرط التحكيم كوسيلة لحل تلك النزاعات يعد في الوقت الحاضر أكثر الآليات فاعلية وضرورة تفرضها معطيات العمل التجاري الدولي نظراً للخصائص والفوائد التي يوفرها التحكيم قياساً على القضاء من بساطة في الإجراءات واختصار الوقت فيلجأ الإطراف تلافيا للإجراءات الطويلة التي يتطلبها القضاء- كاختصاص المحاكم والمدد والمواعيد وما إلى ذلك من إجراءات قضائية إلى إبرام اتفاق تحكيم تفاديا منهم لتطبيق هذه القواعد ، كما يتمتع أطراف التحكيم بميزة اختيار المحكمين فيختار كل طرف منهم محكما يرشحه أو يختاره للتعيين مما يوفر له راحة نفسية لمساهمته في اختيار من سينظر قضيته وعادة ما تكون هيئة التحكيم مكونة من ثلاثة محكمين يختار الطرفان محكمين ويتم اختيار المحكم الثالث أما من قبل المحكمين الذين تم اختيارهم ووفقا لاتفاق التحكيم على النقيض من ما هو متبع فيما لو أحيل النزاع للقضاء للنظر فيه إذ تشكل هيئة المحكمة أو القاضي فيها إن كان منفردا دون اختيار من قبل الأطراف.
كما يتميز التحكيم عن القضاء في ناحية السرية ، فجرى العرف دوليا على أن يكون التحكيم سرياً إلا على إطرافه وهذا ما قد يحبذه الأطراف خصوصا إن كانوا من فئة التجار الذين يرغبون في حماية سمعتهم ضد أي شيء من شأنه المساس بها ، على خلاف الحال في القضاء العادي إذ أن جلساته وأحكامه علنية من حيث المبدأ العام ، الأمر الذي قد يزعج أطراف النزاع في غالب الأحيان.
حيث أجاز المشرع العراقي اللجوء التحكيم في كثير من المنازعات وعلى الأخص التجارية فقد نصت العديد من القوانين العراقية على التحكيم بحسبانه وسيلة مهمة لفض النزاعات التي تتعلق بالقضايا التجارية والاستثمارية نذكر منها على سبيل المثال قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل في المادة (251) أجاز اللجوء الى التحكيم في المنازعات المتعلقة بتنفيذ عقد معين إلا أن القانون المذكر تحدث فقط عن التحكيم الوطني والذي يعرف بأنه التحكيم الذي ينتمي بجميع عناصره إلى دولة معينة. ولم يشير إلى التحكيم التجاري الدولي مما يجعل هذا التحكيم مسكوتاً عنه وغير منهي عنه، وذلك لأن المادة 16 من القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 تجيز تنفيذ الأحكام الصادرة عن محاكم أجنبية بموجب قانون صادر في هذا الشأن والمقصود به هنا قانون رقم 34 لسنة 1928 والمتضمن المصادقة على البرتوكول الخاص بشروط التحكيم الموقع في جنيف بتاريخ 24/9/1923 فقد تضمن البروتوكول المذكور بصحة الاتفاقات بين الدولة المتعاقدة المتضمنة حل الخلافات المتعلقة بالقضايا التجارية وغيرها من خلال التحكيم وأن يتبع إرادة الطرفين وقانون الدولة التي يجري في أرضها التحكيم وان تتعهد كل دولة متعاقدة بتنفيذ القرارات التحكيمية الصادرة في أرضيها وذلك بواسطة موظفيها بموجب قوانينها الوطنية حيث تقضي المادة 25 من القانون المدني العراقي على أنه تسري على الالتزامات التعاقدية قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً، فإذا اختلفا يسري قانون الدولة التي تم فيها العقد هذا ما لم يتفق المتعاقدان أو يتبين من الظروف أن قانوناً آخر يراد تطبيقه وعليه فإن اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي خاضع للأصل وهو مبدأ سلطان الإرادة.
وتناولت شروط الشروط العامة لمقاولات أعمال الهندسة المدنية في المادة (69) إمكانية تسوية النزاع بواسطة التحكيم حيث أشارة إلى جميع الإجراءات والخطوات اللازمة لذلك وفق الإجراءات القانونية الخاصة بالتحكيم والمنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية انف الذكر ولم تشر إلى التحكيم الدولي مكتفية بذلك بالإشارة فقط إلى التحكيم الوطني.
