23 ديسمبر، 2024 5:27 م

قصة

كان حلم الشاب “لوثر” البالغ من العمر 18 عاما ان يكون رياضيا وان يحظى بحب الناس له وان يكون مشتهرا في الوسط الرياضي حيث كان يركض يوميا اكثر من 10 كيلومترات يستهلها بهرولة حول المدينة ثم ياخذ الطريق المتجّه إلى الجبل العالي ويختم جولته عند اخيه الاكبر “يوهان”. يملك يوهان البالغ من العمر 30 عاما محلا صغيرا في المدينة لبيع الخبز والمعجنات التي يصنعها بيديه الماهرتين يوميا وبمساعدة والدته “ماري” واخته الصغرى “جودي”. الناس في المدينة الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها 50.000 نسمة تعرف كل البائعين في السوق الذي يتوسط قلب المدينة القديمة والذي يستقطب المتبضعين من المدينة والمناطق المجاورة لها. كان ليوهان القسط الاكبر من الشهرة في مجال المعجنات وانواع الخبز الشهية التي يعجنها في الفجر ويقوم بخبزها في افران مصنعه الصغير الحجري في محله كي يشتريها اهل المدينة وهي ساخنة. لم يشارك لوثر اخويه قط في معمل المعجنات ولا في مجال التسويق والبيع بل انه كان يختم جولته الرياضية كل يوم عند محل اخيه من اجل اخذ قسط من الراحة مع تناول قطعة من البسكويت مع كوب من الحليب الطازج الذي يقدمه يوهان لضيوف محله والذي يجلبه يوميا من احدى القرى المجاورة. كان المحل المورد الاساس لرزق عائلة السيد “فيديل” والد لوثر ويوهان وجودي الصغيرة. يعمل السيد فيديل كاتبا في جريدة يومية تصدرها مدينتهم ويتم توزيعها في كل المناطق المجاورة للمدينة. لكن ما يتقاضاه الوالد من الجريدة لا يكفي ابدا لسد رمق عائلته المتواضعة. فأن جودي ما زالت في مرحلتها الدراسية المتوسطة ولوثر اجتاز المرحلة الثانوية ليعد العدة الفكرية للمرحلة الجامعية ودراسة التربية الرياضية. وهذا يعني انه سيُضطرُ لترك مديتنه ومسقط راسه متوجها إلى العاصمة التي تبعد اكثر من 700 كيلو مترا عن المدينة. قرر لوثر ان لا يفكر الان في جامعته ودراساته كي لا يبعث القلق في قلب والدته التي كلما تدرك اقتراب موعد دخول الجامعة يتملكها الرعب والخوف والم إبتعاد ابنها عنها. إنها تعاني من مرض في القلب ولا تتحمل صعقات أخبارية كهذه من ابنائها او حتى من طرف زوجها الصحفي والذي لا يخلو حائطه الاخباري من اولى صفحات الجرائد بالمعلومات الايجابية او الاخبار السارة ابدا.. كونه صحفياً يهتم بالجرائم التي تحدث في مدينتهم وضواحيها. كانت العائلة تجتمع كل يوم في البيت على مائدة العشاء الخشبية التي صنعها لهم والد فيديل السيد “كوستو” كهدية لزواج فيديل وماري. لا تترك العائلة اي خبر دون انْ تتحدث به دون الاشارة إلى الاخبار المقلقة كلما انتابها الفضول لمعرفة من سوف يكون المحافظ الجديد للمدينة الذي تم انتخابه مؤخرا. تحاول جودي ان ترطب اجواء الحوار الناشف باختراعاتها الجديدة في مجال عجن الخبز وخلط بعض الحبيبات المفيدة من الشعير وعباد الشمس. ويستمر النقاش والحوار مع تناول وجبة العشاء بينما يلتزم لوثر الصمت مستمعا لما يدور من اخبار. فيديل رجل مخلص لعائلته ويعشق زوجته حتى الجنون وعندما علم بانها مريضة في القلب قرر ان لا يحملها مسؤولية اعمال البيت من ترتيب وغسيل وتنظيف فكان له جرّاء ذلك حب كبير من قبل زوجته ماري. كالمعتاد نهض الوالد من الطاولة فنهض معه الابناء وانصرف كل منهم نحو المغسلة ثم  إلى غرفته بينما قررت ماري ان تبقى جالسة على الطاولة تنظر بعينيها الواسعتين إلى فيديل وهو يقوم برفع الصحون من المائدة لغسيلها واعداد القهوة المركزة التي تحبها ماري.
