صوت رنين الجوَّال قطع مسير صمتي المسافر عبر محطات عمري المتتالية ، أتاني صوته منفعلاً كعادته : ” خالي لا تتأخر، إلى بيتنا فوراً ، دع عنك أي مشاوير جانبية ، أنتظرك عند الباب “.وكالعادة تصيبني الدهشة : ” من أخبرك أني قادم إليكم ؟! أنا لم أخبر أحداً بسفري ! “يضحك ضحكته الصافية :” خالي … شممت رائحتك !””آه تذكّرت !
نعم ما أشبهك بزرقاء اليمامة ! تلك التي كانت ترى على مسيرة ثلاث أيام !”تعالت ضحكته أكثر : ” أما أنا فلا أرى حتى على بعد ثلاثة أمتار ، لكني أشم رائحتك أنت فقط على بعد مئات الكيلومترات ، هيا خالي لا تتأخر ، سأخبر أمي أنك آتٍ خلال ساعة … ننتظرك ، سلااااام.”كيف أغفل كل مرة ؟ هذا الفتى يغلبني دائماً ، صوت صفير القطار نقلني إلى عربة الإسعاف التي أقلّتني إلى المشفى الرئيسي في المدينة حاضناً سترتي التي جعلتها لفافةً لخديج بطول شبر سقط من رحم أختي قبل موعد ولادته بأربعة أشهر …” إن كان له عمر فلن تقتله شدة ، أسرع الوليد بحاجة إلى منفسة.”ما زالت صرخة أمي في مسمعي ، امرأة مواقف ، قوية ، ربما اكتسبت هذه الميزة من عملها كممرضة لفترة طويلة ، رأت فيها حيوات كثيرة تولد ، وأرواحاً كثيرة تموت …مع محمد – وهو الاسم الذي أطلق على الخديج – كان الموت هو المرجح وهو منطق الأشياء بالعرف الطبي،ولكن الله شاء أمراً فكانت المعجزة …لا أنسى نظرة الزهد التي انبثقت من عين الطبيب وهو يضعه في المنفسة وهو يطلق عبارة ” لن يعيش”.سهم أصاب عمق قلبي فأدماه ، صرخت من الألم ” وما أدراك؟ لعل الله يصنع أمراً ، هل أنت موكّل من عزرائيل على روحه ؟ !”استحالت نظرته إلى تهكم وشفقة : ” إن عاش سأعتزل مهنة الطب “.وبإغفال لا أدري إن كان مقصوداً أم يأساً وضعه في الحاضنة مهملاً تغطية العينين، لتقوم أشعة الضوء القوية بالتهام بصره على مدى أربعة أشهر مدة إقامته بالحاضنة ، مخلفة عنده ضعف شديد بالنظر مع رأرأة بالعينين .عبر ذبذبات الهاتف تصاعدت نبرة صوتها أكثر، وبحماسة أكبر : ” غداً سيتم تكريم محمد على مستوى الجمهورية بمادة الرياضيات !، تخيّل أخي محمد الأول بين أقرانه على مستوى التعليم الثانوي ، سيحضر التكريم شخصيات هامة في الدولة وقد فهمت أن السيدة الأولى ربما ستكون على رأس هذا الوفد …!أخيييي هل تدرك هذا ؟! “
وكيف لا أدرك …؟!كان صوتها أشبه بزغرودة فرح فاقت تلك التي أطلقتها يوم نجح ابنها البكر في الثانوية العامة حاصلاً على أعلى الدرجات التي خوّلته دخول أعلى الفروع الجامعية …ربّما لأن تفوقه من ذاته ، جهد شخصي بحت ، أعني أنها لم تتعب في صنعه كما فعلت مع محمد ..!
نحتفل بمولد محمد مرتين بالعام ، يوم خروجه من رحم أمه ، ويوم خروجه من الحاضنة ، بفارق أربعة أشهر بين الخروجين ، لم أكن خاله وفقط، بل أقرب إلى ما يُسمى العرّاب أو الأب الروحي، ارتبطتُ به روحياً بطريقة عجيبة وارتبط بي بطريقة أكثر غرابة !كلمات طبيب الأطفال وقعت على رأسي كالمعول، بعد أكثر من مراجعة وفحوصات كانت أختي تشرح له فيها كيف أن محمد لا يرتكس لأي فعل أو صوت ، وهو بعمر الثمانية أشهر، المرحلة العمرية التي يُطلق فيها على الطفل وصف ( الطفل البهلوان ) في إشارة إلى شدة تفاعل الطفل مع المحيطين به ، لكن محمد ما كان هكذا ! نظره جامد في فضاء لا نعرفه !” الطفل مريض بالتوحّد ” !”لا دكتور هو لا يرى جيداً لأن عينيه تأذّتا من ضوء الحاضنة “.قاطعته أنا، ضربة معول أخرى رماها علي : ” إضافة إلى ذلك ، الطفل مصاب بالتوحد ، وبدرجة متقدمة !”.وأخذ يشرح أعراض المرض وتطوراته المستقبلية وأختي تقاطعه ، التفت إليها قائلاً : ” يمكنك أن تفعلي الكثير من أجله … لكن للأسف ستزرعين في كثبان رملية “.