وبعد أحداث عام 2003 خطى المشرع العراقي خطوات باتجاه تشجيع اللجوء إلى التحكيم الدولي للضرورات التي تفرضها معطيات التعامل التجاري في الوقت الحاضر للخصائص والفوائد التي اشرنا إليها انفاً.
فقد أجاز المشرع العراقي في قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 إمكانية اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي حيث إشارة المادة (27) الفقرة(4) من القانون نفسه على أنه (إذا كان أطراف النزاع خاضعين لأحكام هذا القانون يجوز لهم عند التعاقد الاتفاق على آلية حل النزاع بما فيها الالتجاء إلى التحكيم وفقاً للقانون العراقي أو أي جهة أخرى معترف بها دولياً) ويفصح هذا النص بوضوح أن أطراف النزاع الخاضعين لقانون الاستثمار يجوز لهم عند التعاقد الاتفاق على آلية حل النزاع باللجوء إلى التحكيم بموجب القانون العراقي أو التحكيم بجهة أخرى معترف بها دولياً. حيث جاء النص على التحكيم الدولي بشكل مطلق باللجوء إلى محكمة او هيئة تحكيم خاصة أو محاكم التحكيم الدولية.
كما أجاز المشرع نفسه ايضاً اللجوء التي التحكيم التجاري الدولي في تعليمات تنفيذ العقود الحكومية رقم (1) لسنة 2008 وتعديلاته حيث أشارة المادة (11) الفقرة اولاً البند (د) على انه (لجهة التعاقد اختيار التحكيم الدولي لفض المنازعات على أن ينص ذلك في العقد وعندما يكون احد طرفي العقد أجنبيا مع الأخذ بنظر الاعتبار الآلية الإجرائية المتفق عليها في العقد عند تنفيذ هذه الطريقة وان يتم اختيار إحدى الهيئات التحكيمية الدولية المعتمدة لحسم النزاع) وبذلك يمكن النص في عقد الاستثمار او العقود التجارية على اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي في شرط أو مشارطة التحكيم.
ويقصد (بشرط التحكيم) الاتفاق بين أطراف العقد على اللجوء إلى التحكيم في كل نزاع يمكن أن يحصل مستقبلاً فقد يرد هذا الشرط في العقد الأصلي وهو الطريق الاعتيادي والمألوف في التحكيم التجاري الدولي كونه يرد في العقد ويتفق بمقتضاه أطراف العلاقة القانونية وقبل نشوء أي نزاع قانوني على حسمه وفقاً للتحكيم أما (مشارطة التحكيم) فهي الاتفاق على اللجوء إلى التحكيم في نزاع بعد حدوثه بمعنى أن يرد هذا الشرط في عقد مستقل وبمقتضاه يتفق أطراف العقد بعد نشوب النزاع بينهما على اللجوء إلى التحكيم لتسويته بأن يحددا موضوعه بموجب عقد، أو اتفاق خاص. فمشارطة التحكيم وثيقة مستقلة سواء كانت العلاقة الأصلية علاقة تعاقدية أو غير تعاقدية.
ومن خلال تحليل النصوص القانونية أعلاه يتبين إن المشرع العراقي قد اتجه نحو (التحكيم المؤسسي) وهو التحكيم الذي يتم عن طريق هيأة ومؤسسات أو مراكز التحكيم الدولية او الوطنية والقائمة بناءً على اتفاقيات دولية متعددة الأطراف وفق قواعد وإجراءات موضوعة سلفاً تحددها الاتفاقيات والقرارات المنشئة لهذه الهيأة والمراكز مثل المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار في واشنطن(ICSID) والخاص بتسوية منازعات عقود الاستثمار القائم بناءً على الاتفاقية الموقع عليها في 1965 أو غرفة التجارة الدولية في باريس( ICC) ومحكمة التحكيم الدولي في لندن ومحكمة التحكيم الدائمة في لاهاي ومركز القاهرة للتحكيم التجاري الدولي لسنة 1979 ومركز دبي للتحكيم الدولي وجمعية التحكيم الأمريكية ويتميز التحكيم المؤسسي بالعديد من المميزات من أهمها وجود قائمة من العديد من الخبراء تساعد الخصوم على حسن اختيار المحكمين بالإضافة إلى وجود لائحة من قواعد الإجراءات الواضحة كما يساعد مقر المؤسسة او الهيأة او المحكمة على تجاوز مشكلة تحديد المقر و القانون واجب التطبيق عند عدم النص عليه في اتفاق التحكيم.