وصل دور لوثر لغسيل يديه في الحمام المجاور للمطبخ واثناء الغسيل سمع الحوار ما بين والديه في المطبخ وقرر ان يقضي وقتا طويلا في الحمام من اجل التنصت على ما يتحاور به فيديل وماري:
ماري: إلى متى نبقى صامتين هكذا؟
فيديل: انتِ مريضة يا حبيبتي عليك بان لا تجهدي قلبك الم تسمعي ما قاله لك الطبيب؟ لا تجهدي نفسك بهكذا امور..
ماري: وإلى متى نكتم هذا السر بيننا؟
فيديل: سيأتي اليوم وينكشف على الاولاد وسيعلمون آجلا ام عاجلا بكل شي لان المدينة اصبحت تتحدث بشراء اهالي الجبل العالي لمدينتنا.
ماري: ومتى ستتم صفقة الشراء هذه؟ يا إلهي..سوف يستعبدوننا جميعا يا فيديل..
فيديل: لا تقلقي وإن فعلوا سنترك المدينة وننتقل إلى العاصمة.
ماري: كلما ارى اهالي الجبل العالي يتبضعون في مدينتنا وهم يتعاملون معنا بمنتهى الوقاحة والكبرياء اشعر بانني ضعيفة امامهم وكانني لست مثلهم انسانة كسائر البشر.
فيديل: اعلم ذلك يا عزيزتي هؤلاء هم اصحاب الامتياز والشأن الرفيع ونحن في الوادي لا نقوى على مواجهة سياستهم هذه لكن اصبري فقد اكتشف علماء الجيولوجيا امرا فريدا في الجبل العالي ولا استطيع التفوه به حتى يتم التأكد من هذا الامر. الله وحده يا حبيبتي يمهل ولا يهمل.
ماري: انهم يملكون لغة خاصة بهم وملابسهم مختلفة تماما عن ملابسنا وهذه الحلي والمجوهرات يا إلهي….أما عربات خيولهم فإنها مرصعة بالاحجار الكريمة. قل لي يا فيديل..من أين لهم هذا الثراء الفاحش؟
فيديل: إنها قصة طويلة عزيزتي سارويها لك في وقت مناسب عندما يطيب قلبك المريض لكني اختصر لك القول إنهم فئة من عصابات استحوذت على الجبل العالي نظراً لما فيه  من ذهب وماس ومعادن كريمة أخرى بحيث اصبح كل عضو من أفراد هذه العصابة رجل اعمال ذا شهرة عالمية في سوق التجارة بالذهب والماس.
ماري: والان سيستحوذون على مدينتنا وانا اخشى بان يكون محافظنا الجديد واحدا من اهالي الجبل العالي..
التزم فيديل الصمت ولم يعلّقْ على ما قالت ماري بل بادر إلى السؤال :
فيديل: هل تريدين القهوة مع الحليب الطازج ام بدونه؟
صعق لوثر وهو يسمع الحوار ما بين والديه في المطبخ فقرر الخروج من الحمام عائدا إلى المطبخ مرة اخرى. تقدم إلى والدته معانقا اياها قائلاً :
لوثر: امي، انا احبك، احبك لانك اجمل واطيب ام في هذه الدنيا ..لانك امي واعز صديقة لي واني لن اتركك ومصيرك وآلامك ومرضك وحيدة. سأكون دوما إلى جوارك واعدك يا أمي بأني سأتحداهم جميعا..جميعا بلا استثناء .
