يجري الحديث بكثافة وبتحليلات متنوعة عن التحركات الأمريكية العسكرية الأخيرة في الشرق الأوسط في مناطق متعددة خاصة في الخليج -مضيق هرمز- والبحر الأحمر وخليج عمان إضافة إلى التحركات على الحدود السورية العراقية ووفقاً للبعض داخل بعض المدن العراقية.
بدأت التكهنات خاصة في سوريا والعراق وإيران وأخذت صوراً مبالغ بها، فالمعارضون للنظام السوري يروجون لشائعة تغيير النظام السوري، والمعارضون للحكومة العراقية أو النظام السياسي في العراق بصورة عامة يروجون لشائعة تغيير الحكومة العراقية أو المنظومة السياسية العراقية بالكامل، والمعارضون لسياسة إيران يروجون لشائعة حرب كبيرة ضد إيران وتغيير كبير في المنطقة فضلاً عن الكلام عن لبنان وحديث البعض عن ظهور السفياني ومعركة قرقيسيا وغير ذلك كثير.
فهل لهذه الشائعات شيء من القبول وهل فعلاً ما يجري الآن من تحركات هدفه هذا أو بعضه؟
أجريت جولة طويلة على أهم المقالات التي تناولت الموضوع في الصحف والمواقع الأجنبية والعربية واستقرأت بعض الآراء من الداخل الأمريكي والداخل الخليجي إضافة إلى آراء بعض معارضي أنظمة الحكم في سوريا والعراق وإيران، فخرجت من ذلك بالخلاصة الآتية:
لا صحة لهذه الشائعات ولا يتم تداولها إطلاقاً لا ضمن أروقة السياسة الأمريكية ولا ضمن أروقة السياسة الخليجية ولا الوضع يسمح بذلك خصوصاً مع تبني دول الخليج سياسات التعددية أو تصفير المشاكل بدعم صيني واضح وبحثها في المرحلة الحالية على الأقل عدم الاعتماد الكلي على التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية فقط وسعيها لإيجاد حلول للمشاكل في المنطقة بعيداً عن حصرية الرؤية الأمريكية وقد أتاح الابتعاد الأمريكي عن الشرق الأوسط وتشنج العلاقة بين السعودية وأمريكا خاصة في عهد بايدن ومشاكل أوكرانيا وموقف دول الخليج منها ومشاكل حرب أسعار النفط الفرصة لذلك، ولا يخفى على أحد المشاكل التي يعاني منها الداخل الأمريكي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وما انتجته الحرب في أوكرانيا وتوتر العلاقة مع الصين ودول الاتحاد الأوروبي ومشاكل الداخل الإسرائيلي ودعم حكومة بايدن للتظاهرات ضد حكومة نتنياهو.
تقدمت دول الخليج في علاقاتها مع الصين وروسيا في السنوات الأخيرة وسعيها لتصفير المشاكل داخل المنطقة ومن أبرز جوانب ذلك الاتفاقات العديدة مع الصين وروسيا والتفاوض السعودي الإيراني والسعي لتفاوض مماثل مع مصر وعودة سوريا للجامعة العربية وغيرها من المؤشرات.
إذن لماذا هذه التحركات الأمريكية إذا لم يكن الهدف معركة كبرى وتغيير لبعض أنظمة الحكم في المنطقة؟
بحسب جملة من المعطيات وبحسب المواقف السابقة ومتابعة وضع الداخل الأمريكي واضطراباته والسياسة الأمريكية والسياسة الإيرانية والسياسة الخليجية وتحركات الصين وروسيا في المنطقة فإن التحركات هذه قد تكون موجهة للاحتمالات الآتية بدرجات متفاوتة ولا مانع من اجتماعها:
1- ضد إيران:
وهذا هو المعلن من التصريحات الأمريكية وذلك بحسبهم بسبب ما تقوم به إيران في الخليج ودعمها لبعض الجهات المسلحة في عدة دول، ولكن ما الجديد في الأمر وإيران تفعل ذلك منذ سنوات؟
يقول بعض المحللين إن الأمر مرتبط بموضوعين في اختيار التوقيت:
الأول: قرب الموعد النهائي للمفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني ورغبة واشنطن بأن تكون لديها أدوات ضغط أكبر على الإيرانيين ليكون الموقف التفاوضي أقوى لصالح الأمريكان خاصة بعد صفقة تبادل الأسرى الأخيرة وإطلاق الأموال المحجوزة التي بينت ضعف موقف المفاوض الأمريكي وكانت ردود الأفعال تجاهها في الداخل الأمريكي سلبية.