ولعل أهم ما سنتناوله هو شروط و كيفية تطبيق تنفيذ حكم التحكيم التجاري الدولي في العراق حيث يتم تنفيذ حكم التحكيم التجاري الدولي بقرار يصدر من محكمة عراقية على وفق أحكام المادة الثانية من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية في العراق رقم 30 لسنة 1928 حيث أن ذلك يجعل التحكيم مرهونا بمصادقة محكمة عراقية مختصة على قرار التحكيم الصادر عن مؤسسات أو جهات التحكيم المختصة استناداً لأحكام قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل ، بناءً على طلب أحد الطرفين، عندها تطبق المحكمة المختصة قانون المرافعات والأحكام التي تضمنتها المواد(251-276) منه وهو ما يسمح للمحكمة المختصة النفوذ إلى أصل قرار التحكيم وملابسات إصداره وظروفه على وفق القانون العراقي وهو ما يعني بالضرورة إفراغ القرار التحكيمي من محتواه فعلى سبيل المثال لو أتفق طرفان على إبرام عقد متمثلين بإحدى شركات وزارة الصناعة والمعادن وإحدى الشركات الأجنبية على تجهيز معدات ميكانيكية وكهربائية ونص العقد على حل النزاعات الناشئة من جرائه بواسطة التحكيم وفقاً لقواعد وإجراءات غرفة التجارة الدولية (ICC)، وحصل إخلال من أحد الطرفين المتعاقدين ولجأ الطرف الآخر وفقاً للعقد المبرم والذي يجيز الرجوع التحكيم لتسوية النزاع إلى غرفة التجارة الدولية في باريس فنظرت الأخيرة في أصل النزاع وبعد سلسلة من الإجراءات التي اتبعتها الغرفة وقامت بإصدار القرار التحكيمي فان الطرف الذي صدر القرار لصالحه القرار لا يستطيع تنفيذه في العراق بمجرد تقديمه لدوائر التنفيذ بل لابد من إقامة دعوى أمام المحاكم العراقية لغرض استصدار حكم لنفاذ القرار التحكيمي واستناداً الى ذلك فان قواعد التحكيم المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل تعطي للقضاء صلاحية واسعة في النظر في القرار التحكيمي من الناحيتين الشكلية والموضوعية، وهو ما يعني عدم فائدة النص على التحكيم وان الأولى بأطراف العقد اللجوء إلى القضاء العراقي ابتداءً لفض النزاع .
ولا يمكن اعتبار تنفيذ قرار التحكيم بالاستناد إلى قانون تنفيذ الإحكام الأجنبية رقم 30 لسنة1928 حيث أن القانون المذكور يسري على الإحكام القضائية فقط محدداً الشروط التي يمكن بمقتضاها تنفيذها داخل العراق
من دون الإشارة إلى تنفيذ قرارات التحكيم.
وعالجت اتفاقية نيويورك لعام 1958 والمتعلقة بالاعتراف بقرارات التحكيم تنفيذ قرارات التحكيم الأجنبية وبشرط المعاملة بالمثل حسب ما إشارة له المادة (5) من الاتفاقية المذكورة 1958 والتي لم يصادق عليها العراق لحد الآن وبروتوكول جنيف والمتضمن المصادقة على البرتوكول الخاص بشروط التحكيم الموقع في جنيف بتاريخ 24/9/1923 المصادق عليه من قبل العراق في 2/3/1926 والذي يعترف بموجبه بمشروعية شرط التحكيم في عقد تجاري دولي يقوم فيه نزاع بين أطرافه فقد تضمن البروتوكول المذكور بصحة الاتفاقات بين الدولة المتعاقدة المتضمنة حل الخلافات المتعلقة بالقضايا التجارية وغيرها من خلال التحكيم وأن يتبع إرادة الطرفين وقانون الدولة التي يجري في أرضها التحكيم وان تتعهد كل دولة متعاقدة بتنفيذ القرارات التحكيمية الصادرة في أرضيها وذلك بواسطة موظفيها بموجب قوانينها الوطنية.