استغربت والدة لوثر من كلام ولدها وما ان كادت ان تتفوه بالسؤال عن دوافع مقصده من الحديث إلا ولوثر يغرب عن وجهها بسرعة فائقة وهو يركض صوب سياج حديقة بيتهم ليقفز قفزة عالية فوق السياج الواطئ ويستمر في الركض بلا تحديد اتجاه معين. نادته والدته بالعودة فأن الظلام قد حل ووضع المدينة مقلق. لكنه استمر في الركض ليتوقف بعد فينة من الوقت والدموع تغمر وجهه المرطب بقطرات المطر. تأمل لوثر في وضعه والمكان الذي وصل اليه فوجد كوخا صغيرا مضيئا يمتلكه السيد المسن “جان” والمطل على منظومة المصعد الكهربائي “التلفريك” الذي يؤدي إلى الجبل العالي. قرر لوثر بعد ان كف عن البكاء ان يتوجه للشيخ جان كي يستفسر عن قصة الجبل العالي وما ان وطأت قدما لوثر عتبات الكوخ الخشبي حتّى فتح الشيخُ جان الباب.
جان: مساء الخير يا ولدي لقد سمعت وقع قدميك على خشبة داري ..تفضل.
لوثر: مساء الخير ايها الشيخ كيف انت؟
جان: انا متعب وجالس اقرا الجريدة..افلا تتفضل إلى الكوخ؟
لوثر: شكرا لك شيخ جان
دخل لوثر كوخ العجوز جان وبدأ يبحث عن مكان يجلس فيه متخذا من زاوية الشباك منظرا يطل من خلاله على الجبل العالي. حيث اخذ بالتمعن في الجبل.
جان: ما الذي جعلك تأتي لزيارتي؟
لوثر: الفضول يا شيخي الفاضل.. الفضول..
سكت جان لبرهة وقد ادرك فضول الصبي لوثر فأردف قائلا:
جان: إن كنت تريد مني أن اقص عليك قصة الجبل العالي فأني اعتذر واطلب منك مغادرة الكوخ.
لوثر: ولكن يا شيخنا لماذا كل هذا السكوت .. اليس من حقنا نحن الصغار ان نعلم ما يجري وما يدور في المدينة؟ لماذا كل هذا التكتم؟
جان: اطلب منك أن لا تقحمْ نفسك فيما لا يعنيك يا ولدي لانهم اقوى منا جميعا.
لوثر: لا يقوى علينا احد سوى الرب الاعلى يا شيخنا وان توحدنا جميعا سنكون قوة تتحداهم، لِمَ كل هذا الخوف إذا؟
جان: اسكت اسكت يا بُنيْ..لا تتفوه بكلام اكبر منك ومن عقلك وحجمك. أنت لا تعرف شيئا.
نهض لوثر من كرسيه متجها نحو الشباك وعيناه تحدقان صوب الجبل العالي.
جان: اعمل منذ 50 عاما في منظومة التلفريك وكنت احد سكان الجبل العالي الاصليين. كانوا طيبي المعشر والاخلاق والسمعة الحسنة. وكانوا يزرعون على سفوح الجبال ما يستطيعون زراعته لبيعه في المدينة كما يتبادولون البضاعة مع اهل المدينة. كنا نعيش بسلام يا بني حتى جاء هؤلاء. وانا اليوم اخدمهم ولا يعطوني سوى ما يتبقى من طعام وملابس مستعملة. دعني ساكتا يا بني لاني بلغت من الكبر عتيا وقد وهن العظم مني ولا استطيع ان اعيش مدة اطول. اريد ان ارحل بصمتي وقهري وحزني على كل من رحل عني من اهلي بعد ان تم حرق مزارعهم وبيوتهم وقتلوا جميعا وتم رمي جثثهم من اعالي الجبل. بالرغم من صلابة وشموخ هذا الجبل لكنه لم يستطع ان يجعلني مستسلما. وها انا في واجهتهم جميعا اذكرهم منذ 50 عاما بأني اخر مواطن من مواطني الجبل العالي واني لازلت على قيد الحياة وقد نجوت من جبروتهم بقدرة قادر. بامكاني ان اصل إليهم لكنهم هم من يملك مفاتيح تشغيل منظومة التلفريك وبامكاني ان اقطع اسلاك التلفريك كلها لكني اؤمن بأن الانسان خلق كي يعيش وكي يتعايش حتى لو كان جيرانه من المقرفين لما تحمله هذه البيئة الجبلية الشرسة احيانا من مخاطر طبيعية. هذا ما تعلمناه من اهلنا يا بني.