في المرات العديدة التي كنت أزورهم فيها، كنت أراقب محمد، تم معالجة الرؤية بنظارات كان يضيق بها ذرعاً ، لكن بقيت نظرته ثابتة في ملكوت يعيش فيه وحده، معتكفاً في محراب صمته، معتزلاً كل المصلّين من أترابه، يلهو بطقطقة أصابعه ورفرفة يديه، إن نطق فنطق مُسبِّح بمسبحة، تكرارٌ لكل كلمة تنطقها أمه أو أنا ! فقط يتجاوب معي ومعها ! عرف كل المفردات بالتكرار ، تكرّرُ على مسامعه : هذا بابا مشيرة إلى والده… بعد أسبوع من التكرار يشير إلى والده قائلاً : “هذا بابا”.والمكافأة لوح من الشوكولا الذي يعشقه .أحضرتُ له في إحدى زياراتي لوحة كرتون كبيرة وألوان …وضعها على الطاولة وأمسك الأقلام وبدأ يعالج بياض اللوحة بألوانه ، عندما انتهى تركها على الطاولة ومضى إلى غرفته بجلال صمته …نظرت إلى اللوحة وانفجرت باكياً …اللوحة كانت لأربعة أشخاص يقفون معاً، رجلان أحدهما ضخم كأبيه والآخر مثلي وامرأة هي أختي وفتى هو أخوه ، وطفل يقف بعيداً عيناه على شكل قلوب ملونة بالأحمر، يلوّح بيده للجميع …
علبة الألوان كانت نقلة نوعية ، تخلى على أثرها عن اللعبة الأثيرة عنده ، سيارة صغيرة لا تغادر يده أبداً على الرغم من وجود العديد من الألعاب ، فقط هذه السيارة يقضي الساعات الطويلة مستغرقاً في تفاصيلها ، يقلبها يفككها ويعيد تجميعها، الرسم والألوان كان الممر الذي ولجنا منه إلى داخل حصنه ، ومن هذا الممر بدأنا بإخراج محمد ….
وجود ضيف في البيت من المثيرات التي تجعله يثور ويضطرب ، يبدأ بضرب وركل أثاث المنزل بشراسة، بينما الموسيقا الصاخبة والتي تثير الأعصاب عادة كانت محببة إليه !لذلك كان من الطبيعي أن يخلو البيت من الضيفان، وأن تتصاعد الموسيقا ذات الإيقاع العالي من المسجّل تصمّ آذان أهل البيت مقابل أن يتمتع محمد ويخرج دواخله ويلوّنها على الورق، متواصلاً معنا، ثم يحمل الرسم إلى أمه قائلاً : “خذي خذي ، لكِ لكِ”.علّم الكتابة بنفس طريقة الرسم ، لوحات كبيرة ترسم أختي عليها الأحرف ليقوم هو برسمها مرات عديدة مع تكرار لفظها ، وكذلك الأرقام … عندما دخل محمد المدرسة كان يتقن كتابة كل الأحرف …!الخوف من سخرية أقرانه تلاشت مع هذا التفوق الذي جعله محط أنظار الجميع ، كل يتسابق للفوز بثقته وصداقته، لكن بحذر فمحمد ما زال يكره الغرباء ، الجهد الذي بذلته أمه والمعلمة لتخطي هذا الأمر كان جباراً بحق …
كان يوماً مشهوداً رقص الفرح في عيون الجميع، محمد يعتلي منصة التكريم بعد تقديم رائع من عريف الحفل ، لتتقدم بعدها السيدة الأولى تحمل بيدها وساماً علقته على صدر محمد، ولفافة ورقية ناولته إياها كانت شهادة تقدير، ثم طلبت إلقاء كلمة فاجأت الجميع … تريد أن تتعرّف على (الجندي المجهول ) هكذا جاء اللفظ ليصرخ محمد : ” أمي تعالي إلى هنا “دفعناها دفعاً لتصل إلى المنصة ويحتضنها محمد محاولاً منع دموعه من مغادرة مقلتيه ، كانت النظارة الدرع الساتر …!لكن من يمنع دموعها هي ؟!كان مشهداً لا ينسى …!
في تلك الليلة وبعد منتصف الليل سكن كل شيء عدا وشوشاتنا أنا وهي معاً على شرفة البيت والقمر يشهد …!فاجأتني بقولها:” تدري من أتمنى أن ألقى اليوم ؟ذاك الطبيب الذي عاين محمد وأخبرني أنه مريض توحّد يستعصي علاجه، وعندما جادَلتهُ سخر مني قائلاً ستزرعين في كثبان رملية …”
التفتت إليّ تستحلفني : ” إن رأيت ذلك الطبيب أخبره أني لم أُربِّ وحشاً كما تنبّأ … بل إنساناً سوياً اجتماعياً يتواصل مع الجميع ، يضحك مع أقرانه، ويمازح أخوته، يحترم الآخرين ، يحبه أساتذته، بإمكانه قيادة فرقة كاملة، ولا غبياً جاهلاً كما لمّح ، وتكريمُ اليوم أكبر مثال …”.وفجأة أتانا صوت محمد مقهقهاً :” وهل أينشتاين أفضل مني ؟يبدو أن التوحُّد هذا مرض العظماء …!خالي أعدك سأكون من الأوائل في الثانوية العامة ، مركز البحوث العلمية بانتظاري … هكذا أخبروني ( ههههههه، تباً لتواضعي ) ، وسأخبرك عن المفاجأة التي تخفيها أمي الآن ، هذه المرأة ستتسلم غداً أوراق تعيينها مديرة لمركز الأمل الذي يُعنى بتدريب وتأهيل مرضى التوحد”.