و نتيجة للتجارب التي مر بها العراق فقد أتخذ المشرع العراقي موقفا سلبيا من التحكيم التجاري الدولي للخسارة الكبيرة التي كانت تلحق به عند اختياره أسلوب التحكيم الدولي لتسوية النزعات العقدية أمام الهيأة والمراكز وغرف التحكيم الدولية مما دفع المشرع العراقي إلى حظر التحكيم والقرارات التي تصدر عن هيأة ومراكز التحكيم الدولية و ذلك بتشريع قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 124 لسنة 1990 المتضمن حماية الأموال والمصالح والحقوق العراقية في داخل العراق وخارجه.
وبقي أن نشير إلى مسالة بالغة الأهمية وهي إذا تعرض العقد لأي سبب أدى إلى بطلانه أو فسخه أو إنهائه فلا يؤثر ذلك على شرط التحكيم ويبقى صحيحاً وإن بطلان العقد الأصلي لا يؤثر في اتفاق التحكيم، والعكس صحيح، فبطلان اتفاق التحكيم لا يؤثر في العقد الأصلي، لأن اتفاق التحكيم تصرف قائم بذاته وله كيان مستقل، إذ أن الموضوع الذي يعالجه يختلف تماماً عن موضوع العقد الأصلي.
ومن خلال ما تقدم فان التحكيم التجاري الدولي في ظل النظام القانوني العراقي الحالي لازال يعاني من بعض أوجه الخلل والقصور إذا ما قارناه بالنظم القانونية العربية والعالمية وأخيراً فان هناك بعض الملاحظات التي ينبغي علينا إبرازها وأهمها:
1- أصبح هناك ضرورة وحاجة ملحة على المشرع العرقي أن يشرع قانون للتحكيم يعنى بتنظيم عملية التحكيم بالكامل من مفهومه وإجراءاته وتنفيذه ، بالاستناد إلى القوانين والاتفاقيات العالمية والعربية وعدم ترك نصوصه مبعثرة ومشتتة مع التأكيد على أهمية تفعيل انضمام العراق إلى اتفاقية نيويورك لسنة 1958 والمتعلقة بالاعتراف بقرارات التحكيم تنفيذ قرارات التحكيم الأجنبية.
2- من خلال الاطلاع على بعض مسودات العقود التي تبرمها المؤسسات والشركات العراقية مع شركات جهات أجنبية فقد لاحظنا ضعفاً وقصوراً في بعض نصوص تلك العقود وخصوصاً النصوص التي تشير إلى تسوية النزاع بواسطة التحكيم والمعروف بشرط التحكيم حيث انه يفتقر إلى الكثير من الجوانب التفصيلية إذ لا يراعى الدقة في النص فعلى سبيل المثال لم تتم الإشارة في شرط التحكيم الذي يرد في بعض العقود النص على الآلية الإجرائية والقواعد المتبعة في التحكيم حيث لم يتطرق إلى كيفية اختيار وتشكيل هيئات التحكيم وعدد أعضائها وطريقة اختيارهم وصلاحيتهم وذلك لضمان الأداء الفعال والحيادي وكذلك تغفل النصوص الخاصة بالتحكيم الإشارة على المكان التحكيم ولغة التحكيم وكيفية سير إجراءات التحكيم ونفقات وتكاليف التحكيم وحكم التحكيم والقانون الواجب التطبيق ومن الأولى عدم ترك مثل هذه الأمور المهمة لقواعد التحكيم والتي قد لا تكون دون أدنى شك مناسبة للمصلحة الجهة المتعاقدة والمستفيدة على الرغم من إشارة تعليمات تنفيذ العقود الحكومية رقم (1) لسنة 2008 وتعديلاته في المادة (11) الفقرة اولاً البند (د) التأكيد على الأخذ بنظر الاعتبار الآلية الإجرائية المتفق عليها في العقد عند تنفيذ طريقة تسوية النزاع بواسطة التحكيم الدولي وان يتم اختيار إحدى الهيئات التحكيمية الدولية المعتمدة لحسم النزاع.
باحث وأكاديمي