نهض لوثر من مكانه آخذا بيد العجوز جان ومقبلا إياها قائلا:
لوثر: طاب مساؤك ايها الطيب وشكرا لضيافتك.
جان: اتمنى لك الموفقية يا بني.
خرج لوثر من الكوخ متوجها إلى البيت والظلام اصبح دامسا فقرر ان يجلس على ضفاف النهر متمعتا باضوية القرية المشعة من اعالي الجبل. وبعد ان حل الفجر قفل لوثر عائدا إلى البيت حيث وجد والده ينتظر قدومه وهو يبدو في حالة يرثى لها. تقرب لوثر من الده فساله:
لوثر: والدي؟ ما بك؟
فيديل: لقد رحلت والدتك يا بني..رحلت وكانت تتمنى ان تكون إلى جوارها.
ركض لوثر إلى داخل المنزل مناديا بأعلى صوته :
لوثر: أمي…أمي اين انتِ؟
لم يجبه سوى اخيه يوهان باكيا: لقد رحلت أمنا يا لوثر وطلبت منا ان نبحث عنك وقد فعلنا ولم نجدك. أين كنت؟ ولماذا تأخرت؟ وماذا حدث لك؟ انا لا أملك القوة لتأنيبك لان علي الان ان اذهب إلى المشفى ثم إلى الكنيسة للاستعداد لمراسيم التشييع. لقد كتبت الوالدة لنا وصية واودعتها في صندوق زواجها في الخزانة. بعد التشييع سنجلس جميعا لنقرأ الوصية. هل سمعت؟
لوثر: نعم اخي سمعت.
يوهان: هيا اخلد انت للنوم وانا ساقوم مع والدي بواجبنا.
لوثر: ساذهب معكم.
يوهان: كلا، عليك بالراحة.
خرج يوهان ليأخذ والده إلى السيارة متوجهين إلى مشفى المدينة.
في صباح اليوم التالي وبعد الاستحمام بالماء الساخن والصلاة على روح والدته توجه إلى خزانته لارتداء بدلته التي كانت والدته دائما تذكره بها كلما يتوجه إلى الكنيسة قائلة له:
“الكنسية هي بيت من بيوت الله يا بني لذا عليك ان تدخلها طاهرا وان تتعمّدَ بالماء المقدس كلما دخلت وان تركع لسيدنا عيسى عليه السلام”.
أجهشَ لوثر بالبكاء صارخا : سمعا يا امي سمعا..
توجه لوثر إلى المطبخ حيث اخته الصغيرة جودي التي اعدت له الافطار فقبلها على جبينها ثم ناولته الجريدة قائلة:
جودي: لقد انزل ابي بالامس نعيا كبيرا في جريدة المدينة وقد اشتريتها كي احتفظ بها طوال عمري. هاك اقرأ ما كتب ابي عن والدتي المرحومة.
اخذ لوثر يتصفح الجريدة وإذا به يكتشف الخبر : “إحتفالات كبيرة تعم قرية الجبل العالي بعد انتخاب مواطن الجبل العالي السيد “كاسبر” محافظا جديدا على المدينة في ليلة الامس”. هل كان هذا الخبر سبب موت والدة لوثر؟ هل كانت تدري بان المحافظ الجديد كاسبر سوف يقدم مفاتيح المدينة إلى سكان الجبل العالي؟ يا ترى ماذا سيكون مصير اهالي المدينة؟
نادت جودي لوثر لاصطحابها إلى الكنيسة حيث بدأت أصوات اجراس الكنيسة تعلو في كل ارجاء المدينة.
