23 ديسمبر، 2024 7:35 ص

يتملكني العجب حينما أرى البعض من أصحابنا يمتعض من القوة التي حصلت عليها إيران فجأة، ويشعر بالسخط من انحناء العالم المتمدن لها. وهو يدرك أنها لم تنل ذلك اعتباطاً. بل عبر جملة من الأسباب التي جعلتها في المقدمة، ووضعتها على قدم المساواة مع دول متقدمة كبيرة.
ولو كنت محل هذا البعض لدرست هذه الظاهرة بتجرد. ولبحثت عن سر تقدم هذه الدولة، التي تحاصرها العقوبات من كل جانب. وحاولت أن أجد ما ينفعني في هذا الملف الخطير.
وما هو واضح لكل ذي عينين أن إيران تعيش نوعاً من التحدي الذي يرفض الاعتراف بالأمر الواقع، ولا يستسلم للظروف، أو يرضى بغير النصر. فبالنسبة لها لا شئ في هذا العالم اسمه المستحيل!
هذا التحدي لم يدفعها نحو التهور، أو الصراخ، أو العويل. بل حملها أن تزرع وتصنع وتنتج كل ما تحتاجه في هذه الدنيا، ولا تمد عينيها إلى أبعد من ذلك مثلما يفعل البعض في أماكن كثيرة من هذا العالم.
ولأن مثل هذه الثورة تحتاج إلى عرق ودموع وتضحيات، فقد دفع الإيرانيون خلال عقد التسعينات كل ما يمكن أن يدفعه شعب صابر جسور. ولملموا جراحهم التي خلفتها حرب ضروس، تكفلت بها دول وحكومات وقوى إقليمية وعالمية.
لقد أدرك الإيرانيون أن المحيط الذي يعيشون فيه لا يبادلهم المودة. وأن الأخطار التي تحيق بهم من كل جانب لن تتوقف. وأن الحل الوحيد هو أن يتولوا أمرهم بأيديهم، ويمتلكوا القوة الرادعة التي تمنع الآخرين من التطاول عليهم.
وكان أول الغيث تطوير القطاع الزراعي، الذي اغتنوا به عن شراء اللحوم والألبان والفاكهة والخضروات من الخارج، فحققوا الأمن الغذائي، ثم شرعوا بتصدير الفائض منه إلى الخارج.
ثم اتجهوا إلى الطاقة، وعلموا أن بلادهم تملك واحداً من أغنى احتياطيات الغاز في العالم، فأوصلوه إلى القرى والنواحي، في عموم البلاد. وقاموا بضخه إلى بلاد الله الأخرى، القريبة منها والبعيدة على حد سواء.
وخلال حرب الثماني سنوات كانت مدن إيران تعيش في ظلام دامس. فلما انقضت هذه الحرب عادت الكهرباء من جديد بأحسن ما يكون. وبدأت تفيض به على الدول المجاورة، ومنها العراق!
وعرفوا أن قطاع النقل يكفل لهم تداول السلع وتنشيط التجارة وتقليل التكاليف، فأولوه جل اهتمامهم. وأنشأوا السكك الحديد، وعبدوا الطرق، وبنوا المطارات. ولم يلبثوا أن التفتوا إلى صناعة السيارات الصغيرة والكبيرة، فحققوا فيها الاكتفاء الذاتي، وباعوا الكثير منها إلى الدول الأخرى!
ولما كثر حولهم الأعداء، واستأسد عليهم ذوو القربى، وجهوا عنايتهم إلى الصناعات العسكرية فبرعوا فيها، وحققوا فيها تطوراً غير مسبوق، إلى الدرجة التي أخافت الأعداء وأرهبت الخصوم وأرست قواعد الأمن في المنطقة.
ولأن الصناعات العسكرية كانت السبب في التقدم العلمي عند الدول الكبرى خلال الحرب الباردة، فإن إيران فعلت الشئ ذاته، وطفقت تطور إنتاجها الصناعي في مجالات مدنية عديدة. فعمت النهضة عموم إيران، ونشطت كل القطاعات الإنتاجية والخدمية والسياحية فيها، بشكل يبعث على الإعجاب.
والسؤال الذي لا بد من طرحه هنا هو لماذا لا نرحب بهذا النموذج الآسيوي – الإسلامي – الشرق أوسطي، ولا نهتم به، في حين أننا لا نفتأ نمتدح تجارب سنغافورة وكوريا وتايوان والصين والهند وغيرها من النمور الآسيوية الجديدة؟
هذه الدولة التي تحدت كل محاولات الغرب وإسرائيل للاستسلام، ولم تبال بكل ما زرع حولها من ألغام في بلاد عربية قريبة. ومدت يد العون لكل قوى المقاومة والتحرر والاستقلال. ولم تطلب مالاً أو عوضاً، مع أنها تعاني من الحصار والضيق والحاجة!
إيران دولة مجاورة تتقدم على وفق نموذج خاص بها، وهو نموذج يعطي سلطة عليا للزعيم الديني الأكبر فيها. وسواء أعجبنا هذا النموذج أم لم يعجبنا. وسواء تعاطفنا معه أو لم نتعاطف، فإنه يبقى نموذجاً إيرانياً صرفاً، قاد بلاده في طريق النهضة، وجعلها في مقدمة دول المنطقة دون منازع.
علينا أن نعي الدرس جيداً، وأن نحترم تجارب الغير، لا أن نناصبها العداء. فهذا ما لا يجدر بنا فعله بعد كل الذي خبرناه في هذا العالم. ونحن أحوج ما نكون إلى فهم واستيعاب وغربلة إنجازات الآخرين، والاستفادة منها. بدل أن نتعالى عليها، ونحط من شأنها، وننسب لها كل ما هو شائن وقبيح. فمثل هذا الفعل لا يجدر أن يقدم عليه شعب مايزال في أول الطريق!