الثاني: قرب موعد الانتخابات الأمريكية واتضاح إن سياسة بايدن في الابتعاد عن الشرق الأوسط انتجت نتائج سلبية كثيرة على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة فلذا تسعى حكومة بايدن لإظهار شيء من التغيير قبل موعد الانتخابات والقول بأن أمريكا موجودة ومؤثرة في الشرق الأوسط خاصة مع وضوح التأثير الصيني والروسي واستقلالية بعض المواقف لدول الخليج وتأثير ذلك على مبيعات الأسلحة الأمريكية وسوق النفط والاقتصاد الأمريكي عموماً وهذا أغضب النخبة والناخبين هناك.
2- ضد دول الخليج وخاصة السعودية:
فمواقف دول الخليج وخاصة السعودية في الفترة الأخيرة واعتماد التعددية وتصفير المشاكل وعقد الصفقات الاقتصادية والعسكرية مع روسيا والصين والسعي ووقوف السعودية بالضد من المواقف الأمريكية المعلنة في مجال أسعار النفط، كل ذلك لاحظته إدارة بايدن ورأت إن المناسب التلويح الآن بأنها لا زالت الأقوى في الخليج وذلك بجذب دول الخليج نحو المواقف الأمريكية من جهة وإيقاف بعض ملفات التعاون مع آخرين فضلاً عن التأثير على الموقف من التطبيع مع إسرائيل والموقف في الانتخابات الأمريكية.
وقد تكون هذه التحركات بتنسيق تام مع دول الخليج التي ربما رأت إن مصلحتها المناورة وذلك بوجود ضاغط أمريكي مع الاستمرار بسياسة التعددية وتصفير المشاكل أو قد تكون ضمن إطار لتمرير التطبيع مع إسرائيل كما يقول البعض ولكن معطيات وضع الداخل الإسرائيلي وصعود اليمين وعدم نجاح اتفاقات التطبيع الإبراهيمية لا يساعد على قبول ذلك أو قد تكون رغماً عنها.
3- ضد الصين وروسيا:
فالتواجد الصيني الروسي في المنطقة وفي مناطق أخرى أصبح واضحاً ومع الوجود العسكري الروسي الواضح في سوريا فالاتفاقات الاقتصادية الصينية ومبيعات الأسلحة قد تقود في النهاية إلى تواجد عسكري صيني أيضاً، فالتحركات الأمريكية لمواجهة ذلك لأن بعض الدول بدأت تنسى التأثير الأمريكي أو تهمله.
هذا ما تحدثت عنه المقالات والتحليلات في الصحف والمواقف الأجنبية والعربية وأغلبها لم ترجح زيادة التوتر أكثر والقول بأن هذه التحركات لن تتعدى شكلها الاستعراضي الحالية أولاً لأن الانتخابات الأمريكية على الأبواب وثانياً لأن وضع العلاقات بين أمريكا ودول الشرق الأوسط ليس بأفضل حال ليتوقع وجود تعاون معها وثالثاً لأن الوضع في إسرائيل لا يساعد على ذلك ورابعاً لأن أمريكا لن تستطيع تحمل تكلفة حراك عسكري واسع في الشرق الأوسط في الظرف الحالي وخامساً لأن الدول المفترض إن التحرك ضدها تعي هذه التحركات وتتجاوب معها بما يناسبها ولا تسعى لرفع مستوى التوتر أكثر لأن ذلك ليس في صالحها أيضاً.
فالحديث عن تغييرات في سوريا مستبعدة ولن يتعدى الأمر على الأرجح محاولة أغلاق الحدود السورية العراقية لمنع تدفق الأسلحة الإيرانية والدعم بحسب تعبير الأمريكان، والحديث عن تغيير في لبنان كذلك مستبعد، والحديث عن تغيير في العراق أكثر استبعاداً لأن الحكومة العراقية لحد الآن تحافظ على مستوى متوازن مقبول من العلاقة مع الحكومة الأمريكية وتصريحات الأمريكان خاصة عبر السفيرة وممثلة الأمم المتحدة داعمة لاستمرار الحكومة الحالية ولا توجد أية مؤشرات على تغيير الحكومة فضلاً عن تغيير النظام بأسره، والحديث عن معركة كبيرة مع إيران مستبعد أيضاً بسبب الأوضاع في الداخل الأمريكية وانشغال أمريكا في أكثر من ملف خارجي وبسبب الوضع في إسرائيل وبسبب تغيّر المواقف لدول المنطقة خاصة دول الخليج فضلاً عن السياسة الإيرانية التي تميل إلى عدم التجاوب مع الاستفزازات في مثل هكذا مواقف وتجنب التصعيد.
لذا فما سميناه شائعات في بداية الكلام هي شائعات فعلاً لأن معطيات الواقع لا تساعد على قبولها ولأنه لا يوجد لها أي تداول في أروقة السياسة الأمريكية فهي مجرد أمنيات لدغدغة مشاعر المعارضين لهذه الأنظمة والترويج لبعض الشخصيات لا أكثر.