دخلت جودي ولوثر الكنيسة ووجدا والدهما فيديل واخاهما الاكبر يوهان والشيخ العجوز جان وجمعاً من الاصدقاء والمقربين وزبائن محلهم محتشدين في الكنيسة ينتظرون مجئ القس وفرقة الانشاد الكنائسي. دخل القس مستعجلا متصنعا الحزن على وجهه لكن الكل ادرك بان القس ينتابه شعور بالفرحة. ألقى القس كلمته على الحضور ثم اعتذر وترك الكنيسة قائلا:
“اعذروني اولادي انا مدعو اليوم لحفل إفتتاح مجلس المحافظة الجديد في الجبل العالي وتبريك هذه المناسبة السعيدة. فلا املك الوقت الكافي لاكمال مراسيم عزائكم. تقبل الله لكم المغفرة وخير الاعمال”.
دُهش المجتمعون داخل الكنيسة وتعالت الاصوات المناوئة للمحافظ الجديد الذي لم ينتخبه احد من المدينة وقد اتضح بانه قد سرق اصوات الناخبين واعتلى مقعد المحافظة بالرشوى والطمطمة. وكان هذا حديث الناقدين داخل الكنسية. نظر لوثر إلى وجه العجوز جان الذي تمسك بالصمت وعلامات الاحمرار كانت واضحة على وجنتيه. تبادل العجوز جان نظراته الساخطة بحزن عميق ثم التفت نحو الباب خارجا من الكنيسة بلا ردة فعل او كلمة.
إنقض والد لوثر على القس قائلا له:
فيديل: انت الذي تسمي نفسك قسا وابا علينا ما انت إلا واحد منهم. واني اتحداك ان تقول لي عكس ذلك فقلمي هو سلاحي وجريدتي ستفضح جل اعمالكم.
اجابه القس:
“يا بني جريدتك تم إقفالها بالامس ومن هذا اليوم لا يوجد في المدينة اي جريدة وقلمك سيؤخذ منك ايضا. وعندما تكون مالكا لارض كبرى وللمال وتفي بحق الكنيسة فإننا جميعا سنكون معك ومع قلمك الناقم. اتركني فما انت فاعل يا بني؟ انا قس كنيسة ولست رجل اعمال وما اقوم به هو واجبي الديني”.
اجابه فيديل:
“وهل يقتضي واجبك الديني ان تبيع حق اهلك وحق دينك لصالح مجرمين وقتلة بحجة نفوذهم واموالهم؟ هل هذه هي رسالة ابن الرب عيسى الينا؟”
اجابه القس:
“لا املك الوقت للمشاجرة اتركوا بيت الله فانه ليس المكان المناسب لهكذا حوارات. اتركوه فورا..اتركوه جميعكم. هيا علي بإحكام الباب كي ابرح للجبل العالي فهذه هي اول مرة في كل حياتي ان استقل التلفريك وأرى الجبل العالي”.
اجابه فيديل:
“ابونا، القوة التي ستجلبك إلى الاعالي وبهذه السرعة هي ذات القوة التي ستنزلك من أعالي الجبال وبذات السرعة”
ترك فيديل واولاده الكنيسة وتوجهوا جميعا مع الاصدقاء لتشييع جثمان الوالدة ماري بينما تعلو اصوات الموسيقى والهرج من اعالي الجبل.
عاد فيديل والاولاد إلى البيت وهم يفكرون بما جرى وحل بهم وبما قاله القس لهم في الكنيسة فأستدعاهم الوالد إلى مائدة الطعام وقد اعد لهم فقط الحساء الساخن. عم الصمت اجواء المائدة والمطبخ وبعد الصلاة على روح الوالدة المرحومة واحتساء الشوربة الساخنة انصرف فيديل إلى غرفته ليحضر صندوق العرس الخشبي الذي كان ايضا من هدايا والده كوستو لماري. تقدم فيديل إلى المطبخ حاملا الصندوق الخشبي الصغير ووضعه على الطاولة قائلا:
فيديل: “هذا صندوق زواجي من ماري. حبيبتي التي قدمتُ كل غالٍ ونفيسٍ في حياتي من اجل ان تقبلني زوجاً لها. وعدتها أمام الله واهلها وكل من يعرفني بالوفاء لها طالما كنت حيا وأني اعدكم بأني لن اتزوج بعدها وساكون خادما وأبا ومعلما وسندا لكم يا ابنائي فأنتم اجمل ما أهدت لي حبيبتي وغاليتي ماري. وإني كلما اراكم ارى روحها الجميلة فيكم وتربيتها في اخلاقكم. فكل الناس تحبكم وتحترمكم وهذا ما ارجوه منكم ان تستمروا عليه. أما الان فأني سأقرا عليكم وصية والدتكم ماري واتمنى أن تستمعوا جيدا لما توصيكم به وأن تتماسكوا انفسكم وخاصة انتِ يا حبيبتي جودي لا تبكِ ارجوك انا معك. اسمعوا:
“أولادي الاحباء، فلذات كبدي وكل روحي
اكتب لكم وصيتي هذه واني اتنفس انفاسي الاخيرة ولم اعد اقوى على الحياة. لقد كانت جميلة حياتي مع فيديل وانتم بوجودكم اسعدتموني وكنتم لي خير الابناء وخير العون فأني اشكركم وأني اسامحكم على كل افعالكم. حبيبي يوهان: مخبزك هو مصدر رزقك وعليك الحفاظ عليه وقد وضعت لك هدية بسيطة في درج الوثائق اتمنى ان تعجبك وان تحافظ عليها وان تورثها لابنائك. انصحك بالزواج فأنه بركة ويجلب لك السعادة مع زوجة طيبة حنونة ووفية. جودي حبيبتي: أنت مجتهدة واتمنى ان تكوني عونا لوالدك واحرصي على ما علمتك اياه من اعمال في البيت وفي المطبخ والحديقة وان تستمري في اجتهادك وأن تختاري الرجل الصالح فإن بحثتِ عن مواصفاته فهي كلها مجتمعة في روح والدك. تعلمي منه كيف يعامل النساء كالامير الذي يفتح لاميرة حياته كل ابواب السعادة .. اتمنى ان تجدي هكذا امير لحياتك انت. وانت يا ولدي العزيز الغالي لوثر، أنا واثقة بانك ستكون افضل عدّاء في كل ارجاء المعمورة وان تحظى بحب الناس لانك طموح وعصامي وتتحدى كل مصاعب الحياة. اهتم بدراستك الجامعية وقُدْ افضل عمل رياضي لمدينتك. ربما يأتي يومٌ ترى لك فيه نُصبا تذكاريا يتوسط قلب المدينة. اتمنى ذلك. كما أني اوصيك بأن لا تتخلى عن الله وعن صلاتك والكنيسة وان ترتدي بدلتك بعد الاستحمام وتتوجه كل يوم احد إليها وأن لا تنسى أنْ تضع وردة بيضاء على قبري كما كنت تعطيني اياها كل يوم احد بعد ان تقطفها من حديقتنا.
لكم احبائي مبلغ من المال يوزعه والدكم عليكم بالتساوي وقد احتفظت بهذا المال كي البي كل رغباتكم وعلى رأسها دراساتكم الجامعية. اريدكم ان تعملوا باخلاص وبنزاهة وايمان نقي كما ربيتكم وأن تحافظوا على هذا المال من اجل اكمال دراساتكم.
وفقكم الله يا اولادي وكم أنا راضية عنكم ومطمئنة.
امكم ماري”

مسك الوالد فيديل بايدي ابنائه وقال لهم: “لنمسك بأيدي بعضنا مع بعض ونتعهد جميعا بان نكون قوة واحدة بقرار واحد وبهدف واحد وأن لا نترك بعضنا البعض مهما كانت الظروف والاسباب وأن نعيش جميعا جنبا إلى جنب حتى يفصلنا المصير.. آمين ”
ردد الاولاد: “آمين”.
ثم قام الوالد بإعطاء كل من الاولاد قسطه من المال حسب الوصية وانصرف كل منهم مهموما مكسورا حزينا إلى غرفته. بقى الوالد يتأمل زوايا المطبخ ويتذكر شبابه وحياته ثم توجه إلى الشرفة الكبيرة التي يطل عليها المطبخ لاستنشاق الهواء الجبلي النقي.
مضت الايام واستلم محافظ المدينة زمام الامور وبدأ حكمه يطغى على اهالي المدينة. أمر بغلق محل يوهان بعد أن شكا الاخير من زيادة اسعار الحنطة والشعير. قفل الجريدة الحرة بعد أن كانت لسان الاهالي والمرآة التي تكشف كل فضيحة وسر وتتحرى عن كل خبر يخص مستقبل المدينة وسلامة اهلها. أما العجوز جان فقد وافته المنية ومات وحيدا في كوخه الصغير بعد ان استسلم لهذه المهزلة الانتخابية وقرر الالتحاق بأهله المغدورين.
قررالوالد فيديل وابنه يوهان ان يعيشا مما تركه لهما الجد كوستو من ورشة لصناعة الاخشاب وعملا في صناعة الاسرّة والخزائن والمناضد وهما يتجولان من مدينة إلى اخرى ومن قرية إلى قرية لكسب قوتهما اليومي. أما لوثر فقد قرر بعد الثانوية ان يتعلم مهنة نشارة الاخشاب ويساعد اخاه ووالده في الرسم والنقش على الاخشاب. أما جودي فقد تزوجت بعد ان بلغت سن ال20 عاما من جارهم “ماركوس” الشاب المهندس وقررا ان يبنيا لهما بيتا بجوار بيت اهلها كي لا تبتعد عن اخوتها ووالدها.
أشتد جبروت المحافظ وانزل قوانين صارمة على الفلاحين في المدينة والقرى وجهز لسياساته هذه فرق أمن خاصة به من سكان الجبل العالي الذين لا يفقهون اي شي من حرف واعمال ولا يتحدثون لغة اهل المدينة. فعاثوا في المدينة فسادا وإفسادا وقمعوا كل صوت ينتقد سياسة المحافظ وكال لفيديل النصيب الاكبر من العقاب كونه صحفياً ورجلاً لا يقبل بفعل الخطأ. تم سجنه في زنزانة انفرادية لخمس سنوات وقد قام فيديل بكتابة وصيته على حائط الزنزانة “يارب اطلب منك ان ترعى اولادي وان تحفظهم من شر المحافظ الجبار وان تجعل هذا الجبل العالي مقبرة لكل الطغاة والجبابرة. ايها الرب إني اسالك المغفرة واسالك الحق والعدالة.”
نمت المدينة بفضل سرقات وفساد المحافظ والتزم كل اهاليها الصمت بالرغم من انهم يدركون ما يجري ويحدث حتى يوهان ولوثر وجودي التزموا الصمت خوفا على حياة والدهم السجين. وبدا حال اهالي المدينة يسوء يوما بعد يوم. لقد قطع عليهم المحافظ الحقوق واعطاها لسكان الجبل العالي. وزود اهالي الجبل العالي بهويات خاصة تسمح لهم الدخول إلى كل الاماكن الترفيهية الخاصة والاسواق العامة. أصبحت هذه الاسواق كلها في المدينة ممنوعة على اهاليها لان احدا يملك هذه الهويات الخاصة. توقفت ورشة نجارة يوهان ولوثر وابتدا وضعهم المالي يسوء تدريجاً. اضطر الكثير من اهالي المدينة بيع بيوتهم واملاكهم والرحيل عن المدينة التي اصبحت لا تليق بعيش رغيد. لكن يوهان ولوثر وجودي قرروا البقاء إلى جوار والدهم.
ذاتَ يومٍ طرق احد رجال امن الجبل العالي الباب على بيت يوهان ولوثر. فتح يوهان الباب وإذا به يُصعق صعقة شديدة: رجال الامن تحمل تابوت والدهم فيديل. طلب رجال الامن منهما اخذ الجثة والتمسك بالهدوء والصمت وعدم اثارة النعرات وإلا سيكون مصيرهم كمصير والدهم.
سأل يوهان ضابط الامن: لماذا مات والدي؟ ما هو سبب وفاته؟
اجابه الضابط: والدك خائن وقد قررنا اعدامه لانه شتم المحافظ والجبل العالي.
سال يوهان: ومن اين لكم الحق بقتل والدي؟ من انتم؟ ومن تكونون كي تقرروا انهاء حياة انسان يحمل على اكتافه هموم عائلة باسرها؟
ضرب الضابط يوهان ضربة قوية على وجهه قائلا: اخرس ايها الحشرة نحن اسيادك وعليك اطاعتنا وإلا سننفيك عن الحياة.
اجاب يوهان: لقد أهدى الله لي الحياة ولن ياخذها مني احد سواه. وها انا امامكم خذوها فأني العنكم كما لعنكم والدي.
انصرف رجال الامن دون الاجابة على يوهان تاركين جثمان والدهم وقد تخللت الطلقات كل جسمه النحيف.
شرع يوهان ولوثر بكل صمت تشييع جثمان والدهما إلى الكنيسة ثم المقبرة حيث ترقد ماري فدفناه إلى جوارها وعادا بكل صمت كي لا تنتبه اختهم جودي.
مرّت السنوات واشتد وضع الابناء سوءاً حيث البؤس تغلب على طاقاتهم ونشاطاتهم لكنهم لم يشرعوا ابدا بأي عمل لا يرضي والدتهما. وقد تذكرا بانها قد اوصت لهم بمبلغ من المال لذا قررا ان ينفق كل منهما ما يحتاجه للحياة ويدّخر القسط الباقي. كانت جودي تساعدهم في اعداد الطعام كلما ضاقت بهم الظروف المعيشية. وكانت جودي تزرع البطاطا والخس والخيار في حديقتها بعد ان تم منع اهالي المدينة من دخول مركزها ومكان التبضع والتسوق فيها. في يوم من الايام وكانت جودي تعمل في تنظيف الحديقة وإذا بها تشمُّ رائحة كبريتية تشتدد كلما تتقدم بخطواتها نحو باب الحديقة. صرخت جودي مستدعية اخويها.
ركض الاولاد صوب جودي المذعورة وقد تلمسوا جميعا اجواء خانقة في الهواء. ادرك لوثر وتذكر الحديث الذي دار بين والديه في ذلك اليوم في المطبخ عندما قام والده بتهدئة زوجته ذاكرا المعلومات الجيولوجية غير المؤكدة عن حدوث كارثة ما.
صاح لوثر: يوهان انه الجبل، الجبل، لقد حان الوقت فأحضر السيارة لا نملك من الوقت الكافي لاعداد حقائبنا. خذوا معكم ما تستطيعون اخذه..علينا بالرحيل من هنا فورا
اجابه يوهان: ماذا جرى؟ لماذا نرحل؟ انظر انهم في الجبل العالي يرقصون مرحا والاغاني تغمر سفوح الجبل كلها؟
اجاب لوثر:هذا وكر وتمويه يا اخي. الجبل هذا بركاني سينفجر البركان في اي لحظة. ما أنْ انتهى لوثر من حديثه وإذا بهم يسمعون دوي انفجار هائل يهز المدينة والبيوت والاحجار والجثث تتطاير هنا وهناك والحرائق تندلع في كل مكان. اخذ يوهان ولوثر وجودي السيارة مسرعين نحو العاصمة تاركين وراءهم غضب السماء على الجبابرة في الجبل العالي وهم ينظرون من نافذة السيارة كيف يتحول سفح جبل عامرٍ باحدث البيوت والحدائق الخلابة إلى حمم بركانية هائلة قضت على كل الحياة خلال ثوانٍ. تأمل لوثر في المنظر المرعب قائلا: هذه لعنة والدي ولعنة امي ولعنة العجوز جان الصامت ولعنة المغدورين من اهالي سكان الجبل العالي الاصليين. لقد كتب لنا الله الحياة ولهؤلاء الجبابرة والطغاة جهنم وبئس المصير لانهم تحدوا قوة الطبيعة وطغوا على الناس وحقهم في العيش ففي ذلك تحدٍ لخالقنا هو من وهب لنا الحياة من اجل ان نعيش ونتكاثر ونكون مجتمعات وشعوباً لا من اجل ان يقتلَ القويُّ الضعيفَ وان يتحكمَ صاحبُ المال في حياة الناس.الاموال لا تحكم العالم بل تفسد النفوس. إني اسال عن مصير القس الذي التحق بالجبل العالي بعد ان اشترى المحافظ ذمّته فما كان عقابهما إلا غضب البركان..كم هو عظيم هذا الخالق..والحمد لله على كل حال..